شبهات والرد عليها

يقول بعضهم: إن هؤلاء الحكام لم يُجْمِع الناس على بيعتهم، فلازال هناك من يعارض ويطعن في إمارتهم، ونحن لم نبايعهم بأنفسنا، ولذا فلا حق لهم علينا في السمع والطاعة، ولا حرمة لهم، ويجب الخروج عليهم.

يقول بعضهم: إن هؤلاء الحكام لم يُجْمِع الناس على بيعتهم، فلازال هناك من يعارض ويطعن في إمارتهم، ونحن لم نبايعهم بأنفسنا، ولذا فلا حق لهم علينا في السمع والطاعة، ولا حرمة لهم، ويجب الخروج عليهم.

والجواب من وجوه بمشيئة الله تعالى:

الأول: أنه لا يُشترط فيمن يكون إمامًا يُسْمَع له ويُطاع: أن يُجْمِعَ الناس كلهم عليه فردًا فردًا، ولو كان ذلك كذلك؛ لما صحت بيعة أكثر الأئمة من الصحابة فمن دونهم؛ لِتَعَذُّرِ حصول ذلك!!

إنما المطلوب المجزئ في ذلك: بيعة جمهور أهل الشوكة، أو أهل الحل والعقد، وتَخَلُّف بعضهم بعد ذلك لا يضر، وقد قال شيخ الإسلام   ابن تيمية – رحمه الله تعالى – ([1]) في سياق رده على الرافضي الذي ادعى أن أبا بكر رضي الله عنه  – لم تكن ولايته إلا بمبايعة عمر، ورِضى أربعة فقط، فقال شيخ الإسلام مبينًا بما تثبت الإمامة عند أهل السنة:

((بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إمامًا حتى يوافقه أهل الشوكة عليها، الذي يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان؛ صار إمامًا.

ولهذا قال أئمة السلف: من صار له قدرة وسلطان، يفعل بهما مقصود الولاية؛ فهو من أُولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم، مالم يأمروا بمعصية الله.

فالإمامة مُلْكٌ وسلطان، والملِكُ لا يصير مَلِكًا بموافقة واحد، ولا اثنين، ولا أربعة، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم، بحيث يصير مَلِكًا بذلك، وهكذا كُل أمر يفتقر إلى المعاونة عليه؛ لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه،ولهذا لما بويع علي، وصار معه شوكة؛ صار إمامًا…)).

ثم قال: ((فكون الرجل أميرًا، وقاضيًا، وواليًا، وغير ذلك من الأمور التي مبناها على القدرة والسلطان، متى حصل ما يحصل به من القدرة والسلطان ؛ حصلت، وإلا فلا، إذِ المقصود بها عمل أعمال لا تحصل إلا بقدرة، فمتى حصلت القدرة، التي يمكن بها تلك الأعمال؛ كانت حاصلة، وإلا فلا )).

إلى أن قال: ((والقدرة على سياسة الناس: إما بطاعتهم له، وإما بقهره لهم، فمتى صار قادرًا على سياستهم: بطاعتهم أو بقهره؛ فهو ذو سلطان مطاع، إذا أمر بطاعة الله… )).

ثم ذكر قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى – الذي في ((رسالة عبدوس بن مالك العطار)) وقد سبق ذِكْره.

ثم قال رحمه الله تعالى –: ((وأما نفس الولاية والسلطان: فهو عبارة عن القدرة الحاصلة، ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله، كسلطان الخلفاء الراشدين، وقد تحصل على وجه فيه معصية، كسلطان الظالمين.

ولو قُدِّر أن عمر وطائفة معه بايعوه يعني أبا بكر وامتنع سائر الصحابة عن البيعة؛ لم يصر إمامًا بذلك، وإنما صار إمامًا بمبايعة جمهور الصحابة، الذين هم أهل القدرة والشوكة، ولهذا لم يضرَّ تخلُّفُ سعد بن عبادة؛ لأن ذلك لا يقدح في مقصود الولاية، فإن المقصود حصول القدرة والسلطان اللذين بهما تحصل مصلحة الإمامة، وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك.

فمن قال: إنه يصير إمامًا بموافقة واحد، أو اثنين، أو أربعة، وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة؛ فقد غلط، كما أن من ظن أن تخلف الواحد، أو الاثنين، والعشرة يضر؛ فقد غلط )).اهـ.

وقال رحمه الله تعالى – بعد ذكره الأمر بطاعة السلطان وإن جار : ((… فتبيَّن أن الإمام الذي يُطاع: هو من كان له سلطان، سواء كان عادلًا أو ظالمًا )). ([2]) .اهـ.  

