إذا قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» في أحد الرواة: (صدوق يهم» أو «صدوق يخطئ» فهل نحتج بروايته، أم نتوقف فيها، حتى نرى لها متابعاً؟
معلوم أن الحافظ يرحمه الله يُلخِّص في «تقريبه» أقوال أئمة الجرح والتعديل التي يذكرها في كتابه: «تهذيب التهذيب».
والأصل في أحكام الحافظ في «التقريب» أنَّه متبع لا لاصطلاح أهل العلم في وضع كل لفظة في مرتبتها التي تليق بها.
وقد نظرت في أقوال الحافظ وصنيعه، فرأيت أن قوله: «صدوق يهم أو يخطئ»، وما في معنى ذلك، يكون في الرواة الذين لا يُحتج بهم بمفردهم.
فإذا سلمنا للحافظ حكمه على الراوي، فالراوي ممن لا يحتج به، لكن إذا نازعنا الحافظ في حكمه على الراوي، وظهر لنا أنَّه قد تسامح مع الراوي، أو أنَّه قد بخس الراوي حقه، فهذا أمر آخر.
ومن الأدلة على ما قررته هنا ما يلي:
أولاً: أن الحافظ – يرحمه الله – قسم مراتب الرواة إلى اثنتي عشرة مرتبة: أولها الصحابة – رضي الله عنهم -.
والثانية: من أُكّد مدحه بأفعل: كأوثق الناس أو بتكرير الصفة لفظاً: كثقة ثقة، أو معنى: كثقة حافظ، وهؤلاء هم أهل الدرجة العليا في الحديث الصحيح.
الثالثة:منأفراد بصفة كثقة… وهؤلاء هم أهل الدرجة الدنيا في الحديث الصحيح.
الرابعة: من قصر عن درجة الثالثة قليلاً، وإليه الإشارة بصدوق، أو لا بأس به… وهؤلاء هم أهل الحديث الحسن.
الخامسة: من قصر عن الرابعة قليلاً، وإليه الإشارة بصدوق سيء الحفظ، أو صدوق يهم، أو له أوهام، أو يخطئ، أو تغير بآخره، قال: ويلتحق بذلك من رمي بنوع من البدعة، كالتشيع والقدر والنصب والإرجاء والتجهم، مع بيان الداعيةمنغيره، ثم ذكر السادسة وما بعدها حتى نهاية المراتب.
فتأمل تقسيمة لمرتبة الصحيح إلى مرتبتين، وهما الثانية والثالثة، ولم يقل في الثالثة: «من قصر عن الثانية قليلاً»، كما قال في الرابعة: «من قصر عن الثالثة قليلاً» ولا يقصر عن درجة الصحيح إلا الحسن لذاته، والحافظ يرحمه الله ممن يقول بالحسن لذاته والحسن لغيره، وبعد ما ذكر مرتبة الحسن لذاته، وهي الرابعة، قال: الخامسة،منقصر عن الرابعة قليلاً، ولا يقصر الراوي عن مرتبة الحسن لذاته، ومع ذلك يبقى حديثه من قسم الحسن لذاته محتجاً به.
فتأمل قوله: «من قصر عن…» في المرتبة الرابعة والخامسة، تعلم صحة ما قررته.
ثانياً: وتأمل – أيضاً – جميع الألفاظ التي عدها الحافظ ابن حجر في المرتبة الخامسة، وهي: «صدوق سيء الحفظ، أو صدوق يهم، أو له أوهام، أو يخطئ، أو تغير بآخره» فأقول لمن يحتج بمن قال فيه الحافظ: «صدوق بهم أو يخطئ»: الحافظ جعل جميع الألفاظ السابقة، ألفاظَ المرتبة الخامسة، فهل أنت تحتج بمن قال فيه الحافظ: «صدوق سيء الحفظ أو تغير بأخرة»؟ كما تحتج بمن قال فيه: «صدوق يهم»؟ فإن قال: نعم، خالف السابق واللاحق، وإن قال: لا، قلت: بأي شيء فرقت بين ألفاظ المرتبة الواحدة؟ فجعلت بعضها لا يُحتج بأهلها، والبعض الآخر يحتج به؟ فصنيعك هذا معناه: أن الحافظ قد جمع بين ألفاظ الاحتجاج وألفاظ الشواهد في مرتبة واحدة، وأن هذه المرتبة تقسم مرتبتين، وهذا كله تعقب على الحافظ في صنيعه، ومع ذلك فأنت تدعى أنّ قولك موافق لقصد الحافظ وصنيعه!!
