هل يصح الاستشهاد بالحديث الذي في سنده انقطاع، أم لا؟
الانقطاع منه جلي ومنه خفي.
فالجلي: كالمعلَّق والمعضل والمنقطع والمرسل.
والخفي: كالتدليس والإرسال الخفي.
فأما الانقطاع الخفي: فيصلح أن يستشهد به، سواء كان بعنعنة مدلِّس، وما كان في معنى العنعنة، أو رواية مَنْ إرسالُه خفي غير جلي.
وأما الانقطاع الجلي ففيه تفصيل:
فالمرسل: قد سبق أنَّه يصلح أن يُعتضد به – على تفاصيل قد سبقت -.
وأما المعلق: وهو ما سقط في أول إسناده من جهة المصنِّف راو فأكثر: فلا يستشهد به في الغالب، وفيه تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى من آخر الجواب.
ولم أقف على التصريح بالاستشهاد بالمعلقَّ في صورة قول أحد المصنفين: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كذا وكذا، أو قال ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كذا وكذا، كما لم أقف على التصريح بالاعتضاد بمطلق المعلَّق إلا في كلام الشيخ بكر بن عبدالله أبي زيد، – حفظه الله – كما في «التأصيل» (1/183، 184) وكذلك يظهر من صنيع شيخنا الألباني – حفظه الله – في «الإرواء» (5/120) برقم (1278)، والنفس إلى غير ذلك أمْيل، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما المعضل: وهو ما سقط من إسناده اثنان فأكثر على التوالي، سواء في أثناء السند أو في آخره، فقد صرح الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد – حفظه الله – كما في الموضع السابق بالاستشهاد به، وكذلك استشهاد به شيخنا الألباني – حفظه الله -، كما في «الصحيحة» (2/432، 433/790) والبيهقي في «الكبرى» (5/73) ورأيت صاحب «مناهج المحدثين» (ص:249) قد نقل كلاماً للخطيب – يرحمه الله -، وهو موجود في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (2/281) في باب القول في كَتب الحديث على وجهه وعمومه..، قال – يرحمه الله – وحكم المعضل مثل حكم المرسل في الاعتبار به فقط، اهـ.
فظن المؤلف وغيره – حفظ الله الجميع – أن الخطيب يرى الاعتضاد بالمعضل كالاعتضاد بالمرسل، لقوله السابق.
وعندي أن كلام الخطيب في باب آخر، فإنه ذكر أثراً عن أحمد في كتابة الحديث المرسل، لتُعرف به علة الحديث المسند، ثم ذكر قول ابن مهدي: لأنَّ أعرف علة حديث، أحب إليّ من أن أستفيد عشرة أحاديث.
ثم قال الخطيب عقب ذلك: وحكم المعضل مثل حكم المرسل في الاعتبار به فقط، اهـ.
فلم يقصد الخطيب – يرحمه الله – بذلك باب الشواهد والمتابعات، إنَّما قصد باب السبْر والاعتبار، لمعرفة علة الحديث المسند بالحديث المعضل، كما تُعرف علة الحديث المسند بالحديث المرسل، فقد يُروى الحديث مسنداً، ويكون المحفوظ فيه أنَّه مرسل أو معضل، هذا هو المراد هنا بالاعتبار، والعلماء يستعملون كلمة الاعتبار في باب الشواهد، وفي باب الإعلال أيضاً، وهذا هو المناسب للباب الذي ذكر تحته الخطيب – يرحمه الله – هذه الآثار وهذه المقالة، والله أعلم.
لكن لعل دليل من استشهد بالمعضل: الاستشهاد بالمنقطع، ووجهه أننا إذا استشهدنا بالمنقطع، فكذلك يلزمنا الاستشهاد بالمنقطع في موضعين، لأننا نستشهد بالحديث الذي فيه ضعيف وضعيفان، أو فيه أكثر من علة ليست بالشديدة، والمنقطع في موضعين يساوي المعضل، كما صرح بذلك الحافظ في «النكت» (2/581-582) وقد نقل عن (الجوزقاني) أنَّه قال في مقدمة كتابه في الموضوعات: المعضل أسوأ حالاً من المنقطع، والمنقطع أسوأ حالاً من المرسل، والمرسل لا تقوم به حجة.
قال الحافظ: قلت: وإنما يكون المعضل أسوأ حالاً من المنقطع، إذا كان الانقطاع في موضع واحد من الإسناد، وأما إذا كان في موضعين أو أكثر، فإنه يساوي المعضل في سوء الحال، والله – تعالى – أعلم، اهـ.
