شبهات والرد عليها

قد يقول قائل: سَلَّمْنا لكم بأن هؤلاء الحكام مسلمون، ولا يجوز الخروج على الحاكم المسلم – وإن جار – لكن هذا الأصل عند أهل السنة إذا كان الأمير للمسلمين واحدًا، أما إذا تعدد الأمراء – كما هو حاصل الآن – فلا سمع لأحد منهم ولا طاعة، وإمارتهم غير شرعية، أو أن

قد يقول قائل: سَلَّمْنا لكم بأن هؤلاء الحكام مسلمون، ولا يجوز الخروج على الحاكم المسلم وإن جار لكن هذا الأصل عند أهل السنة إذا كان الأمير للمسلمين واحدًا، أما إذا تعدد الأمراء كما هو حاصل الآن فلا سمع لأحد منهم ولا طاعة، وإمارتهم غير شرعية، أو أن السمع والطاعة لواحد منهم فقط عُلِم أو لم يُعْلَم ومن هنا جاز لنا الخروج عليهم!!

فالجواب: الأصل أن المسلمين يجب عليهم أن يكونوا أمة واحدة، أُمة معتصمة بالكتاب والسنة، وليس لهم إلا أمير واحد يسوسهم بالكتاب المستبين، والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقد قال الله تعالى: ) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا( ([1]) وقال سبحانه ) وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ! مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( ([2]) وقال عز وجل  – ) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ( ([3]).

لكن هذا الأمر إذا لم يتحقق كما قد حصل من قبل، وكما هو حاصل الآن فهل يُجيز أهل السنة الافتئات على جميع الحكام أو أكثرهم، وإن أدى ذلك إلى اشتعال الفتنة في كل دولة بين حاكمها وشعبها ؟! أم يجب عليهم أن يسمعوا لكل حاكم  في المعروف، في حدود سلطانه، وأن يتعاونوا معه على البر والتقوى، ونصرة المظلوم، وردع الظالم … إلى غير ذلك مما يجب على ولاة الأمور ؟

إن الذي يفقه روح الشريعة، ويعرف مقاصدها وكلياتها، ويقف على كلام السلف الذين أدركوا نحو هذا الحال؛ لا يتردد في القول بالمذهب الثاني، وهو السمع والطاعة فيما يرضي الله، والتعاون ما أمكن على إقامة المعروف، وإنكار المنكر وإزهاقه، كلٌّ مع من اجتمعت عليه الكلمة في قُطْرِهِ، فإن الشريعة جاءت بتكميل المصالح وتحصيلها، وبتعطيل المفاسد وتقليلها، وإذا أمكن اجتماع الخيرين؛ وإلا فليُقَدَّم أوكدهما بتفويت أدناهما، وإذا عجزنا عن دفع المفسدتين؛ وإلا فَلْيُرْتَكَب أدناهما، لتفويت أشدِّهما، وهذا كله مأخوذ من أدلة كثيرة، منها قوله تعالى: ) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( ([4]) وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم )).

وقد صرح بعض العلماء بهذا الجواب، وقد جمع كثيرًا من كلامهم أخونا الفاضل الشيخ عبد السلام العبدالكريم سلمه الله في كتابه المبارك الجامع في بابه ((معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة))([5]) فجزاه الله تعالى خيرًا على ذلك، وقد نقلت عنه بعض المواضع، وزدت عليها مواضع أخرى، فمن ذلك:

1 ـــ قال شيخ الإسلام ابن تيمية([6]): ((والسنة أن يكون للمسلمين إمامٌ واحد، والباقون نوّابه، فإذا فُرِض أن الأمة خرجت عن ذلك- لمعصية من بعضها، وعَجْزٍ من الباقين فكان لها عدة أئمة؛ لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق…)).اهـ.

2 ـــ وقال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى   – ([7]):

((الأئمة مجمعون في كل مذهب: على أن من تغلَّب على بلد أو   بلدان؛ له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا مااستقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحدًا من العلماء ذكر أن شيئًا من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم )).اهـ.

3 ـــ وقال العلامة الصنعاني محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله تعالى   – في ((سبل السلام))([8]) في شرح قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، ومات؛ فَمِيتته جاهلية ((فقال رحمه الله تعالى   –: قوله: (عن الطاعة ) أي طاعة الخليفة الذي وقع الإجماع عليه، وكأنَّ المراد خليفة أي قطر من الأقطار، إذْ لم يجتمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من  أثناء الدولة العباسية، بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم، إذ لو حُمِلَ الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام؛ لقلَّت فائدته…)).اهـ.

