يقول بعضهم: إذا كنتم ترون جواز قتال العدو الذي احتل بلادنا، فهؤلاء الحكام مِنْ وَضْعِ وتنصيب هؤلاء الأعداء، ويُنَفِّذون أوامرهم في بلاد المسلمين، فلماذا تمنعوننا من قتالهم، وتعدُّون ذلك خروجًا عليهم، ومخالفة لمنهج السلف ؟!
والجواب على ذلك من وجوه – إن شاء الله تعالى -:
الأول: أن قتال المحتل الغاصب فرض عين على أهل البلد المغتصَب، شريطة القدرة على ذلك، وليس على الإطلاق كما يدَّعي هؤلاء وقد يتعدى هذا الحكم لغيرهم، كما هو موضح في موضعه، فمراعاة الاستطاعة، وعدم زيادة الشر عما هو حاصل، ورجاء حصول النكاية بالعدو، وتعطيل الشر أو تقليله؛ كل ذلك معتبر في هذا المقام.
الثاني: جرت العادة بأن أهل البلد المحتَلِّ يجتمعون – غالبًا – على إخراج العدو الغازي، ويؤازر بعضهم بعضًا على ذلك، كل حسب استطاعته، لكن إذا كان حاكمهم منهم – وإن سلمنا جدلًا بصحة إطلاق ما جاء في هذه الشبهة!! – فإن الصفوف تفترق، والآراء تختلف ولا تتفق، فترى مع الحاكم فئة، ومع خصومه فئة أخرى، ثم تجرّ هذه الفتن ويلات، وظلمات، ونكبات لا يعلم بها إلا رب الأرض والسماوات!!
فهل يقاس هذا بذاك ؟ وهل تُستباح الحُرمات، وتُهجر القواعد المحكمات، بمثل هذه الوساوس والشبهات ؟!
الثالث: هناك فرق بين من يُنفِّذ من الحكام وغيرهم بعض أوامر الأعداء عن رغبة وطواعية في مخالفة المقطوع به من الشريعة، وبين من يكره ذلك أشد الكراهية، لكنه يرى أن ذلك من ارتكاب المفسدة الصغرى لدفع المفسدة العظمى، وإنما يفعل هذا لأنه ضعيف، ولأن إخوانه الحكام المسلمين يخذلونه من حوله، وسواء أصاب في تقديره ذلك، أم لا، فإن هذا يوجب فرقًا واسعًا – ولا بد – في الحكم بين الأمرين، فلا يُسوِّى بينهما ويُفتى بإراقة الدماء بين الحكومات المسلمة وشعوبها؛ إلا من حُرِم التوفيق، وانحراف عن جادة الطريق، ولاحول ولاقوة إلا بالله.
ولقد حسن من قال:
شتان بين الحالتين فإن تُرِدْ جَمْعًا فما الضدانِ يجتمعانِ
والله ما استويا ولن يتلاقيا حتى تشيب مفارق الغربان
الرابع: ثم من الذي يُخَوَّل له أن يحكم بكُفْر الحكام بأعيانهم، ثم يُقَدِّر أن الخروج عليهم وقتالهم مما أوجبه الله على الشعوب، وأن المصلحة في ذلك راجحة أم لا ؟! هل يُرجع في ذلك إلى العلماء الراسخين المهديين، الذين عُرفت آثارهم الصالحة في المجتمعات، وعُرفوا بالغيرة المقيدة بالحكمة والتؤدة، وبُعْد النظر، وسعة الإدراك، وحُسْن تقدير المصالح والمفاسد، أم يُرجع في ذلك إلى الشباب المتهورين، الذين فتحوا على الأمة أبواب الفتنة في كل مكان، والذين يُحْدِثون الفتنة، ثم يهربون إلى أطراف الأرض، أو إلى بلاد الكفار، ويتركون الساحة خاليةً لأهل البدع والأهواء، فيعيثون في الأرض فسادًا، ويُهلكون الحرث والنسل، ويتذرعون بأعمال هؤلاء الهاربين لضرب ما بقي من خير في المسلمين ؟!
إن هذا كله ليؤكد أن المرجع في هذه الفتاوى المصيرية هم كبار أهل العلم، أهل الإدراك والفهم، كما قال تعالى: ) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ( ([1]) والله المستعان.
([1]) [ النساء: 83 ].