الوجه الثاني: سبق من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى – أن تخلف بعض أهل الشوكة فضلًا عمن لا شوكة له لا يضر بيعة  الإمام، ولا يؤثر في السمع والطاعة له بالمعروف، لأن اشتراط اجتماع الجميع لا يجب شرعًا، ولا يتحقق واقعًا، فإذا كان أي تخلّف عن البيعة يضر بها؛ فلا تصح إذًا بيعة أبي بكر؛ لتخلف سعد بن عبادة وغيره!! كما لا تصح بيعة علي لتخلف أهل الشام!! وإذا كان هذا في هذين الخليفتين الراشدين؛ فما ظنك بمن جاء بعدهما من الأمراء الذين رفض بيعتهم عدد كثير من الناس، بل خرجوا عليهم ؟!

ومعلوم أن الأمور مستقرة لهؤلاء الحكام مع وجود من يكرههم، أو يخرج عليهم، وعلى ذلك فيجب السمع والطاعة لهم في المعروف.

وقد قال صاحب الفضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى – في ((شرح رياض الصالحين))([3]):

((قد يقول قائل مثلا: نحن لم نبايع الإمام، فليس كل واحد بايعه!!

فيقال: هذه شبهة شيطانية باطلة؛ فالصحابة رضي الله عنهم  – حين بايعوا أبا بكر: هل كل واحد منهم بايع، حتى العجوز في بيتها، والذي في سوقه ؟! أبدًا، المبايعة لأهل الحل والعقد، ومتى بايعوا؛ ثَبَتَتْ على كل أهل هذه البلاد، شاء أو أَبَى، ولا أظن أحدًا من المسلمين بل العقلاء يقول: إنه لا بد أن يبايع كل إنسان، ولو في جحر بيته، ولو عجوزًا، أو شيخًا كبيرًا، أو صبيًّا صغيرًا!! ما قال أحد بهذا…)).

إلى أن قال رحمه الله تعالى –: ((في الدين الإسلامي: متى اتفق أهل الحل والعقد على الإمام؛ فهو الإمام، شاء الناس أو أبَوْا، فالأمر كله لأهل الحل والعقد، ولو جُعل الأمر لعامة الناس حتى للصغار، والكبار، والعجائز، والشيوخ، وحتى من ليس له رأي، ويحتاج أن يُوَلَّى عليه؛ ما بقي للناس إمام، لأنهم لا بد أن يختلفوا… )).اهـ.

وقال رحمه الله تعالى – في تعليقه على رسالة العلامة الشوكاني: ((رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين))([4]): ((… فلا أظن أنه يُوجد خليفة من الخلفاء ليس له منتقد في كل ما يفعل، أنتم تعرفون أن الانتقادات وُجِّهتْ إلى أبي بكر وعمر، وعثمان، وعلى، ولكن بعضها بحق، وبعضها بغير حق، وغالبها في الخلفاء الراشدين لم يكن أكثرها بحق، بل البعض وجَّه الطعن إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقال له: اعدل، هذه قسمة ما أُريد بها وجه الله...)).اهـ.

قلت: قد سبق أن إجماع جميع أهل الحل والعقد أيضًا ليس  شرطًا، إنما المقصود يحصل بجمهور أهل الشوكة، وإن تخلف بعضهم، والله أعلم.

الثالث: لو فرضنا أنكم وصلتم إلى الحكم، فهل سيُجمع الناس عليكم قاطبة ؟ أم سيوجد من لا يرضاكم أيضا ؟!

فإن قلتم: سيُجمعون علينا؛ كذَّبكم الواقع، فأنتم تعلمون أن كثيرًا من المشتغلين بالدعوة فضلا عن غيرهم لا يرضون طريقتكم، وربما لو ملكْتم؛ كان لهم شأن وشوكة، وخرجوا عليكم!!

وإن قلتم: لا يُجمعون علينا، قلت: فهل تُجوِّزون لهم الخروج عليكم، كما خرجتم على من سبقكم بحجة عدم الإجماع على بيعتهم، وأنتم لم يُجمع الناس عليكم بإقراركم هذا ؟!

فإن قلتم: لا؛ تناقضتم، وإن قلتم: نعم؛ فتحتم باب الفتن والهرج على المسلمين إلى يوم القيامة، وكفى فسادًا بقولٍ هذا حاله ومآله، والله أعلم.

