حديث سنده ضعيف، لكن وصفه بعض العلماء بأنه تُلُقِّي بالقبول، فهل يُعمل به، أم لا؟
صرح جماعة من العلماء بالاحتجاج بما كان هذا سبيله، وذلك لأنَّ عمل العلماء بالحديث أو بمعنى الحديث يجبر الضعف في سنده، بل هو أقوى من مجرد متابعة ضعيف آخر، فإن العمل بالحديث مما يؤكده ويقويه، وهاك أقوال أهل العلم في ذلك:
1 – الإمام الشافعي – يرحمه الله -:
فقد سبق في السؤال (224) كلامه في الاستشهاد بالمرسل، فقال: وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اهـ من «الرسالة» (ص:463) برقم (1270).
وقال ابن برهان في «الوجيز»: مذهب الشافعي: أن المراسيل لا يجوز الاحتجاج بها، إلا مراسيل الصحابة – رضي الله عنهم – ومراسيل سيعد بن المسيب، وما انعقد الإجماع على العمل به، اهـ نقلاً من «النكت» (2/547) وفي «التلخيص» (3/199/1421) قال الشافعي في حديث: «لا وصية لوارث»:
وروى بعض الشاميين حديثاً ليس مما يثبته أهل الحديث، فإن بعض رجاله مجهولون، فاعتمدنا على المنقطع مع ما انضم إليه من حديث المغازي وإجماع العلماء على القول به، اهـ.
2 – الإمام البيهقي يرحمه الله: قال في «السنن الكبرى» (3/282) ك/ صلاة العيدين، ب/ الغدو إلى العيدين: وهذا أيضاً مرسل، وشاهده عمل المسلمين بذلك، أو بما يقرب منه…، اهـ وقال في (9/285) ك/ الضحايا ب/ ما جاء في ذبيحة المجوس: هذا مرسل، وإجماع أكثر الأمة عليه يؤكده، اهـ وانظره في «التلخيص» (3/353-354/1643).
وفي (3/222) ك/ الجمعة، ب/ من زعم أن الإنصات للإمام اختيار… قال: وهذا وإن كان مرسلاً، فهومرسل جيد، وهذه قصة مشهورة فيما بين أرباب المغازي…، اهـ.
3 ـ وقال ابن عبدالبر في «الاستذكار» (2/98) برقم (1569): وهذا إسناد وإن لم يخرجه أصحاب الصحاح، فإن فقهاء الأمصار وجماعة من أهل الحديث متفقون على أن ماء البحر طهور، بل هو أصل عندهم في طهارة المياه الغالبة على النجاسات المستهلكة لها، وهذا يدل على أنَّه حديث صحيح المعنى، يُتَلقى بالقبول والعمل، والذي هو أقوى من الإسناد المنفرد، اهـ.
4 – وفي «التلخيص» (4/36/1879) قال الحافظ: وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور – يعني حديث عمرو بن حزم في كتاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل اليمن – جماعةٌ من الأئمة، لا من حيث الإسناد، بل من حيث الشهرة، فقال الشافعي في «رسالته»: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنَّه كتاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال ابن عبدالبر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم، معروفة يُستغنى بشهرتها عن الإسناد، لأنه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة، قال: ويدل على شهرته: ما روى ابن وهب عن مالك عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب، قال: وُجِدَ كتابٌ عند أل حزم يذكرون أنَّه كتاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال العقيلي: هذا حديث ثابت محفوظ، إلا أنا نرى أنَّه كتاب غير مسموح عمن فوق الزهري، وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتاباً أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتابعين يرجعون إليه، ويَدَعُون رأيهم، وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبدالعزيز وإمام عصره الزهريُّ لهذا الكتاب بالصحة، ثم ساق ذلك بسنده إليهما، اهـ.
5 – وفي «التلخيص» (4/121/2074) ذكر حديث: «لا قطع في ثمر ولا كثَر» ثم قال الحافظ: اختلف في وصله وإرساله، وقال الطحاوي: هذا الحديث تلقت العلماء متنه بالقبول، اهـ. والكثر هو الجمار، وفي «الإرواء» (6/95-96/1655). قال شيخنا الألباني – حفظه الله -: ومن ذلك تعلم أن قول الإمام الطحاوي في «مشكل الآثار» (2/136) في أحاديث ذكرها، هذا أحدها: وجدنا أهل العلم احتجوا بهذا الحديث، فوقفنا بذلك على صحته عندهم… وإن كان ذلك كله لا يقوم من جهة الإسناد. اهـ.
7 – وفي «النكت» (1/340) ذكر الحافظ حديثاً من رواية الحارث عن علي، وقال: والحارث ضعيف جداً، وقد استغربه الترمذي، ثم حكى إجماع أهل العلم على القول بذلك، فاعتضد الحديث بالإجماع، والله أعلم، اهـ وفي «التلخيص» (3/206/1440) قال: والحارث وإن كان ضعيفاً، فإن الإجماع منعقد على وفق ما روى، اهـ.
