يقول بعضهم: إن المفاسد التي تعدُّونها من آثار التفجيرات ليست ناتجة عن تفجير بعض المسلمين – إن صح ذلك – للمركز التجاري العالمي، إنما هي مفاسد موجودة من قبل، واستدل بأمور، منها:
1 ـــ أن الذين قاموا بها متبعون للأدلة السابقة، ومن عمل بموجَب الدليل؛ فقد حقق المصلحة ولابد، فلا يُسْأل عن مصلحة بعد ذلك.
2 ـــ واستدل أيضًا بأن ضرب الأعمال الإغاثية والدعوية والتعليمية في أماكن كثيرة من بلاد المسلمين ومراكزهم خارج بلاد المسلمين؛ كان أمرًا سيحصل ولو بدون هذه العلميات!! وكذا الشعوب الإسلامية قد دُبِّر أمر اضطهادها بليل، سواء حصلت عمليات أم لا!!
3 ـــ واستدل بأن التضييق على المسلمين في الغرب والاعتداء عليهم مفسدة جزئية، لأن عددهم هناك قليل،فلا يُنظر إلى مصلحتهم دون مصلحة بقية المسلمين!!
4 ـــ واستدل بأن من يخاف من تشويه الغرب للرجل المسلم، وتصويره أمام العالم بأنه سفاح؛ هذا منطق المنهزمين المتخاذلين، وإلا فديننا دين ذبْح للكفار!!
ثم ذكر الكاتب ما يعتقده من المصالح التي أثمرتها عملياتُ التفجير، فقال: ((وهناك مصالح حصلت من هذه العمليات لم ينظروا – يعني: مخالفيه من العلماء وطلاب العلم – إليها أبدًا، ولم يذكروها… وهي: أن أمريكا ستنظر فيما بعد لقضايا المسلمين بتعقل، لاسيما قضية فلسطين، وسيخف طغيانها على المسلمين…)).
قال: ((وأيضًا العمليات أوقعت أمريكا بأكبر أزمة اقتصادية عرفتها، فالخسائر المادية تصل إلى ((ترليون))، وفقدت ما يقرب من ألفي عَقْلٍ اقتصادي في العمليات، وانخفضت البورصة انخفاضًا هائلا، وتدهور الإنفاق الأمريكي، وانخفض سعر الدولار، وتضررت شركات الطيران، وأعلنت عن تسريح 26 ألف موظف، وربما يصلون إلى 100 ألف في القريب العاجل، كما ذهب نظام ((العولمة)) الذي كان سيفسد العالم بلا رجعة )). اهـ كلامه.
قلت: والجواب على ذلك من وجوه – إن شاء الله تعالى –:
1 ـــ أن دليله الأول ينقضه ما سبق من جوابٍ لي في الشبهة السابقة، فقد أَثْبَتُّ هناك أن هذه العمليات ليست موافقة لقواعد وأدلة الشريعة، وأنها جرّت مفاسد لا يعلم بآخرها إلا الله – فنعوذ بالله منها –.
2 ـــ لو سلمنا بأن الدليل الذي استند إليه منفِّذو هذه العمليات – لو كانوا مسلمين – صحيح صريح، فبقي النظر في المفاسد التي وراء ذلك، لأن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يترك بعض الواجبات، خشية حصول مفسدة أكبر، والإقدام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ منوط بما يتولد عنهما، وقد سبقت أدلة هذه القاعدة، فكيف يقول الكاتب: ((عِلما بأن الذي قام بالعمليات – إن كان مسلمًا – فإن معه الأصل، وهو الدليل، فإن المصلحة المطلقة: هي باتباع الدليل، فلا ينبغي أن يقال له: ما هي المصلحة مِنْ فِعْلِكَ هذا ؟ بل يكفي أن يَرُدَّ بقوله: إن المصلحة: أني عملت بالدليل فقط ))؟!
قلت: ألا يعلم الكاتب أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ترك قتل ابن سلول – وقد سب النبيَّ – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فاستحق القتل – حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه ))؟!
ألا يدري أن الله عز وجل يقول: ) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ( ([1]) ؟!
والكاتب نفسه قرر – كما سبق – أن من لم يصرح بذبح الكفار؛ فهو منهزم مخذول ؟! فكيف والآية تنهي عن السب – فضلا عن القتل – للمشركين في حالة الضعف ؟! فهل القرآن يدعو للانهزامية والخذلان ؟! ألا تفرقون بين حالة الضعف وحالة القوة ؟!
