كيف يعرف أهل العلم أن رواية فلان عن شيخه المختلط أو الذي تغير: مستقيمة أو غير مستقيمة؟
سبق بعض ذلك في السؤال رقم (10) وهذا مقام تفصيل ذلك، فأقول:
الراوي الثقة إذا اختلط فلا تطمئن النفس إلى قبول حديثه بعد الاختلاط، لأننا لو قبلنا حديثه في هذا الحال، فقد قبلناه مع الشك في ضبطه لحديثه، ويشترط في الحديث الذي يعمل به ضبط راويه.
وهناك عدة طرق يعرف بها أهل العلم استقامة حديث التلميذ عن شيخه الموصوف بالاختلاط أو التغير فمن ذلك:
1 – تصريح أهل العلم السابقين بذلك، كأن يقول أحدهم: فلان المختلط روى عنه فلان وفلان وفلان قبل اختلاطه، وروى عنه فلان وفلان وفلان بعد اختلاطه، وهذه الطريقة هي أكثر ما يُعرف به حال رواية التلاميذ عن مشايخهم المختلطين، وقد أُلِّفت في ذلك كتب ورسائل، وبنحو ذلك تصريح التلميذ نفسه بذلك.
2 – وأيضاً يُعرف ذلكِ بالنظر في تاريخ اختلاط الشيخ، وتاريخ وفاة التلميذ، فإذا كان التلميذ قد مات قبل اختلاط شيخه، فهذا يدل على أن أخذه عن شيخه كان في زمن استقامته، لكن قد يقع اختلاف بين العلماء في تحديد سنة اختلاط الشيخ، فالأحوط في ذلك أن نأخذ بقول من ادعى تقدم الاختلاط، مثال ذلك سعيد بن أبي عروبة: فقد اختلف في سنة اختلاطه على أقوال كثيرة، منها أنَّه اختلط سنة (143) وقيل: (145) وقيل (148) وهناك أقوال أُخرى، فإذا وجدنا في تلامذته من مات قبل سنة (143) فروايته عنه مستقيمة، فإن قيل: لماذا نبني على الأقل ولانبني على الأكثر؟
فالجواب من وجوه:
أ – أن هذا هو الأحوط للرواية، لأنَّ الأصل في صحة الرواية السلامة من العلة، فإذا عملنا بقول الأكثر، فقد عملنا بالرواية مع الشك.
ب – أن المثبت مقدم على النافي، فمن أثبت الاختلاط سنة (143) مقدم على من ادعى السلامة حتى سنة (145) أو (148).
ج – أن المختلطين في الغالب يبدأ اختلاطهم خفيفاً، ثم يفحش بعد ذلك نسأل الله العافية (فيحتمل أن من نفى الاختلاط سنة (143) إنَّما نفاه أو لم يعرفه لعدم ظهوره وفحشه بخلاف من أثبته، وهذا الوجه بيان للوجه السابق فإن قيل: فإن اختلفوا في سنة وفاة التلميذ، فهل نبني على الأقل – كما سبق في اختلاط الشيخ – أم نبني على الأكثر؟ الجواب: بل نبني على الأكثر خلافاً لما سبق، فإن هذا هو اللائق بالاحتياط في الرواية، فلو فرضنا أن أحد تلامذة سعيد بن أبي عروبة – مثلاً – قيل: أنَّه مات سنة (142) وقيل: (144) ولم يترجح لنا أي القولين لنبني عليه، اعتبرنا هذا التلميذ مات سنة (144) وبهذا يكون – من باب الاحتياط – قد أدرك سعيداً حال اختلاطه، فنقف في روايته.
ومن هذا الباب ما إذا علمنا أن الراوي رحل إلى بلد الشيخ قبل اختلاطه، ولم يلقه بعد ذلك، أو أن التلميذ ما رحل للشيخ إلا بعد اختلاطه، فيدل على أ، روايته عنه غير مستقيمة.