8 – وفي «التدريب» (1/66) ذكر كلام ابن عبدالبر في حديث ماء البحر، ثم قال: وقال في «التمهيد»: روى جابر عن النبي صلى الله عليه وعلى أله وسلم: «الدينار أربعة وعشرون قيراطاً» قال: وفي قول جماعة العلماء وإجماع الناس على معناه غنّى عن الإسناد.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني: تُعرف صحة الحديث إذا اشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم.
وقال نحوه ابن فُورك، وزاد بأن مثّل ذلك بحديث: «في الرقة ربع العشر، وفي مائتي درهم خمسة دراهم».
وقال أبو الحسن بن الحصار في «تقريب المدارك على موطأ مالك»: قد يعلم الفقيه صحة الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب، بموافقة آية من كتاب الله، أو بعض أصول الشريعة، فيحمله ذلك على قبوله والعمل به…..، اهـ.
9 – وقد ذكر التهانوي – يرحمه الله – هذه المسألة في كتابه: «قواعد في علوم الحديث» (ص:60-62) وذكر المعلِّق فوائد متمّمة لذلك، وسأذكر كلاهمهما – إن شاء الله تعالى – وقد يتداخل في مواضع، مكتفياً بهذه الإشارة، قال يرحمه الله بعد ذكره الكلام السابق في حديث ماء البحر: قلت: والقبول يكون تارة بالقول، وتارة بالعمل عليه، ولذا قال المحقق في «الفتح» (1/217): وقل الترمذي: «العمل عليه عند أهل العلم» يقتضي قوة أصله، وإن ضَعِّف خصوصَ هذا الطريق.
وفي الحاشية:
قال المحقق ابن الهمام أيضاً في «الفتح» في آخر الفصل الأول من فصول كتاب الطلاق (3/143): ومما يصحح الحديث أيضاً عمل العلماء على وفقه، وقال الترمذي عقيب روايته حديث (طلاق الأمة ثنتان»: حديث غريب، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وغيرهم. وفي «سنن الدارقطني» (4/40) قال القاسم وسالم: عمل به المسلمون، وقال مالك: شهرة الحديث بالمدينة تغني عن صحة سنده.
قال التهانوي – يرحمه الله -: قال السيوطي في «التعقيبات» (ص: 12): الحديث أخرجه الترمذي (1/303) – أي حديث ابن عباس: «من جمع بين الصلاتين من غير عذر، فقد أتى باباً من الكبائر» – وقال: حسين ضعفه أحمد وغيره، والعمل عليه عند أهل العلم، اهـ قال: فأشار بذلك أن الحديث اعتضد عند أهل العلم، وقد صرح غير واحد بأن من دليل صحة الحديث: قولَ أهل العلم به، وإن لم يكن له إسناد يعتمد على مثله، اهـ.
قال: وفيه أيضاً (ص:13): وقال الترمذي: وقد رأى ابن المبارك وغيره صلاة التسبيح، وذكروا الفضل فيه، وقال البيهقي: كان عبدالله بن المبارك يصليها، وتداوله الصالحون بعضهم عن بعض، وفي ذلك تقوية للحديث المرفوع، اهـ.
ثم قال التهانوي: بل الحديث إذا تلقته الأمة بالقبول فهو عندنا في معنى المتواتر، قال الجصاص في «أحكام القرآن» له (1/386): وقد استعملت الأمة هذين الحديثين – يعني حديث ابن عمر وعائشة في طلاق الأمة وعدتها – وإن كان وروده: يعني لفظ: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان» – من طريق الآحاد، فصار في حيِّز التواتر، لأنَّ ما تلقاه الناس من أخبار الأحاد بالقبول، فهو عندنا في معنى المتواتر، لما بيّناه في مواضع، اهـ.
فهذه المواضع من كلام أهل العلم تدل على أن الحديث، وإن كان ضعيف السند، فإنَّ عَمَلَ العلماءِ به، أو احتجاجهم به فيما بينهم دون نكير من بعضهم، أو نحو ذلك، يجبر الضعف، بل لو صح أن علماء الأمة تلقوه بالقبول، لكان في معنى المتواتر في إفادة العلم، أعني العلم النظري، لأن الأمة لا تجتمع على خطأ، لكن ينبغي التيقظ، فإن بعض أهل العلم يدعي الإجماع، أو تلقى الأمة بالقبول، في مواضع شاع فيها النزاع، والله أعلم.
(تنبيه):
ولأبي غدّة جمع موسع في ذلك، انظره في نهاية «الأجوبة الفاضلة) (ص:228-238) وبه ينتهي الكتاب.