فإن قال قائل: هناك قول لأحمد يدل على أن الإمام لا يكون إمامًا إلا إذا أُجْمع عليه، فقد جاء في رواية إسحاق بن منصور، أن أحمد سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من مات وليس له إمام؛ مات مِيتة جاهلية)) ما معناه؟ فقال: تدري ما الإمام ؟ الإمام الذي يُجمع عليه المسلمون كلهم، يقولون: هذا إمام، فهذا معناه. اهـ ([5])

قالوا: وعلى ذلك فحكام زماننا لم يُجمع عليهم المسلمون كلهم، فلهم في كل بلد إمام، وفي البلد الواحد يوجد كثير لم يبايعوهم، فمن لم يبايعهم، ومن ثَم خرج عليهم؛ فلا حرج.

والجواب: ليس المراد من كلام الإمام أحمد إجماع جميع المسلمين فردًا فردًا على البيعة، بل لا يستقيم فَهْم كلام أحمد على أن المراد بذلك جميع أهل الحل والعقد، لأن ذلك لم يتوافر في إمامة معظم أئمة المسلمين!!

فهذا صدِّيق هذه الأمة رضي الله عنه  – قد امتنع عن بيعته بعض الصحابة من ذوي الشوكة فضلا عن غيرهم ، فهل أبو بكر لا يُسَمَّى إمامًا عند أحمد وعندكم ؟!

وهذا علي بن أبي طالب قد امتنع عن بيعته أهل الشام من الصحابة والتابعين، فهل يَنقض ذلك كونه أمير المؤمنين ؟!

وقد ذكر شيخ الإسلام أن ثُلُثَ الأمة، أو أقل، أو أكثر، لم يبايعوا  عليا، بل قاتلوه، والثلث الآخر لـم يقاتلوا معه، وفيهم من لم يبايعه أيضًا… ([6]) .اهـ. 

وقد بدَّع الإمام أحمد الذي نقلتم كلامه من لم يُرَبِّع بإمامة علي ([7]).

هذا؛ مع علم أحمد بأن عليًا قد نازعه كثيرون في إمامته، بل قُتل- رضي الله عنه  – من بعض خصومه وهم الخوارج، الأمر الذي يدل على قوة خصوم علي رضي الله عنه  –!!

وأكثر أمراء بني أمية، وبني العباس، وغيرهم من الأمراء لم يُسلَّم لكل أمير منهم بإمامته من جميع من هم تحت سلطانه، فضلا عمن أقام دولة في مكان آخر من البلاد، وخرج من سلطانه بالكلية.

فلو كان هذا الفهم لكلام أحمد صحيحًا؛ لما أنكر أحمد على من لم يُرَبِّع بخلافة عليّ، ولما قامت للمسلمين قائمة، لأن الوقع يشهد بعدم تحقق هذا الإجماع، إنما يُكتفى بموافقة جمهور أهل الشوكة، كما سبق، والله تعالى أعلم.

ويُضاف إلى ذلك: أنه قد سبق  من كلام أحمد أنه قال: ((ومن ولي الخلافة، فأجمع عليه الناس، ورضُوا به، ومن غلبهم بالسيف، حتى صار خليفة، وسُمِّي أمير المؤمنين، فدَفْع الصدقات إليه جائز، برًا كان أو فاجرًا)) فقوله: ((ومن غلبهم بالسيف)) معلوم أن من كان كذلك لا يكون مجمعًا عليه، بل إن أحمد قد غاير بين من أجمع عليه الناس، وبين من غلب عليها بالسيف، فدل على أن من غلبهم بالسيف ليس مُجْمَعًا عليه، ومع ذلك فقد قَبِل أحمد تسميته بأمير المؤمنين، وأفتى بدَفْع الصدقات إليه.

بل جميع النصوص الآمرة بالصبر على جور الحكام، وأثرتهم على الناس، وضرْب الظهر، وأخذْ المال؛ كلُّ ذلك يدل على الصبر والسمع والطاعة مع وجود من لم يرض بالإمام لظلمه، وأثرته، فأين الإجماع المدَّعَى على فهم أصحاب هذه الشبهة ؟!

( تنبيه ) سبق الجواب على شبهة من لم ير لحكام المسلمين السمع والطاعة لتعددهم، فلا حاجة لإعادة الجواب عن هذا القدْر من هذه الشبهة، والعلم عند الله تعالى.



([1]) ((منهاج السنة)) (1/527-531) وانظر أيضًا ( 8/335، 356،336).

([2]) ((منهاج السنة النبوية)) (1/561) وانظر (4/112،106).

([3]) (4/503-504) ط / دار البصيرة، الحديث رقم (1835).

([4]) الشريط  (2 / أ ).

([5]) ((منهاج السنة)) (1/529).

([6])((منهاج السنة )) (8/338).

([7]) انظر ((المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة)) جمع وتحقيق ودراسة د/ عبدالإله الأحمدي (1/381-384) ط/ دار طيبة.