3 – إذا كان الراوي الموصوف بالاختلاط أو التغير قد حدث من كتابه الصحيح فإن علة اختلاطه لا تضر هنا، لأنَّ علة الاختلاط أو التغير أو سوء الحفظ تتصل بضبط الصدر لا بضبط الكتاب، وقد جاء في «فتح المغيث» (4/382) في نوع معرفة من اختلط من الثقات، قال الأثرم عن أحمد: من سمع منه – يعني عبدالرزاق – بعد ما عمي فليس بشيء، وما كان في كتبه فهو صحيح، وما ليس في كتبه فإنَّه كان يُلقن فيتلقن.
وقال الحاكم: قلت للدارقطني: أيدخل في الصحيح؟ قال: إي والله قال العراقي: وكأنهم لم يبالوا بتغيّر عبدالرزاق لكونه إنَّما حدثه من كتبه لا من حفظه….، اهـ. وانظر ما قاله الحافظ الذهبي في «الموقظة» (ص54) في قبول إجازة من تغير حفظه، إذا كانت أصوله مضبوطة.
4 – ومن ذلك ما إذا اختلط الراوي لكن تلميذه الذي أخذ منه قبل الاختلاط تنبيه لذلك فلم يأخذ عنه بعد الاختلاط، وهذا قريب من الحالة الأولى.
5 – ومن ذلك، إذا اختلط الراوي فمنعه أهله من التحديث بعد اختلاطه، أو منعوا الناس من الدخول عليه، أو الأخذ عنه بعد اختلاطه، كما جرى لعبدالوهاب بن عبدالمجيد الثقفي، فقد قال الذهبي في «الميزان» (2/681): قلت: لكن ما ضرَّ تغيُّره حديثَه، فإنه ما حدث بحديث في زمن التغير… وقال أبو داود: تغير جرير بن حازم وعبدالوهاب الثقفي، فحجب الناس عنهم، اهـ. لكن في «فتح المغيث» (4/381) أن الفلاس أخذ عنه وهو مختلط، ثم قال: ولعل هذا كان قبل حجبه، اهـ.
وفي «الميزان» (1/39) ترجمة إبراهيم بن العباس: قال محمد بن سعد: إبراهيم بن العباس اختلط في آخر عمره، فحجبه أهله حتى مات.
قال الذهبي: قلت: فما ضره الاختلاط، وعامّة من يموت يختلط قبل موته، وإنما المضعِّف للشيخ أن يروى شيئاً زمن اختلاطه، اهـ.
6 – ومن ذلك أن يروى عن المختلط جماعة رووا عنه الحديث على نسق واحد، وإن كانوا جميعاً ممن روى عنه بعد الاختلاط، وقد ذكر الحافظ في «هدي الساري» (ص:406) الفصل التاسع، ترجمة سعيد بن أبي عروبة، ذكر أنَّه اختلط، ثم قال: وأما ما أخرجه البخاري من حديثه عن قتادة، فأكثره من رواية من سمع منه قبل الاختلاط وأخرج عمن سمع منه بعد الاختلاط قليلاً كمحمد بن عبدالله الأنصاري وروح بن عبادة وابن أبي عدي، فإذا أخرج من حديث هؤلاء، انتقى منه ما توافقوا عليه…..، اهـ.
وذلك لأٌ الرواة إذا اتفقوا في رواية لهم عن شيخ بعينه دل ذلك على أن الشيخ حفظ تلك الرواية، ولو كان مخلطاً مضطرباً لحدث كلا منهم بوجه خلاف الوجه الذي حدث به الآخر، وبنحو ذلك قال الإمام المعلمي – يرحمه الله – في «التنكيل» (ص:787) في القسم الثالث في المسألة الثانية، رفع اليدين، قال يرحمه الله:
وقد دل كلام الإمام أحمد أن التلقين إنَّما أوقعه – يعني عبدالرحمن بن أبي الزناد – في الاضطراب، فعلى هذا إذا جاء الحديث من غير وجه عنه على وتيرة واحدة، دل ذلك على أنه من صحيح حديثه…، اهـ.