4 ـــ وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى   – في ((السيل الجرار))([9]) شارحًا قول صاحب ((الأزهار)): ( ولا يصح إمامان ) فقال الشوكاني:

((وأما بعد انتشار الإسلام، واتساع رقعته، وتباعد أطرافه؛ فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر كذلك، ولا ينعقد لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطرالآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي ثبتت فيه ولايته، وبايعه أهله؛كان الحكم فيه: أن يُقْتل إذا لم يتب، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته؛ لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانه، ولا يُدرى من قام منهم أو مات، فالتكاليف بالطاعة والحال هذا تكليف بما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد.

فاعرف هذا، فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودعْ عنك ما يقال في مخالفته؛ فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام، وما هي عليه الآن؛ أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا؛ فهو مباهت لا يستحق أن يُخاطب بالحجة؛ لأنه لا يعقلها )).اهـ.

قلت: وما ذكره العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى   – من سبب في ذلك الأمر منتفٍ الآن؛ لسهولة الاتصال بأطراف العالم في أقل زمن وبأدنى تكلفة، لكن بقي أمر العجز عن الاجتماع،كما ذكره شيخ الإسلام  ابن تيمية رحمه الله تعالى   – فبقي الحكم قائمًا أيضًا، والله أعلم.

5 ـــ وقال صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى   –: ((الأمة الإسلامية تفرقت من عهد الصحابة، تعلمون أن عبدالله بن الزبير في مكة، وبني أمية في الشام، وكذلك في اليمن أناس، وفي مصر أناس، ومازال المسلمون يعتقدون أن البيعة لمن له السلطة في المكان الذي هم فيه، ويبايعونه، ويدْعونه بأمير المؤمنين، ولا أحد ينكر ذلك، فهذا شاقٌّ لعصا المسلمين من جهة عدم التزامه بالبيعة، ومن جهة أنه خالف إجماع المسلمين من عهد قديم.

والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((اسمعوا وأطيعوا؛ وإن استعمل عليكم عبد حبشي … )).([10]) .اهـ.

وقال رحمه الله تعالى – في شرح حديث: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة... )) الحديث:

((في حديث أبي هريرة: ((رجل بايع إمامًا، لا يبايعه إلا للدنيا، إن أعطاه؛ وَفَّى له بالبيعة، وإن لم يعطه؛لم يف بالبيعة)): هذا أيضًا من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، وذلك أن بيعة الإمام واجبة، يجب على كل مسلم أن يكون له إمام، سواء كان إمامًا عامًّا كما كان في عهد الخلفاء الراشدين       ومن بعدهم من الخلفاء أو إمامًا في منطقة ، كما هو الحال الآن.

ومنذ أزمنة بعيدة من زمن الأئمة والناس متفرقون، كل جهة لها إمام، وكل إمام مسموع له ومطاع بإجماع المسلمين، لم يقل أحد من المسلمين إنه لا تجب الطاعة إلا إذا كان خليفة واحدًا لجميع بلاد الإسلام، ولا يمكن أن يقول أحد بذلك، لأنه لو قيل بهذا؛ ما بقي للمسلمين الآن إمام، ولا أمير، ولَمَاتَ الناس كلهم ميتة جاهلية، لأن الإنسان إذا مات فإنه يموت ميتة جاهلية، يُحْشَر مع أهل الجهل والعياذ بالله الذين كانوا قبل الرسالات، فالإمام في مكان وفي كل منطقة بحسبها )).([11]) .اهـ.

فهذه أقوال جماعة من الأئمة في موضع النـزاع، بل كل ما سبق نقله من نصوص الأئمة في جواب الشبهة العاشرة، من عدم منازعة ولي الأمر، وعدم الخروج عليه بما في ذلك الإتفاق الذي حكاه البخاري وغيره كل ذلك قاطع لدابر هذه الدعوى، فإنها أقوال قيلت وحُكِيَتْ في حالٍ لم تكن الأمة فيه مجتمعة على إمام واحد، فتدبر.

واعلم بأن قواعدَ الشريعة تشهد لهذه الأقوال المأثورة عن أهل العلم، وما لا يُدرك كله؛ لا يُترك جُله، ومن سلك مسلك  السلف؛ نجا، ومن شاقَّهم؛ هلك، قال الله تعالى:)وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(([12]) لاسيما إذا كانت المشاقة في أمرٍ يترتب عليه فساد الخاصة والعامة.

وأيضًا، فإذا كان كل حاكم قد قنع بحدود ولايته، وخرج الناس على حاكمهم الذي له عليهم شوكة وقدرة، وسعوا للدخول تحت إمارة ذلك الحاكم الذي لا يرغب في ذلك رِضًا منه بما تحت يده فإن هذا يؤدي إلى فساد عريض!! لأنه لا يقبلهم، وهم لم يقبلوا حاكمهم!! وسيجرّ هذا على الناس شرًّا مستطيرًا!! فكيف إذا قبلهم الإمام الآخر؟!