وإذا كان المعضل يساوي المنقطع في موضعين، ونحن نستشهد بالمنقطع في موضعين، لزمنا الاستشهاد بالمعضل، فلعل هذا وجه من استشهد بالمعضل.
وعندي أن في ذلك توسعاً غير مرضي، فأصل الاستشهاد بالمنقطع، هو الاستشهاد بالمرسل، ولا شك أن المرسل أحسن حالاً من المنقطع، لأن المرسل في طبقة عالية، وقد كان الكذاب فيها أخف مما بعدها الطبقات، كما مرّت الإشارة إليه من كلام الجوزقاني، وكما قال ابن السمعاني عندما تحدث عن حكم الحديث المنقطع: مَنْ منع قبول المرسل، فهو أشد منعاً لقبول المنقطعات، ومن قَبِلَ المراسيل اختلفوا، اهـ نقلاً عن «الصناعة الحديثية) في السنن الكبرى» للبيهقي (ص:208).
والاستشهاد بالمرسل فيه نزاع قد سبق بيانه، والمنقطع أسوأ حالاً من المرسل، أعني المرسل بالمعنى الاصطلاحي المشهور، لا كل من سقط منه راو، لأنَّ الساقط في المرسل غالباً ما يكون من الطبقات التي لم يشتهر فيها الخلل، بخلاف الطبقات النازلة، ففي النفس غضاضة من الاستشهاد بالمنقطع، ولولا تصريح جماعة من المحدثين، أو اشتهاد صنيعهم بذلك، لما قبلنا الاستشهاد بالمنقطع – وسيأتي إن شاء الله مفصلاً – ومع هذا كله: فهل يليق أن نقيس المعضل على المنقطع؟ فيكون قياساً على قياس على أصل فيه نزاع؟! حيث قسنا المعضل على المنقطع – مع الفارق -، والمنقطع على المرسل – مع الفارق – وفي الاستشهاد بالمرسل نزاع وقيود، قد سبق بيانها، ثم لو سلمنا بذلك؛ فقد يقول قائل: إذا أجزتم الاستشهاد بمنقطع في موضعين، فكذلك يلزم الاستشهاد بمنقطع في ثلاثة مواضع أو أكثر، فإن سلمنا بذلك؛ سقط معنى تشديد العلماء في الرواية بالأسانيد، ولزمنا أ، نقبل في الشواهد قول أحد المصنفين: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كذا وكذا، وإذا كان ذلك كذلك – لا سيّما إذا كان الشاهد والمشهود له من هذا الصنف – فعلى الأسانيد السلام، وانقطع الكلام، ومن شاء أن يقول قولاً فلْيَقُلْه!!! وإذا رفضنا الاستشهاد بمنقطع في ثلاثة مواضع فأكثر، لزم التحُّم بلا دليل ولا برهان.
فإن قيل: إن الأمر يرجع إلى غلبة الظن، قلت: وغلبة الظن أنَّه لا فائدة في المعضلات والمنقطعات المتكررة في السند الواحد، ولا أعرف ذلك عن السلف، إلا من كلام البيهقي، وإن وجد فنادر جداً لا يُقعَّد عليه، لاحتمال أنَّهم قبلوه لقرائن أخرى، لا تطَّرِد في بقية الأحاديث، والله أعلم.
وأما المنقطع: وهو ما سقط من أثناء سنده راو واحد، في موضع واحد أو أكثر، فما كان منه في أكثر من موضع فلا تطمئن إليه النفس، كما سبق.
وما كان منه في موضع واحد، فإن كان من أسقط شيخه معروفاً بالرواية عن المتروكين، فيخشى أن يكون إسقاطه لشيخه لأنه متروك، وقد سبق شيء من ذلك، والله أعلم.
وما كان منه من رواية من لم يُعرف بالأخذ عن كل ضرب، فقد صرح ابن القيم في «زاد المعاد» (1/379) بأن عواضد المنقطع هي عواضد المرسل، انظر كلامه على حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: «إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة» في كلامه على تعظيمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم (وتشريفه ليوم الجمعة).
وقد ذكر الحافظ في «النكت» (1/387) أن الترمذي يستشهد بالانقطاع الخفيف، إلا أنَّه عندما مثَّل لذلك، ذكر أمثلة فيها الانقطاع الجلي، وقد حسن الترمذي تلك الأحاديث، مع تصريحه بعدم اتصال السند، أو بأن فلاناً لم يسمع من فلان، وإن كان في نسخ «السنن» اختلاف في الأحكام على الأحاديث بينه المحقق في الحاشية – انظر «النكت» (1/396-399، 402) – كما يظهر من تعريف الترمذي للحسن، كما في العلل في آخر «الجامع» أنَّه لم يشترط الاتصال، وعزا الحافظ هذا المذهب للنسائي أيضاً، انظر «النكت» (1/398) وفي المثال الذي ذكره بحث، ليس هذا موضعه.