إن هذا ليدلنا على مبلغ فقه الكاتب – ومن كان على شاكلته – في هذا الباب الذي اهتم به السلف أيما اهتمام!!
وتأمل كلام شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى – فقد قال ([2]): ((فإذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي – وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة، ودفع مفسدة – فيُنظر في المعارض له: فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر؛ لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص؛ لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تُعْوز النصوصُ من يكون خبيرًا بها وبدلالتها على الأحكام )).اهـ.
وكلام شيخ الإسلام ظاهر في المراد، ولقد تعمدت نقل كلامه الأخير؛ حتى لا يقال: فلان أخلّ بالأمانة العلمية، فأقرر هنا أن المراد: أن المرء يعمل بالنص ما لم يزاحمه أو يعارضه نص آخر، ويعمل بالدليل ما لم يترتب عليه تفويت ما هو أهم، أو جلب ما هو أشر مما نهى عنه الدليل، أما إذا عارضه أو زاحمه غيره؛ تعيّن عليه أن يوازن بين المصالح والمفاسد، وكل ذلك بميزان الشرع، والخبير بالنصوص يُوفَّق في معرفة المصالح والمفاسد، فإن ترك واجبًا لواجب أهم منه – بعد النظر الصحيح في ذلك – فهو متبع لنصوص الشريعة، ولم يخرج عنها، فتأمل.
وقال شيخ الإسلام([3]): ((وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات أوالمستحبات؛ لا بد أن تكون المصلحة فيه راجحة على المفسدة، إذ بهذا بُعثت الرسل، ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به هو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم الفساد والمفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدةُ الأمرِ والنهي أعظمَ من مصلحته؛ لم تكن (مما) أمر الله به، وإن كان قد تُرِكَ واجبٌ، وفُعِل محرمٌ )).اهـ.
وقال ([4]): ((لكن إذا لم يَزُل المنكر إلا بما هو أنكر منه؛ صارت إزالته على هذا الوجه منكرًا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف؛ كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرًا)).
فتأمل هذا التفصيل، وهو دال على ما ذكرتُه عنه قبل قليل، وقارن بينه وبين من يقول: ((فلا ينبغي أن يقال له – أي: لمن عمل بالدليل عند تعارض وتزاحم المصالح والمفاسد –: ما هي المصلحة من فعلك هذا؟ بل يكفي أن يرد بقوله: إن المصلحة أني عملت بالدليل)).
فإذا تأملت هذا؛ فستجد الفرق بينهما كالفرق بين السلف والخلف، والله المستعان.
وأيضًا: إذا كنت – أيها الكاتب – تقول بجواز قتل الترس المسلم للمصلحة؛ فلماذا خرجت عن قاعدتك في مسألة التـترس، واستحببت قتل المسلم المعصوم، مع أن هذا خلاف الدليل ؟ أليس ذلك مراعاة منك للمصالح والمفاسد ؟! فلماذا لا تنظر لذلك هنا ؟! وماذا أنت قائل لمن قال: لا يُقتل الترس المسلم، وإن استفحل شر الكفار، لأن الأدلة قطعية في عصمة دم المسلم، والتمسك بالدليل أعظم مصلحة ؟!
3ـــ وأما دعواه بأن ما جرى للمسلمين من اضطهاد للشعوب، وتضييق على الأعمال الخيرية والدعوية… ونحو ذلك، بأن ذلك قد كان سيكون لولم تقع هذه العمليات!! فيجاب عنه بأمور:
أـــ مع علمي بأن البغضاء للمسلمين موجودة عند أعدائهم، إلا أنه يقال: من أدراك أن هذا كان سيكون كذلك ؟ والله – عز وجل – هو الذي يعلم الغيب ) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ( ([5]) ؟
بـــ لو سلمنا بأن هذا كان سيكون: فهل هذه العمليات عجّلت به أم لا ؟ فإن قلت: لم تعجِّل به؛ كابرت، ورد عليك الواقع، فإن الناس رأوا اهتبال اليهود والنصارى لهذه العمليات – والله أعلم ممن هي ؟! – وباغتوا المسلمين في أفغانستان من رجال ونساء وأطفال، وتعللوا في ذلك بعدة أعذار وادعاءات!! فمن الذي سيقبل منك أنها لم تؤثر في أمر الزمان شيئًا ؟!
