شبهات والرد عليها

قد يقول قائل: نحن لا نرغب في قَتْل المسلمين، ولا نرى ذلك جائزًا، ولا نقصدهم ابتداءً، لكننا لا نستطيع أن نصل إلى الكفار – في بعض الأحيان – إلا بقتل بعض المسلمين، فيجوز لنا – والحالة هذه – أن نقتل بعض المسلمين، كما أفتى الفقهاء بنحو ذلك في مسألة التترُّس، ث

قد يقول قائل: نحن لا نرغب في قَتْل المسلمين، ولا نرى ذلك جائزًا، ولا نقصدهم ابتداءً، لكننا لا نستطيع أن نصل إلى الكفار في بعض الأحيان إلا بقتل بعض المسلمين، فيجوز لنا والحالة هذه أن نقتل بعض المسلمين، كما أفتى الفقهاء بنحو ذلك في مسألة التترُّس، ثم هم يُبعثون على نياتهم، كما جاء في الحديث!!

والجواب: أن الكلام معكم هنا في أمور:

1 ـــ لقد سبق أنَّ قَتْل المعاهَد الذي لم يف بعهده، سواء قتلتم معه مسلمًا أم لا ليس لكم، إنما يرجع أمره لولي الأمر، وهو الذي يحكم فيه، فإن لم يحكم فيه بالشرع، أو أهمل في ذلك؛ فيُنظر للتفصيل السابق عن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى – وأما واقعكم فبعيد عن هذا التفصيل، والمفسدة فيه غالبًا متحققة.

2 ـــ مسألة التترُّس: عبارة عن أخذ الكفار رهائن من المسلمين معصومي الدم، وجَعْلهم تُرْسًا بينهم وبين المسلمين، حتى إذا رماهم المسلمون؛ قتلوا إخوانهم قبل الكفار، فيكون هذا الأسلوب سبيل ضغط على المسلمين، حتى لا يرموهم، وبذلك يتسنّى للكفار الاستمرار في خطتهم لاجتياح بلاد المسلمين.

وقد فَصَّل الفقهاء في هذه المسألة: وجمهورهم بل ادعى بعضهم نفي الخلاف على أن قتل المسلم لأخيه المسلم لا يجوز إلا بضوابط مجموعة في قولهم: (ضرورية قطعية كلية).

فقولهم: ( ضرورية ) معناه: أن يكون ضرر الكفار بالمسلمين في الضروريات الخمس المعروفة، وهي: الدين، والنفس، والعقل،  والنسل، والمال.

وعندي: أن ذلك مقيد بأن يضطر المسلمون للدخول في الحرب مع المشركين، ولا يستطيعوا تأخير الحرب؛ أي أنها فُرِضت عليهم، بمعنى: أنهم إن تركوا المواجهة؛ استفحل شرُّ الكفار: فقتلوا الأسرى، وقتلوا المسلمين، وعاثوا في الأرض فسادًا!! وذلك بخلاف ما إذا أمكن دفع الكفار بغير قتل المسلمين الذين تترسوا بهم، فمن قتل المسلم والحال كذلك ضَمِن، والله أعلم.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى –: ((وأما إذا تترَّس الكفار بأسرى من المسلمين بعدد المقاتِلة؛ فإنه لا يجوز رمْيُهم، إلا أن يُخْشى على جيش المسلمين، وتكون مصلحة حفظ الجيش أعظم من حفظ الأُسارى، فحينئذٍ يجوز رَمْي الأسارَى، ويكون من باب دفْع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، فلو انعكس الأمر، وكانت مصلحة بقاء الأسرى أعظم من رميهم؛ لم يُجزْ رمْيُهم.

فهذا الباب مبنيٌّ على دفع أعظم المفسدتين بأدناهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، فإن فُرِض الشك وتَسَاوَى الأمران؛ لم يُجزْ رمْي الأسرى؛ لأنه على يقين من قتلهم، وعلى ظن وتخمين من قتْل أصحابه وهلاكهم، ولو قُدِّر أنهم تيقَّنوا ذلك، ولم يكن في قتْلهم استباحة بيْضة الإسلام، وغلبَة العدو على الديار؛ لم يَجُزْ أن يَقيَ نفوسهم بنفوس الأسرى، كما لا يجوز للمكره على قتل المعصوم أن يقتله ويَقِيَ نفسَه بنفسِه، بل الواجب عليه: أن يستسلم للقتل، ولا يجعل النفوس المعصومة وقايةً لنفسه ))([1]) .اهـ.

