حديث في سنده رجل، قال: حدثني جماعة، أو عدة من أشياخنا، فهل يُحتج بهذا السند، أو يُضعّف لجهالتهم؟
سبق في السؤال (225) أن المجهول والمبهم يصلحان في الشواهد والمتابعات، على تفاصيل في ذلك.
فإذا أُبْهم جماعةٌ في السند – كما ورد في السؤال – فلا بأس باعتماد حديثهم، فإن الجمع يجبر الجهالة، إذا كان في طبقة التابعين وأتباعهم، وقد مشى على ذلك جماعة من أهل العلم – وإن خالف في ذلك بعضهم – وهاك أقوال أهل العلم وصنيعهم في ذلك:
1 – أخرج الإمام البخاري في «صحيحه» (6/632/3642) – مع «الفتح» – قال: حدثنا علي بن عبدالله أخبرنا سفيان حدثنا شبيب بن غرقدة قال: سمعت الحي يتحدثون عن عروة – وهو البارقي – أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه..
فإخراج الإمام البخاري – يرحمه الله – لهذا الحديث – مع الجهالة – يدل على اعتماده ما كان هذا سبيله، لكن الحافظ يرحمه الله قد قال في (6/635): فالحديث بهذا ضعيف للجهل بحالهم، لكن وجد له متابع…، اهـ وكذا قال الحافظ في «التلخيص» (3/10-11/1128)، ونقل عن البيهقي أن الشافعي ضعفه، لأنَّ الحي غير معروفين، اهـ. وكذا قال الخطابي في «معالم السنن» (5/49-51) مع «مختصر سنن أبي داود» – برقم (3244) فقال: وفي خبر عروة: «أن الحي حدثوه» وما كان هذا سبيله من الرواية لم تقم به الحجة…، اهـ.
وقد ذهب شيخنا الألباني – حفظه الله – إلى الاستدلال بصنيع الإمام البخاري في ذلك، انظر «الإرواء» (5/128/1287)، إلا أن كلام الأئمة السابقين، يشق عليَّ تجاوزه، فلعل البخاري رحمه الله صحح الحديث للمتابع الذي أشار إليه الحافظ، أو لغير ذلك، والله أعلم.
2 – وذكر ابن القيم – يرحمه الله – في «إعلام الموقعين» (1/202) حديث إرسال معاذ إلى اليمن، وفيه: قال شعبة: حدثني أبوعون عن الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وعلى أله وسلم لما بعثه إلى اليمن… الحديث، قال ابن القيم:
فهذا حديث – وإن كان عن غير مُسمَّيْن فهم أصحاب معاذ – فلا يضره ذلك، لأنه يدل على شهرة الحديث، وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ، لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سُمِّي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى، ولا يُعرف في أصحابه متهم، ولا كذاب، ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك…، اهـ ولقائل أن يقول: تقوية ابن القيم للحديث ليس لمجرد الجمع الذي يجبر الجهالة، بل لما عُلِم من حال أصحاب معاذ – رضي الله عنه – وبين هذا وما نحن فيه فرق، قلت: وهذا كلام له حظ من الوجاهة، والله أعلم.
3 – قال الحافظ العراقي في «التقييد» (ص:264) في النوع الموفي ثلاثين: معرفة المشهور من الحديث:.. وكذلك حديث: «من آذى ذمياً..» هو معروف أيضاً بنحوه، رواه أبو داود من رواية صفوان بن مسلم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن آبائهم.. عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «إلا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة» قال: سكت عليه أبو داود – أيضاً -، فهو عنده صالح، وهو كذلك إسناده جيد، وهو إن كان فيه من لم يُسم، فإنهم عدة من أبناء الصحابة يبلغون حد التواتر الذي لا يشترط فيه العدالة، فقد رويناه في «سنن البيهقي الكبرى» فقال في روايته: عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اهـ قلت: وهذا أيضاً ليس صريحاً في موضع النزاع، للقرنية التي ذكرها.
4 – وقال الزركشي في «التذكرة في الأحاديث المشتهرة» (ص:33) بعد ذكره الحديث السابق: وإسناده لا بأس به، ولا يضره جهالة من لم يُسم من أبناء الصحابة، فإنهم عدد كثير، وقد رواه البيهقي في «سننه» وقال فيه: عن ثلاثين من أبناء الصحابة، اهـ. قلت: قد سبق ما فيه.
5 – وكذا قال السخاوي في هذا الحديث، انظر «المقاصد الحسنة» (ص:392) برقم (1044)، وزاد: فإنهم عدد ينجب ربه جهالتهم، اهـ. قلت: انظر ما سبق.