واعلم أن تعجيل العقوبة وحلول المصائب من المفاسد، فالكفار وإن رسموا خططًا على المدى البعيد لضرب المسلمين؛ فقد تحدث أمور قبل أوان التنفيذ تصرفهم عن خططهم، أو تشغلهم بأنفسهم، أو تقوى شوكة المسلمين… الخ، فهذه العمليات كانت سببًا في تعجيل العقوبة، وفي ذلك مفسدة لا تخفى.
ج ـــ ولو سلمنا بأن العقوبة جاءت في وقتها دون استعجال العمليات لها، أليس قدْر العقوبة قد زاد واتسع وثقُل بسبب هذه العمليات ؟ فإن قلتم: لا؛ كابرتم، وإن أقررتم بذلك – وهذا ما كان أحد أسباب تراجع بعض علمائكم عن هذا الفكر – فهل جاءت الشريعة بتقليل المفاسد وتعطيلها، أو بزيادتها وتكثيرها ؟!
أليس الواجب عليكم أن تزيلوا الشر، أو تقللوه، فإن عجزتم؛ فلا تزيدوه ؟ فأين الفهم الدقيق للواقع، والنظرة البعيدة لمعرفة المصالح والمفاسد، كما يُفْهَم من كلام الكاتب – موهمًا بأنه هو ومن هم على شاكلته هم الذين يعرفون المصالح والمفاسد – بقوله: ((إن القول بأن هذا الفعل أوذاك مفسدةُ فِعْلِهِ أعظمُ من مفسدة ترْكه، أو مصلحة ترْكه أعظمُ من مصلحة فعله؛ ليس متاحًا لكل أحد، وليس قولا يتفوه به مَن علِم ومَنْ جَهِل، كلا…))!! .اهـ.
فإذا عرفت – أخي القارئ الكريم – ما سبق وما سيأتي – إن شاء الله تعالى – ظهر لك واقع هذه الكلمات، وأنها كلمة حق يراد بها باطل، والله المستعان.
4ـــ دعواه بأن التضييق على المسلمين في الغرب والاعتداء عليهم مفسدة جزئية لا كلية، فإن عددهم عنده: خمسمئة مسلم في أمريكا!! ولا بأس بذلك – عنده – للحفاظ على ثلاثمئة مليون مسلم تعتدي عليهم أمريكا – على حسب قوله –!! فقد قال رادًّا على من ذكر مفاسد هذا الحادث – ومنها التضييق على المسلمين هناك – فقال: ((نقول: هذه مفسدة ليست كلية، فكيف تُغَلِّب مصلحة خمسمئة مسلم في أمريكا، وهم الذين يَعُدُّون أمريكا خيارهم الوحيد في السلامة من ملاحقة حكوماتهم، وتُهمل مصلحة ثلاثمئة مليون مسلم – على الأقل – تقتلهم يد الطغيان والعدوان الأمريكي… )).اهـ.
والجواب من وجهين – إن شاء الله تعالى –:
أـــ كلامك هذا فيه تسليم بوقوع تضييق واعتداء على المسلمين في بلاد الكفار، والحمد لله أنك لم تهوِّن من شأن ذلك بقولك – كما سبق في غيره –: وهذا أمر قد دُبِّر من قبل، والعمليات لم تزده شيئًا!!
ومع إقرارك بالمفاسد، إلا أنك قد هوَّنت من شأنها بذكرك العدد الضئيل للمسلمين في أمريكا!! فأين فقه الواقع وأنت لا ترى إلا خمسمئة مسلم فقط في أمريكا ؟
فإن قلت: لقد وضحت كلامي بأنهم الذين يَعُدُّون أمريكا خيارهم الوحيد في السلامة من ملاحقة حكوماتهم.
فالجواب: وهل لم يتضرر أحد من المسلمين – غير الهاربين – هناك ؟ أليس الأذى قد وقع على الرجال والنساء والأطفال في الشرق والغرب ؟! إن الملايين من المسلمين قد أصابهم ما أصابهم في بلاد الشرق والغرب بسبب هذه العمليات!! إلا أن يكون المسلمون الموجودون هناك – بدون هروب من حكوماتهم – كفارًا عندكم!! فهذه باقعة أخرى!!