ثالثاً: قد صرح الحافظ بأن أهل المرتبة الخامسة في «التقريب»منأهل الشواهد لا الاحتجاج عن البخاري يرحمه الله، فقال في «هدي الساري» (ص:384) الفصل التاسع: في سياق أسماء من طُعِنَ فيهمنرجال هذا الكتاب… فقال: وأما الغلط: فتارة يكثر من الراوي، وتارة يقل، فحيث يُوصف بكونه كثير الغلط، يُنظر فيما أخرج – يعني: البخاري – له، إن وُجد مروياً عنده أو عند غيرهمنرواية غير هذا الموصوف بالغلط، عُلِم أن المُعْتَمَد أصلُ الحديث، لا خصوص هذه الطريق، وإن لم يوجد إلامنطريقه، فهذا قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا سبيله، وليس في «الصحيح» بحمد الله من ذلك شيء، وحيث يُوصف بقلة الغلط، كما يقال: «سيء الحفظ»، أو «له أوهام»، أو (له مناكير»، وغير ذلك من العبارات، فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله، إلا أن الرواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند المصنفمنالرواية عن أولئك…، اهـ.
فتأمل حكمه على من كان كثير الغلط، وأنَّه لا يُحتج بما تفرد به، ثم تأمل قوله في قليلي الغلط – وهم المقصودون عنهم في هذا السؤال – حيث قال: «فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله» أي أنَّه لا يُحتج بما تفردوا به، لا عند البخاري، ولا عند الحافظ نفسه، والله أعلم.
رابعاً: وفي «هدي الساري» (ص:391) الفصل التاسع، ترجمة إسماعيل بن عبدالله بن عبدالله بن أ,يس، قال الحافظ: قلت: وروينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج له أصوله، وأذن له أن ينتقي منها، وأن يُعلْم له على ما يحدث به، ليحدث به، ويعرض عما سواه، وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه هو من صحيح حديثه، لأنه كتب من أصوله، وعلى هذا لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في «الصحيح»، من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره، إلا إن شاركه فيه غيره، فيعتبر فيه، اهـ.
ومعلوم أن قولهم: «صدوق يخطئ» أكثر ضعفاًمنقولهم: «صدوق أخطأ في أحاديث» لما هو معلوممنأن صيغة المضارعة تقتضي التكثير، ومع ذلك فلم يحتج بمن قال فيه اللفظَ الأدنى، فكيف بمن قال فيه اللفظ الأعلى في الجرح؟!.
خامساً: وفي «التقريب» ترجمة هشام بن سعد المدني أبي عباد، قال الحافظ: «صدوق له أوهام»، ومع ذلك فقد ذكره في «الفتح» (1/241) ك/ الوضوء ب/ غسيل الوجه باليدين تحت الحديث رقم (140) فقال: وهشام بن سعد لا يحتج بما تفرد به، فكيف إذا خالف، اهـ.
سادساً: سبق أن الحافظ تابع للعلماء في اصطلاحهم، وقد أكثر الساجيمنقوله: «صدوق يهم»، فيمن لا يحتج به، مثال ذلك قوله في صالح بن أبي الأخضر، كما في «تهذيب التهذيب» (4/381) ترجمة صالح.
وكذلك فقد قال الإمام أحمد في عمرو بن شعيب: له أشياء مناكير، إنّما نكتب حديثه نعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا، اهـ من «النبلاء» (5/166-167) و«تهذيب التهذيب» (8/149) ترجمة عمرو.
سابعاً: سأذكر عدة تراجم حكم عليها الحافظ بقوله: «صدوق يهم» أو «صدوق يخطئ» أو «صدوق له أوهام» أو «صدوق له مناكير أو أغلاط» ونحو ذلك، وأريد من المخالف أن يرجع إليها في «تهذيب التهذيب»، فسينظر أن أقوال الأئمة فيها واضحة بالجرح، وأنه لا يُحتج بأهل هذه التراجم، لظهور الجرح في حفظ أهلها، مع أنني لم أقصد استيعاب هذا الصنف.
وهذه أسماؤهم:
1 – إبراهيم بن عيينة بن أبي عمران الهلالي.
2 – إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي.
3 – أسامة بن زيد الليثي.
4 – إسماعيل بن عبدالله بن عبدالله بن أويس – مع ما سبقمنتصريح الحافظ نفسه -.
5 – إسماعيل بن محمد بن جُحادة.
6 – أشعث بن عبدالرحمن بن زبيد اليامي.
7 – أشهل بن حاتم الجمحي.
8 – أيوب بن سويد الرملي.
9 – بكار بن عبدالعزيز بن أبي بكرة الثقفي.
10 – بكرة بن خنيس الكوفي العابد.
11 – الجراح بن مليح الرؤاسي والد وكيع.
12 – جعفر بن بُرقان في حديثه عن الزهري.
13 – جعفر بن ميمون الأنماطي.