وفي «فتح المغيث» (1/321) في نوع المقلوب، ذكر السخاوي قصة امتحان المحدثين ببغداد للإمام البخاري – يرحمه الله -، وقد أخرجها ابن عدي في «مشايخ البخاري» قال ابن عدي: سمعت عدة مشايخ يحكون… وذكرها، قلت: قد ذكر ابن عدي هذه القصة في «أسامى من روى عنهم محمد بن إسماعيل البخاري من مشايخه الذين ذكرهم في جامعه» (ص62-63) بتحقيق بدر بن محمد العماش، وقد ذكر من أخرجها أو ذكرها وهم: الخطيب في «تاريخ بغداد» (2/20)، والباجي في «التعديل» (1/308)، وابن الجوزي في «الحث على حفظ العلم» (56)، وابن خلفون في «المعلم» (1/ل2/ب)، والعراقي في «شرح الألفية» (1/284)، وابن حجر في «هدي الساري» (ص486)، و«النكت» (2/867) وغيرهم، كلهم من طريق ابن عدي به.
قال السخاوي: ومن طريق ابن عدي رواه الخطيب في «تاريخه» وغيره، ولا يضر جهالة شيوخ ابن عدي فيها، فإنهم عدد ينجب ربه جهالتهم…، اهـ.
وتناقُلُ المصنفين لهذه القصة يشير إلى عدم تعويلهم على علة الجهالة، ولعل ذلك للجمع الذي يجبر الجهالة، أو لأن باب القصص يُتساهل فيه، لا سيّما في أمر مشهور، وهو اشتهار قوة حفظ الإمام البخاري – يرحمه الله -. وقد ضعف الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد هذه القصة للجهالة، كما في «التأصيل» (1/79) في كلامه على القضايا التي اشتهرت ولم تثبت، وأنت ترى أن السخاوي – يرحمه الله – قد صرح بقبول رواية الجمع المبهم – وإن لم يكونوا في طبقة التابعين وأتباعهم – وفي النفس من ذلك شيء.
6 – ومن نظر في كتب شيخنا الألباني – حفظه الله – علم أنَّه قد اعتمد ذلك في عدة مواضع، انظر: «الصحيحة» (1/135/89)، (3/361/1373)، (4/610/1967)، و«الضعيفة» (2/276/881) و«الإرواء» (5/128/1287)، (6/17/1562)، (8/54/2393)، وهذه المواضع كلها في طبقة التابعين أو أتباعهم.
7 – ثم تذكرت ما جاء عن إبراهيم النخعي في روايته عن ابن مسعود – رضي الله عنه -، فقد قال المعلمي – يرحمه الله – في «التنكيل» (ص:899-899) في المسألة الرابعة عشرة: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً، قال – يرحمه الله -: وإبراهيم عن عبدالله منقطع، وما روى عنه أنَّه قال: إذا قلت: قال عبدالله، فهو من غير واحد عن عبدالله، لا يدفع الانقطاع، لاحتمال أن يسمع إبراهيم عن غير واحد ممن لم يلق عبدالله، أو ممن لقيه، وليس بثقة، واحتمال أن يغفل إبراهيم عن قاعدته، واحتمال أن تكون قاعدته خاصة بهذا اللفظ: «قال عبدالله»، ثم يحكى عن عبدالله بغير هذا اللفظ ما سمعه من واحد ضعيف، فلا يتنبه مَنْ بعده للفرق، فيرويه عنه بلفظ: «قال عبدالله»….، اهـ.
قال شيخنا الألباني – حفظه الله – متعقباً عليه ما ذهب إليه في الحاشية (1):
قلت: تصدير المصنف – يرحمه الله – لقول إبراهيم المذكور بقوله: «روي» مما يشعر اصطلاحاً. بأنه لم يثبت عنده، ولعل عذره في ذلك أنَّه لم يقف على إسناده، وإلا لجزم بصحته، فقد أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (6/190) أخبرنا عمرو بن الهيثم أبو قطن، قال: حدثنا شعبة عن الأعمش، قال: قلت لإبراهيم: إذا حدثتني عن عبدالله فأسنِدْ، قال: إذا قلت: قال عبدالله: فقد سمعته من غير واحد من أصحابه، وإذا قلت: حدثني فلان، فحدثني فلان، وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وقد أخرجه أبو زرعة الدمشقي في «تاريخ دمشق» (ق131/2): حدثنا أحمد بن سبويه قال: حدثنا عمرو بن الهيثم به، إلا أنَّه قال: «فحدثني وحده».