بـــ ثم هل حصل تضييق على هؤلاء الخمسمائة، ونفَّس الله كُربة ثلاثمائة مليون مسلم، كما يدعي الكاتب ؟ أم أن الثلاثمائة المليون، والخمسمائة الهاربين هناك – أيضًا – بل المليار مسلم وزيادة قد أصابهم ما أصابهم بسبب هذه العمليات وغيرها ؟!
إن هذا الفكر يزيد الطين بِلَّة، والمريض عِلَّة، والأمة هوانًا وذلة، ويمحق البركة، ويكسر الشوكة، فالله المستعان.
5ـــ ودعواه بأن من قال: إن هذه العمليات شَوَّهَتْ صورة المسلمين بأنهم سفاحون؛ إنه منهزم مخذول؛ ليس هذا على إطلاقه، ويجب التفصيل في هذا الموضع:
فالذين يقولون بوحدة الأديان، أو أن المسلمين واليهود والنصارى كلهم في الدين سواء، ولا فرق بينهم، وأنه يجوز للمسلم أن يترك دينه، ويدخل في غيره من هذه الأديان أو غيرها، فإن القائل بهذا قائل بأقوال مصادمٌ للمعلوم من الدين بالضرورة، ومناقض لأصول الإيمان، وهذه أقول موجبة للردة والعياذ بالله؛ فإن الله عزوجل يقول: ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ! إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ! جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ( ([6])وقال سبحانه: ) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ( ([7])ويقول سبحانه: ) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ([8])وقال تعالى: ) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا! أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ( ([9])وقال تعالى: ) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ( ([10])ويقول سبحانه: ) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ([11]).
ولا إسلام إلا بالإيمان بمحمد – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وبما جاء به، والقرآن مليء بالأدلة على كُفْر من لم يؤمن بما جاء به نبينا محمد – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقد جاء في ((صحيح مسلم))([12]) أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي أو نصراني، ثم يموت، ولم يُؤْمنْ بالذي أُرسلْتُ به؛ إلا كان من أصحاب النار)).
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – ([13]): ((وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع: أن من بلغته رسالة النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فلم يؤمن به؛ فهو كافر، لا يُقبل منه الاعتذار بالاجتهاد؛ لظهور أدلة الرسالة، وأعلام النبوة… )).اهـ.
ومع ذلك؛ فإن هذا لا يُسْوِّغ الاعتداء على من لا يجوز الاعتداء عليه، أو من كان رد ظلمه يؤول إلى شر أكبر – على تفاصيل معروفة في ديننا –.
إن إنكارنا على المخالفين تهورهم، وعدم أخذهم بنصائح العلماء في الحق؛ لا يعني أن نخالف ديننا، أو أن نقبل أقوالا وأفعالا مصادمة للدين، ثم ننسبها إلى الإسلام، أو أن نهرول وراء كل ضعيف فاتر، أو خبيث ماكر!!
إننا ندعوا إلى الإسلام في شموله، وصفائه، وسماحته، وثوابته، وأصوله، ونعوذ بالله أن نرجع عن ديننا القهقرى، كما أننا نُحَذِّر من الغلو والعنف، وقتل من لايجوز قتله من المسلمين أو الكفار، وتجاوز الحد الشرعي في هذا أو غيره.
وندعوا إلى مراعاة حال المسلمين قوة وضعفًا، كما ندعوا إلى مراعاة المصالح والمفاسد ومآلات الأمور، وهذا كله مقتضى الوسطية التي مُدحت بها هذه الأمة: ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا... (([14]).
فأما من قال: نحن ضعفاء، وقد أَمَرَنا ديننا بالصبر – إذا كنا غير قادرين – وأن من جرّ علينا فتنًا لا طاقة لنا بها، أو قتل من لايجوز قتله من المسلمين أو الكفار؛ فنبرأ إلى الله من فعله، وعلى المسلمين أن يحذروا منه في ذلك، إن من قال ذلك، وحكم على المخالف بما يستحق شرعًا؛ محسن غير مسيء، وعلى ذلك فلا نتجاوز الحد في الحكم على المخالف إرضاءً لفلان أو فلان، ولا نتهاون في إنكار جريمته بحجة أنه من المسلمين!!