فهل هؤلاء الشباب قد اضطروا لذلك ؟ وهل هم يراعون هذه التفاصيل ؟! أم أنهم في كثير من  الأحيان هم الذين يبدؤون بالاقتحام والتفجير ؟! فكيف يكون مضطرًّا لِقَتْلِ مَنْ قَتَلَ من المسلمين؛ من يتسلّل في ليل أو نهار، ولا يُعْلَم حَالُه؛ إلا إذا دَوَّى صوت الانفجار الذي يهز المدن على مسافة عشرات   الأميال ؟!

أليس المنظِّرون لهذا الفكر هم الذين ألَّفوا الرسائل، واستدلوا بالأدلة على جواز ذلك ؟ فهل يكون مضطرًّا من يناضل عن هذا الفكر، ويتهم من خالفه بأقبح التهم ؟!

فإن قيل: لقد اضطررنا إلى ذلك عندما رأينا ما يجري في المسلمين من الكفار في عدة أقطار!!  

فالجواب: أن ذلك مقيد بعدم مخالفة الشرع بقتل الأبرياء من المسلمين أو الكفار ابتداءً، ومقيدٌ أيضًا بمراعاة المصالح والمفاسد، وهذا سيأتي بعد قليل إن شاء  الله تعالى –

وقول العلماء: ( قطعية ): أي أن تكون المصلحة المرجو جلبها؛ قطعية الحصول، أو أن تكون المفسدة التي يُرجَى درؤها؛ قطعية الدرء أو الدفع، أما إذا كانت ظنية محتملة؛ فلا.

وذلك لأن قتل المسلم المعصوم محرم قطعًا، فلا يُرْتكب محرم قطعي؛ لجلب مصلحة محتملة ظنية، والقاعدة أن اليقين لا يُترك للشك، ولا يمنع عندي أن يُعْمَل في ذلك أيضًا بغلبة الظن، فإن هذا معمول به في الشريعة، لكن ذلك مقيد بفهم أهل العلم والحلم، ومعلوم أن المؤمن يُقْتَل بشهادة عدلين عليه بالقتل، وفي ذلك قَتْلٌ لمن ثبتت عصمته في الدم يقينًا بغلبة الظن، والله أعلم.

فهل ما يفعله الشباب اليوم كذلك ؟! ولو كان الخير الذي يعود من وراء التفجيرات قطعيًّا كما يدعي بعضهم فلماذا هذه المفاسد التي لا يُغطيها ذيل، ولا يسترها ليل ؟!.

وسواء قالوا: التخطيط قطعي الدقة والمصلحة، لكن حصل خطأ في التنفيذ، أو فاتتنا عند الدراسة أمور، ظهرت لنا بعد ذلك، و نحو ذلك من اعتذارات؛ فكل ذلك ما يزيدنا إلا بصيرة بأن ضوابط القاعدة التي وضعها العلماء لم تتوافر، وأن الشباب بحالهم هذا ليسوا مؤهلين لتقدير المصالح، هذا لو سلمنا لهم بأن المصلحة محتملة، فكيف إذا كانت المفسدة هي الراجحة، وتكاد تكون قطعية في كثير من الأحيان والله أعلم ؟

وقولهم: ( كلية ): أي أن تكون المصلحة عامة للمسلمين، فلا يُقتل مسلم تترس به كافر لقتل كافر فقط، فمن الممكن أن يُترك المسلم والكافر في هذه الحالة، ويُمَكِّنُ الله من الكافر وحده مرة أخرى.

فإذا كانت المصلحة مصلحة عامة لا خاصة بشخص؛ فنعم، لأنه لا يجوز لشخص أن يَدْرأ عن نفسه بلاء، أو يجلب لنفسه مصلحة بإيقاع الضرر بمسلم آخر.

مثال ذلك: أن يَدْهم المسلمين في بلادهم عَدُوٌّ، وقد تترس بأسرى المسلمين، فإن ترك المسلمون الكفارَ وشأنهم؛ هلكوا هم والأسرى- لاستفحال شر الكفار وإن قاتلوهم دون قصد منهم لرمي إخوانهم المسلمين، فردّوا الكفار خاسرين، وفرح المؤمنون بنصر الله؛ فيكاد الإجماع ينعقد على وجوب قتال الكفار والحالة هذه، وبالشروط السابقة .

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى – ((… فإن الأئمة متفقون على أن الكفار، لو تترسوا بالمسلمين، وخيف على المسلمين إذا لم يقاتلوا؛ فإنه يجوز أن يرميهم، ونقصد الكفار، ولو لم نخف على المسلمين أي على بقية المسلمين جاز رمي أولئك المسلمين أيضًا في أحد قولي  العلماء، ومن قُتل لأجل الجهاد الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو في الباطن مظلوم؛كان شهيدًا، وبُعث على نيته، ولم يكن قتله أعظم فسادًا مِنْ قَتْل من يُقتل من المؤمنين المجاهدين، إذا كان الجهاد واجبًا وإن قُتل من المسلمين ما شاء الله فقتْل من يُقتل في صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد؛ ليس أعظم من هذا))([2]).