قال شيخنا – حفظه الله -: أقول: وإذا تأمل الباحث في قول إبراهيم: من غير واحد من أصحابه، يتبين له ضعف بعض الاحتمالات التي أوردها المصنف على ثبوت رواية إبراهيم إذا قال: «قال ابن مسعود» فإن قول: «من أصحابه» يبطل قول المصنف: أن يسمع إبراهيم من غير واحد ممن لم يلق عبدالله، كما هو ظاهر، وعذره في ذلك: أنَّه نقل قول إبراهيم هذا من «التهذيب»، ولم يقع فيه قوله: «من أصحابه» الذي هو نص في الاتصال، اهـ.
ثم قال في الحاشية رقم (2) تعقيباً على قول المعلمي – يرحمه الله -: «أو ممن لقيه وليس بثقة»: قلت: هذا فيه بُعْد، فإننا لا نعلم في أصحاب ابن مسعود المعروفين من ليس بثقة، ثم إن عبارته المتقدمة منه آنفاً صريحة منه أنَّه لا يسقط الواسطة بينه وبين ابن مسعود إلا إذا كان الذي حدثه عنه أكثر من واحد من أصحابه، فكون الأكثر منهم – لا الواحد – غير ثقة بعيد جداً، لا سيما وإبراهيم إنَّما يروي كذلك مشيراً إلى صحة الرواية عن ابن مسعود، والله أعلم، اهـ.
والأمر كما قال شيخنا – حفظه الله -، فإن الأعمش لما سمع ما سمع من إبراهيم، قنع بذلك، لما فهم صحة الواسطة بين إبراهيم وابن مسعود، ولو أخذنا ببعض ما قاله الشيخ المعلمي – يرحمه الله -، لكان إبراهيم مدلساً بقوله هذا على الأعمش تدليساً قبيحاً، وحاشاه من ذلك.
وقد صحح جماعة من الأئمة مراسيل النخعي، وخصه البيهقي بمراسيله عن ابن مسعود، قاله العلائي في «جامع التحصيل» (ص:141-142) وقد صحح العلائي أثر الأعمش عن إبراهيم، وذكر كلام أحمد في تمشية مراسيل إبراهيم، وذكر كلام البيهقي السابق، انظر (ص: 79-80، 89)، وقد قال الدارقطني – يرحمه الله – في «السنن» (3/174) برقم (266):
فهذه الرواية – يعني رواية إبراهيم عن عبدالله – وإن كان فيها إرسال فإبراهيم النخعي هو أعلم الناس بعبدالله. برأيه وبفتياه، وقد أخذ ذلك عن أخواله علقمة والأسود وعبدالرحمن ابني يزيد، وغيرهم من كبراء أصحاب عبدالله، وهو القائل:
إذا قلت لكم: قال عبدالله بن مسعود، فهو عن جماعة من أصحابه عنه، وإذا سمعته من رجل واحد سميته لكم، اهـ.
فمن تأمل ما سبق علم أن غالب صنيع من ذكرت الاعتداد بالجمع المبهم إذا كان في الطبقات العالية، كطبقة التابعين وأتباعهم، أما من دون ذلك فلم أقف على تصريح أحد به، إلا كلام السخاوي في قصة امتحان محدثي بغداد للإمام البخاري يرحمه الله، ولعل ذلك لأنَّ الطبقات العليا يكثر فيها الخير، وقد فاضت فيها العدالة، وقل فيها الكذب بالنسبة فغيرها مما بعدها من الطبقات، وقد سألت شيخنا الألباني – حفظه الله – عن هذه المسألة في رحلتي إليه بـ «عمان»، فأجاب بنحو مما ذكرت، وأشار إلى تضعيف قصة امتحان الإمام البخاري، وهذا ما تطمئن إليه النفس، والله تعالى أعلم.
(تنبيه): إذا كان العلماء قد قبلوا رواية مجهول العين والمبهم في الشواهد، إذا كان في الطبقات العالية، فالجميع من المجهولين أو المبهمين أولى بالقبول، والله أعلم.
(تنبيه آخر): إذا روى الحديث جمع مبهم وهم عدد كثير تطمئن النفس مع كثرة عددهم إلى ثبوته، ولم يكن هناك، ما يدل على النكارة، أو يعارضه ما هو أقوى منه، أو كانت هناك قرائن تقوي ثبوته، قُبلت رواية الجمع، وإن كانت في طبقة نازلة، وهذا أمر لا يستطيع ناقد أن يضع له حداً، فكل حديث له دراسة حديثية تليق به، والله أعلم.