7 – ومن ذلك ما إذا روى عن المختلط من هو أكبر منه أو قرينه، فالراجح في مثل ذلك أنَّه أخذ عنه حال استقامته، وقد قال الحافظ ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/87) المجلس (16):.. إلا أن عطاء بن السائب اختلط، ورواية الأعمش عنه قديمة، فإنه من أقرانه، اهـ. وفي (2/268) المجلس (179) ساق حديثاً بسنده إلى حماد بن زيد، قال: كان أيوب حدثنا بهذا الحديث عن عطاء بن السائب، فذكره بطوله، قال: فلما قدم عطاء بن السائب البصرة، قال لنا أيوب: اذهبوا فاسمعوهمنعطاء.
قال الحافظ: قلت: فدل هذا على أن عطاء حدث به قديماً، بحيث حدث به عنه أيوب في حياته، وهو من أقرانه أو أكبر منه، لكن في كون هذا حُكممنأيوب بصحة هذا الحديث نظر، لأنَّ الظاهر أنَّه قصد لهم على علو الإسناد، اهـ أي أرشدهم إلى الأخذ عن عطاء عالياً.
8 – ومن ذلك ما إذا انتقى التلميذ من حديث شيخه بعد اختلاطه.
جاء في «تهذيب الكمال» (11/10) ترجمة سعيد بن أبي عروبة: قال أبو داود: سمعت صالحاً الخنْدقي، قال: سمعت وكيعاً قال: كنا ندخل على سعيد بن أبي عروبة، فنسمع، فما كان من صحيح حديثه أخذناه، وما لم يكن صحيحاً طرحناه، اهـ.
وقد قال ابن الصلاح في «مقدمته»: وقد رُوِّينا عن يحيى بن معين أنَّه قال لوكيع: تحدث عن سعيد بن أبي عروبة، وإنما سمعت منه في الاختلاط؟ فقال: رأيتني حدثْتُ عنه إلا بحديث مُستوٍ؟، اهـ.
9 – وقد يكون التلميذ نفسه مختلطاً أو متغيراً لكنه من المثبتين في حديث أحد المشايخ، فتقبل روايته – مع تغيره أو اختلاطه – عن ذلك الشيخ، قال السخاوي في «فتح المغيث» (4/393) في آخر الكلام على معرفة من اختلط من الثقات: وقد يتغير الحافظ لكبره، ويكون مقبولاً في بعض شيوخه، لكثرة ملازمته له، وطول صحبته إياه، بحيث يصير حديثه على ذِكْره وحٍفْظه بعد الاختلاط والتغير، كما كان قبله، كحماد بن سلمة أحد أئمة المسلمين في ثابت البناني، ولذا خرج له مسلم، كما قدمته في مراتب الصحيح، على أن البيهقي قال: إن مسلماً اجتهد وأخرج من حديثه عن ثابت بخصوصه ما سمع منه قبل تغيره، فالله أعلم، اهـ. وقال الحافظ الذهبي في «الموقظة» (ص54): فمن تغير بسوء حفظ، وله أحاديث معدودة قد أتقن روايتها، فلا بأس بتحديثه بها زمن تغيره اهـ.
وذكر صاحب الحاشية أن البيهقي ذكر ما سبق في «الخلافيات» والراجح عندي ما قال السخاوي، ما لم تظهر نكارة في الرواية، والله أعلم.
10 – وذكر التهانوي – يرحمه الله – في «قواعد في علوم الحديث» (ص:280) أن إخراج البخاري ومسلم لراو اختلط أن ذلك من روايته قبل الاختلاط، وليس ما قاله بلازم، والله أعلم.
11 – إذا وافقت رواية التلميذ عن شيخه المختلط رواية من روى عنه قبل الاختلاط، دل على أن التلميذ أخذ ذلك عنه قبل اختلاطه، أو أن ذلك مما ضبطه الشيخ، وإن كان قد حدث به بعد اختلاطه.