فهذا شيخ الإسلام ذكر أن قتل المسلم في مسألة التترس يكون عند خشية استفحال شر الكفار على بقية المسلمين باتفاق العلماء، وذكر أن ذلك يكون في الجهاد المأمور به، وهو الذي تكون فيه الكلمة العليا لله عز  وجل   – لا قتال الفتنة، الذي تربوا مفاسده على مصالحه!!

فأين هذا الحال من حال الشباب الذين يقتلون من المسلمين أكثر من غيرهم، أو يقتلون من لا يجوز قتله مسلمًا كان أو كافرًا، أو يقتلون الكافر الذي لا يجوز لهم أن يتولوا هم قتله ؟! ولو جاز لهم أن يتولوا قتله بأنفسهم، إلا أن المفاسد ستكون أعظم من مصلحة قتله؛ لما جاز لهم شرعًا والحال هذه أن يقتلوه، بل عليهم بالنصح والصبر، كما مر بنا.

3ـــ وأما استدلالكم بحديث عائشة ([3]) أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض؛ يُخْسَف بأولهم وآخرهم)) قالت: قلت: يا رسول الله،كيف يُخْسَف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم ؟ قال: ((يُخْسَف بأولهم وآخرهم، ثم يُبْعثون على نياتهم)).

فهذا الحديث ليس لكم فيه حجة على فِعْلِكُم هذا، وذلك:

لأن هذه عقوبة إلهية، وليس للبشر صلة بالتدخل فيها، والبشر مأمورون بلزوم الشرع، وحفْظ الأنفس المعصومة، ولله الحكمة البالغة في الخسف بهؤلاء الذين ليسوا منهم، وإلا فالله عز  وجل   – قادر على أن يُنـزل العقوبة بالظلمة منهم فقط، والله عز  وجل   – يقول: ) وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( ([4]) فلله حكمة لا يعلمها على حقيقتها إلا هو سبحانه، تقتضي قتل الجميع، ويُبعث من ليس منهم على نياتهم.

فكيف تقيسون على ذلك قتلكم المسلمين الآمنين وأنتم الذين خططتم لذلك، وتعلمون أنكم لن تصلوا إلى مرادكم إلا بقتل الأبرياء في الطريق، وتعلمون أنكم مَنْهِيُّون عن قتل الأبرياء ؟ فأنتم عاجزون عن قتل من تريدون قتله، دون من لا تريدون قتله، وأما ربي عز  وجل   – فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء فله في ذلك حكمة بالغة، عَلمها من عَلمها، وجهلها من جهلها، فكيف تقيسون هذا على ذاك ؟

هل لكم حكمة بالغة وحجة دامغة في ذلك ؟ هل لا يلحقكم شر ولا عيب في تصرفاتكم، إن هذه منـزلة ربي عز  وجل   – وهو منـزَّه عن كل عيب، وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((الخير كله بيديك، والشر ليس إليك )). ([5])

إني لأتعجب من أناس يقتلون البريء اختيارًا ثم يختلفون في بعثه كيف سيكون ؟! هل يُبعث على نيته،أم يبعث مع من قُتِل معه ؟ ثم يُبشِّرون أهله بأنه سيُبْعَث على نيته ؟! ألا تتقون الله، وتَدَعُونه حيًّا بين أهله، وأَمْر مَوْته وبَعْثِه على الله عز  وجل   – لا عليكم ؟!

وتأمل ما قال الحافظ في ((الفتح))([6]) في شرح هذا الحديث، فقد قال: ((واستنبط منه مالك عقوبة من يجالس شَرَبَة الخمر، وإن لم  يشرب، وتعقبه ابن المنيِّر: بأن العقوبة التي في الحديث: هي الهجمة السماوية، لا يقاس عليها العقوبة الشرعية، ويؤيده آخر الحديث حيث قال: يُبعثون على نياتهم )).اهـ.

فهذا كله يدل على الفَرْق بين الدليل والدعوى، والله أعلم.



([1]) ((مفتاح دار السعادة)) (2/355) ط. دار ابن عفان.

([2]) ((مجموع الفتاوى)) (28/537-538) وانظر (28/546-547).

([3]) الذي أخرجه البخاري برقم (2118) ومسلم برقم (2884).

([4]) [ الكهف: 49 ].

([5]) أخرجه مسلم برقم (1809).

([6]) (4/341).