قد يقول قائل: نحن لم نخرج على الحكام، إنما أردنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك عندما رأينا شيوع المنكرات، وعدم إنكارها، وقد وردت أدلة كثيرة في فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلماذا تنكرون علينا ونحن قد رأينا المنكر، والرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((من رأى منكم منكرًا؛ فليغيره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) وفي رواية: ((وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ))؟.
فالجواب: إن تسمية الأشياء بغير اسمها – بما يورث مفسدة، أو يخالف الشرع – ليس من عمل أهل العلم والفضل، ومع ذلك فلا يغير هذا من الحقيقة شيئًا، عند من آتاه الله بصيرة في الدين.
وقد قال النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : ((يأتي زمان على الناس يُسمّون فيه الخمر بغير اسمها…)).
وعند الخلال في ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))([1]): ((وأخبرني محمد بن علي حدثنا صالح أن أباه – يعني أحمد بن حنبل – قال: التغيير باليد: ليس بالسيف والسلاح)).اهـ.
وقد نقل شيخ الإسلام ([2]) كلامًا لأبي حنيفة – رحمه الله تعالى – أن أبا مطيع الحكم بن عبد الله ، قال له: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فيتبعه على ذلك أناس، فيخرج على الجماعة ؟ هل ترى ذلك ؟ قال: ((لا)) قلت: ولم، وقد أمر الله رسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي فريضة واجبة ؟ قال: ((هو كذلك، لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون: من سفْك الدماء، واستحلال إلى الحرام...)).اهـ.
وقال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى –: ((إنه لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه، ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف، لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه يحصل بذلك من فِعْلِ المحرمات، وتَرْكِ ( الواجبات ) أعظم مما يحصل بفعلهم – أي بفعل الأئمة – المنكر والذنوب… )).([3]) .اهـ.
فهذا يدل على أن التفجيرات ليست من منهج أهل السنة والجماعة في تغيير المنكر على ولاة الأمور، هذا إن قلنا بقول من يرى أن التغيير باليد لآحاد الرعية في هذا الموضع، والله أعلم.
ولا يخفى أن المعتزلة سمّوا الخروج على الحكام الظلمة: أمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر!! وهذا أحد أصولهم الخمسة!! فما هو الفرق إذًا ؟! وسمّوا تعطيل الصفات توحيدًا، وسموا قولهم المنحرف في القدر عدلا، وكذا سمى الجهمية تعطيلهم تنـزيهًا وتوحيدًا، وسمَّوا أهلَ السنة مجسّمة ومشبهة، وسمى الصوفية خرافاتهم تخلية وتزكية، وسمى الروافض تكفير الصحابة حُبًّا لأهل البيت… وهكذا!!
فالدعاوى إن لم يقيموا عليها بينات فأبناؤهـا أدعيـاء!!
فمن ذا الذي يقبل منكم القول بأن قتل الحاكم الفلاني ليس خروجًا عليه، وإنما هو أمر له بالمعروف، ونهي عن المنكر – كما تزعمون – ؟ فأي شيء أبقيتموه له – بعد قتله – وأنتم تريدون له التحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل ؟! وأيضًا من ذا الذي سيغتر بذلك وهو يرى دماء المسلمين: من أطفال، ونساء، وشيبان، وأبرياء تختلط بالثياب والتراب، وتتطاير لحومهم نتفًا نتفًا ؟! من ذا الذي سيقول: هذا هو الأمر بالمعروف الذي مدح الله به المسلمين، وجعله أصلًا في دينهم ؟!
أليس الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يُشترط فيه أن يكون عليمًا بما يأمر،حليمًا في ما يأمر به ؟ أي حلم في القتل والجرح وترويع الآمنين ؟!
ولقد قال شيخ الإسلام في ((منهاج السنة))([4])؛ وقد ذكر حديثًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – ويُنظر حاله – ثم قال:
((وفي الحديث: من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر؛ فينبغي أن يكون عليمًا بما يأمر به، عليمًا بما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به، حليمًا في ما ينهى عنه )).
قال: ((فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر، والحلم بعد الأمر، فإن لم يكن عالمًا؛ لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم، وإن كان عالمًا ولم يكن رفيقًا؛ كان كالطبيب الذي لا رفق فيه، فيغلظ على المريض؛ فلا يقبل منه، وكالمؤدِّب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد، وقد قال الله تعالى لموسى وهارون – عليهما السلام –: ) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (([5]).
ثم إذا أمر ونهى؛ فلا بد أن يُؤْذَى في العادة، فعليه أن يصبر ويَحْلُم، قال الله تعالى: ) وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( وقد أمر الله نبيه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالصبر على أذى المشركين في غير موضع، وهو إمام الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، فإن الإنسان عليه أولًا: أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمر به، وهو يحب صلاح المأمور، وإقامة الحجة عليه…)).اهـ.
فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يكونا بعلم ورفق وحلم، فأين هذا من التفجيرات التي تُفضِي إلى تطاير الأشلاء والفزع والهلع ؟!
ثم أليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مُقَيَّدَيْن بعدم تجاوز الحدِّ في العقوبة، وبعدم زيادة الشر، فإن زاد بهما الشر؛ فلا يجوز الإقدام عليهما أو أحدهما ؟!
وقد سبق كلام كثير من الأئمة في مراعاة ماتؤول إليه الأمور، وأن تغيير المنكر إذا كان سيفضي إلى منكر مثله أو أكبر منه؛ فلا يُنهى عنه، ولا يُسمَّى تارك النهي عن المنكر – والحال هذه – مسيئًا، بل هو محسن، مُتّبع، غير مبتدع، والله أعلم.
هذا؛ ولا زال في بعض بلاد المسلمين كالمملكة العربية السعودية- حرسها الله وجميع بلاد الإسلام من كل مكروه – بقايا خير في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجب الحفاظ على ذلك، والتعاون معهم في تقويم ما اعْوَجَّ – بالتي هي أحسن – لا هَدْم ما بقي من الخير، ويكون الحال: كمن بنى بيتًا، وشيَّده، وزخرفه، وأتقنه، ثم رأى فيه خَرْقًا؛ فلم يذهب إلى إصلاحه وترميمه، بل ذهب إلى هدمه وإزالته، والعزم على بناء غيره من جديد!! إلا أنه قصرت به النفقة؛ فلم يستطع البناء، أو تسلَّط عليه عدو – ولا بيت له يحميه – فظفر به عدوه، أو اختلف مع إخوانه في أي أمر من أمور الدنيا؛ فحيل بينه وبين ما يشتهي!!
فنعوذ بالله أن تذهب بقايا الخير على أيدينا، أو أن يستحكم الشر بنا!! فوالله لَبَطْن الأرض خير من ظهرها إذا كنا مطية لأعدائنا – ونحن نشعر أَوْلا نشعر – فتسيل بنا الدماء المعصومة، وتُزْهَق الأنفس المحرمة، وتُهْدَر الأموال، وتُنْتَهك الحرمات، والله المستعان!!
([1]) ( ص 44 ) برقم ( 28 ) ط / دار الكتب العلمية، ت / عبدالقادر أحمد عطا.
([2]) ((مجموع الفتاوى)) (5/47).
([3]) ((مجموع الفتاوى)) (14/472).
([4]) (5/253-254).
([5]) [ طه: 44 ].