وكذلك صنيع البيهقي – يرحمه الله – بقبول المنقطع، انظر «السنن الكبرى» (2/226)، (5/184)، (7/127) وقد قال في «معرفة السنن والآثار»: ونحن إنَّما لا نقول بالمنقطع، إذا كان منفرداً، فإذا انضم إليه غيره، وانضم إليه قول بعض الصحابة، أو ما يتأكد به المراسيل، ولم يعارضه ما هو أقوى منه، فإنّا نقول به، اهـ نقلاً من «الصناعة الحديثية في السنن الكبرى للبيهقي» (ص:207-208).
وقد استشهد الحافظ ابن حجر يرحمه الله بالمنقطع في عدة مواضع من كتبه، كما في «نتائج الأفكار» (1/137/26)، (1/258/51)، (2/146/149) و«التلخيص» (3/353-354/1642، 1643)، (3/358/1649)، (4/34/1878)، وانظر كلام الحافظ الذي نقله شيخنا الألباني – حفظه الله – في «الإرواء» (2/51/341).
وقد استشهد شيخنا الألباني – حفظه الله – بالمنقطع في مواضع عدة من كتبه، كما في «الصحيحة» (2/341/716)، (2/384/748) والله أعلم.
(تنبيه):
الاستشهاد بالمنقطع يترجح عندي إذا كان في طبقة التابعين وأتباعهم، كما سبق في المجهول والمبهم، وذلك لأن الطبقات العليا قد استفاضت فيها العدالة، بخلاف ما بعد ذلك من طبقات، ويدل على ذلك أيضاً صنيع الأئمة الذين عزوتُ إليهم في المواضع السابقة، وإذا لم نقبل رواية المجهول أو المبهم إلا في الطبقات العليا، فمن باب أولى أنْ نشترط ذلك في المنقطع، لأنَّ الرواية التي فيها مبهم أو مجهول – مع اتصال السند – أولى من المنقطعة التي يحتمل أن يكون الساقط فيها أكثر من أحد، والله أعلم.
(فائدة):
الاستشهاد بالمبهم والمجهول والأنواع السابقة في الانقطاع أضعف من الاستشهاد بمن فيه ضعف خفيف أو مرسل تابعي، وإذا ظهر للناقد نكارة في السند أو في المتن، فلا عبرة بهذه الشواهد، وقد قيّدت الاستشهاد بما سبق، بعدة قيود مستفادة من كلام أهل العلم في عدة مواضع، كما هو معروف من كلام العلماء الذين شرحوا كلام الإمام الشافعي – يرحمه الله – في الاستشهاد بالمرسل، والله أعلم.
(فائدة أخرى):
فإن قيل: لماذا لم تستشهد بالمعلَّق، وهو مما سقط منه راو فأكثر في أول السند، كالمنقطع أو المعضل؟ فالجواب: أن نفسي لا تميل إلى الاستشهاد بالمعضل، فما كان من المعلقات قد سقط فيه راويان فأكثر على التوالي: فلا يستشهد به، وما كان من المعلقات مما سقط من راو واحد في أول السند، أي سقط منه شيخ المصنِّف فإن كان المصنف ممن ينتقى في شيوخه: فيستشهد بالمعلق، وإن كان ممن لا ينتقى في شيوخه: فلا يستشهد به، لأن صنيع الأئمة في الاستشهاد بالمنقطع؛ إنما كان في الطبقات العالية، والانقطاع هنا نازل؛ فافترقا.
فإن قيل: فلماذا تستشهد بالمعلَّق، إذا كان المعلَّق ممن ينتقى، مع أن شيخه نازل الطبقة؟ فالجواب: أن العلة التي من أجلها قبلنا الاستشهاد في الطبقات العالية، وهي فيوض العدالة، وقلة الكذب في الرواية، موجودة فيما نحن بصدده، حيث أن المصنِّف الذي ينتقى في شيوخه، قد كفانا التخوّف من وجود هالك في شيوخه – غالباً – فيقوى الظن في هذه الحالة بقبوله في الشواهد. والله أعلم.
(تنبيه):
لقد استفدت في بعض الإحالات السابقة من كتاب «مناهج المحدثين في تقوية الأحاديث الحسنة والضعيفة» للمرتضى الزين أحمد، وكتاب «الصناعة الحديثية في السنن الكبرى للإمام البيهقي» لنجم عبدالرحمن خلف – جزاهما الله خيراً – وفي الكتابين فوائد لا تخفى على من له صلة بهذا الفن، والله أعلم.