فما بقي إلا أن يصبر كل تحت ولاية من ولاه الله عليه، ويتعاون معهم على البر والتقوى، دون إثارة النعرات الجاهلية بين الدول المسلمة، مع دعاء الله عز وجل  – أن يجمع المسلمين على البر والتقوى، والسعي في تحقيق ذلك، والله أعلم

فإن قيل: لقد جاء في ((مراتب الإجماع))([13]) لابن حزم، أنه قال: ((واتفقوا أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا مُتَّفقان، ولا مفترقان  ولا في مكانين، ولا في مكان واحد )).اهـ.

وقال الذهبي: ((واتفق كل من ذكرْنا يعني: ما ذكر من الفِرق على أنه لا يكون في وقت إلا إمام واحد، إلامحمد بن كرام، وأبا الصباح السمرقندي، وأصحابهما، فإنهم ِأجازوا كون إمامين وأكثر في وقت واحد… )).([14]) .اهـ.

قلت: نعم، لا يجوز تفرق الأمة، والواجب عليهم أن يجتمعوا على الحق، وتحت إمام واحد، لكن البحث فيما إذا وقع  التفرق، وسعى المصلحون لجمع الكلمة فعجزوا عن رأب الصدع؛ فهل يُتْرك الناس بلا إمام يأمرهم وينهاهم ؟! فإن قيل: نعم، فهذا فساد لا يغطيه ذيل، ولا يستره ليل، وقائل ذلك مخالف للمنقول والمعقول، ولا يستحق أن يخاطب بالحجة، لأنه إما مكابر، أو جاهل.

وإن قيل: لا بد من اتخاذ الإمارة دينا، لتحصيل ما أمكن من الخير، وتقليل ما أمكن من الشر؛ فهذا قول من سبق من العلماء الفقهاء في الشريعة، ومقاصدها، وكلياتها، ولا يتأتي هذا إلا بسمع وطاعة في المعروف، وتعاون على البر والتقوى، ويكون لكل أمير في سلطانه حقوق الأمير العام، إلا ما استثناه الدليل، والله أعلم.

وقد علَّق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله  – على ما قال ابن حزم، فقال:

((قلت: النـزاع في ذلك معروف بين المتكلمين في هذه المسألة، كأهل الكلام والنظر، فمذهب الكرامية وغيرهم: جواز ذلك، وأن عليًّا كان إمامًا، ومعاوية كان إمامًا، وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم: أن كلًا منهما يُنَفَّذُ حكمه في أهل ولايته، كما يُنَفَّذ حكم الإمام الواحد، وأما جواز العقد لهما ابتداءً؛ فهذا لا يُفْعَل مع اتفاق الأمة، وأما مع تفرقتها؛ فلم يَعْقِد كل من الطائفتين لإمامين، ولكن كل طائفة إما أن تسالم الأخرى، وإما أن تحاربها، والمسالَمَةُ خير من محاربةٍ يزيد ضررها على ضرر المسالمة، وهذا مما تختلف فيه الآراء والأهواء )).اهـ.

قلت: فإن استدل من يرى عدم السمع والطاعة للحكام عند التعدد بحديث: ((إذا بويع لخليفتين؛ فاقتلوا الآخر منهما))([15]).

فالجواب: أن هذا يكون عند قدرة المسلمين وقوتهم، واجتماع كلمتهم على خليفة ذي شوكة وسلطان، ثم جاء آخر ينازعه؛ فيُقْتل كائنًا من كان، لأنه بذلك يريد أن يشق عصا المسلمين، وأمرهم جميع على رجل، كما أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. ([16])

أما إذا كان المسلمون متفرقين، ولكل من الخليفتين شوكة، وستطحن رحى الفتن المسلمين هنا وهناك؛ فالمسالمة خير من المحاربة، كما قال شيخ الإسلام، وهذا هو المراد من الإجماع السابق. 

فيُفَّرَّق بين حال الاجتماع وقوة الخليفة الأول، وبين حالة التفرق، وقوة الخليفة الآخر، أو ضعف الأول وعجزه، و) قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (. ([17])



([1]) [ آل عمران: 103 ].

([2]) [ الروم: 31 ـ 32 ].

([3]) [ الأنبياء: 92 ].

([4]) [ التغابن: 16 ].

([5])(ص 33-37).

([6])((مجموع الفتاوى)) (34/ 175- 176).

([7])”الدرر السنية)) (7/239).

([8]) (3/499).

([9]) ( 4/512).

( [10]) نقلًا عن ((الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية)) ( ص 81 82 ).

([11]) ((شرح رياض الصالحين)) (4/503) ط/ دار البصيرة.

([12]) [ النساء: 115 ].

([13]) (ص124) ط. دار الكتب العلمية.

([14]) في ((المقدمة الزهرا في إيضاح الإمامة الكبرى)) (ص70-73) ط. مكتبة ابن عباس، ت: أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني.

([15]) أخرجه مسلم برقم (1853).

([16]) انظر ((صحيح مسلم)) رقم (1852).

([17]) [ الطلاق: 3 ].