14 – جُميْع بن عمير التميمي الكوفي.
15 – جُنادة بن سلم بن خالد السوائي.
16 – الحارث بن عبيد أبو قدامة الإيادي.
17 – الحارث بن منصور أبو منصور الواسطي.
18 – حبة بن جُوين بن علي العُرني البجلي.
19 – حبيب بن أبي حبيب يزيد الجرمي.
20 – حُديج بن معاوية بن حُديج أخو زهير.
21 – الحسن بن ذكوان أبو سلمة البصري.
22 – الحسين بن الحسن الأشقر الفزاري.
23 – الحكم بن عطية العيشي.
24 – حنش بن المعتمر، ويقال ابن ربيعة الكناني.
25 – رباح بن أبي معروف بن أبي سارة المكي.
26 – ربيعة بن سيف بن ماتع المعافري.
27 – زكريا بن يحيى بن عمر بن حصن الطائي، قال فيه: صدوق له أوهام، ليّنه بسببها الدارقطني.
28 – زياد بن الحسن بن الفرات القزاز.
29 – زيد بن الحباب في حديثه عن الثوري.
30 – سعيد بن داود بن سعيد بن أبي زنبر الزنبري.
31 – سعيد بن سفيان الجحدري.
32 – سهل بن تمام بن بزيع الطّفاوي السعدي.
33 – سويد بن إبراهيم الجحدري الحناط، قال فيه: صدوق سيء الحفظ له أغلاط، اهـ.
34 – سلامة بن روح بن خالد الأيلي.
35 – سيار بن حاتم العنزي.
36 – شبيب بن شيبة بن عبدالله التميمي المنقري.
37 – صدقة بن موسى الدقيقي.
38 – ضِرار بن ضُرَد التيمي أبو نعيم الطحان.
39 – طالب بن حبيب بن عمرو بن سهل الأنصاري.
40 – عاصم بن بهدلة أبي النجود الأسدي مولاهم.
41 – عاصم بن عبدالعزيز بن عاصم الأشجعي.
42 – عباد بن ليث الكرابيسي القيسي.
43 – عبدالله بن الحسين الأزدي أبو حريز.
44 – عبدالله بن دكين الكوفي.
45 – عبدالله بن عياش بن عباس القِتْباني.
46 – عبدالله بن مسلم السلمي أبو طيْبة.
47 – عبدالأعلى بن عامر الثعلبي.
48 – عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار العدوي.
49 – محمد بن سليمان بن عبدالله الأصبهاني أبو علي.
50 – هشام بن سعد المدني أبو عباد، مع ما قد سبق عنه في «الفتح» (1/241).
فهذه خمسون ترجمة؛ الجرح فيها ظاهر، ومع ذلك ترجمها الحافظ بأحد ألفاظ المرتبة الخامسة، فهل يستطيع المخالف أن يأتي بمثلها أو بنحوهامنتراجم «التقريب» ويكون التعديل فيها ظاهراً، وليس هناك تأويل سائغ للحافظ في تليينها، من أجل أن نسلَّم له ما يقول؟
فإن قيل: إن بعض الحفاظ قد يحتج ببعض من قال فيهم الحافظ: صدوق يهم، أو نحو هذا القول، بل الحافظ ابن حجر نفسه قد يفعل ذلك.
فالجواب: أن هذا ليس بظاهر في الدلالة على الاحتجاج مطلقاً بأهل المرتبة الخامسة من «التقريب»، لاحتمال أن الاحتجاج ببعضهم لقرائن تقوى من أمره، أو لأنَّ الحافظ من الحفاظ لا يرى في الراوي ما يراه ابن حجر، أو لأنَّ ابن حجر نفسه ما استحضر جميع نصوص الأئمة في الراوي، أو رأى في حديث بعينه شيئاً ليس مطرداً في بقية أحاديث الراوي، وهذا راجع للقرائن المذكورة آنفاً، ولو سلمنا بنفي هذه الاحتمالات، فالأدلة السابقة أظهر في الدلالة من مجرد تقوية بعض العلماء لبعض أهل المرتبة الخامسة من «التقريب»، وأيضاً فهل اطرد صنيع عالم فضلاً عن العلماء لبعض أهل المرتبة الخامسة من «التقريب»، وأيضاً فهل اطرد صنيع عالم فضلاً عن العلماء على الاحتجاج بهؤلاء البعض، أ/ ورد عنه الاحتجاج والاستشهاد؟ الراجح الثاني، كما في غير ترجمة – وقفتُ عليها – مما يستدل بها المخالفون على قولهم، والله أعلم.
(تنبيه):
سبق في السؤال (13) الكلام على هذه المسألة بشيء من الاختصار، وما ههنا أبسط وأوسع، والله أعلم.