إن من كان كذلك؛ فهو على الجادة، لأنه متبع لقواعد الشريعة، مقتدٍ بالنبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عندما كان غير قادر على مواجهة مشركي مكة، ومواجهة المشركين والمنافقين في المدينة قبل براءة، فهل يُرْمَى المتبع بأنه منهزم مخذول ؟
أيها الشباب، أتجعلون تهوركم حجة على الخلق، أو ميزانًا تزنون به الناس ؟ فمن قصُر دونكم – وإن كان على الحق المبين – فهو منهزم مخذول، ومن سار على طريقتكم حَذْوَ القُذَّة بالقُذَّة – وإن خالف منهج السلف – فهو ممن لا يخشى في الله لومة لائم ؟!
نعم، إن الرجل الصالح ليس سفاحًا، ولا مفسدًا في الأرض – وإن حاول الإعلام الفاجر إظهاره بالصورة القبيحة – كما أنه ليس طائشًا، ولا منحرفًا عن نهج السلف الصالح، وإن قال بعض الشباب فيه: عميل؛ أو جبان، أو نحو ذلك، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الصالحين.
وأيضًا: فهل جاء الإسلام بالذبح لكل الكفار كما يدعي الكاتب ؟ إن هذا الإطلاق فيه نظر – وإن كان كلامه قد يحمل على وجه معين – فالإسلام يفرق بين المشرك الذي نقض العهد، وبين الذي وفّى بالعهد، وبين المشرك الذي قاتل المسلمين في دينهم، وأخرجهم من ديارهم، وظاهر على إخراجهم، وبين من ليس كذلك، ويفرق بين حالة المسلمين في الاستضعاف، وبين حالتهم في القوة والاستخلاف، وبين حالة تحقق المصلحة، وحالة تحقق المفسدة، ولكل حالة حكم، فإطلاق الكاتب الكلام عواهنة في موضع التفصيل ليس صحيحًا، فتدبَّرْ.
وقد سئل سماحة الشيخ ابن باز – رحمه الله تعالى – عمن يرى قول من قال: الصبر على الولاة الظلمة؛ أنه فِكْر انهزامي، وفيه شيء من التخاذل… فقال سماحته – رحمه الله تعالى –: ((هذا غلط من قائله، وقلّة فهم، لأنهم ما فهموا السنة، ولا عرفوها كما ينبغي، وإنما تحملهم الحماسة والغيرة لإزالة المنكر على أن يقعوا فيما يخالف الشرع، كما وقعت الخوارج والمعتزلة، وحملهم حبُّ نصر الحق أو الغيرة للحق، حملهم ذلك على أن وقعوا في الباطل…)) إلى أن قال – رحمه الله تعالى- : ((فالواجب على الغيورين لله، وعلى دعاة الهدى أن يلتزموا بحدود الشرع، وأن يناصحوا من ولاه الله الأمور بالكلام الطيب، والحكمة، والأسلوب الحسن، حتى يكثر الخير، ويقل الشر، وحتى يكثر الدعاة إلى الله، وحتى ينشطوا في دعوتهم بالتي هي أحسن، لا بالعنف والشدة…))([15]) .اهـ.
6 ـــ وأما ما ذكره الكاتب من مصالح للعمليات المذكورة؛ فيجاب عنه بأمور:
أ ـــ ما هو دليلك العملي على صحة وقوع هذه المصالح ؟ فإن قال: دليلي مِنْ جهة الأخبار العالمية؛ قيل: فلماذا تنكر على غيرك عند ما أخذ من هذا المصدر – نفسه – إثبات وجود قتلى مسلمين في المركز التجاري ؟
فإن قلت: هذه أمور لا مصلحة للكفار في الكذب فيها؛ قيل: في هذا الإطلاق نظر، فإنهم قد يتباكَوْن بذلك، ليستصدروا قرارات قاسية ضد المسلمين!! وقد جُرِّب عليهم أنهم يرضون بوقوع فضائح وهزائم إعلامية لهم، ليحققوا مكاسب واقعية، وللأسف فنحن بخلاف ذلك- إلا من رحم الله –.
ومن جهة أخرى: فَذِكْرهم وجود قتلى من المسلمين في المركز العالمي لا حاجة لهم في الكذب فيه من باب أولى – بناءً على ما ذكرتَ في جوابك –!!
بـــ تأمل أيها القارئ قول الكاتب معدِّدًا المصالح –: ((ستنظر أمريكا فيما بعد لقضايا المسلمين بتعقل)) وقوله: ((وسيخف طغيانها على المسلمين)) وقوله في خسارة شركات الطيران: ((وربما يصلون إلى مائة ألف – أي: موظف مُسَرَّح عن وظيفته – في القريب العاجل ((من تأمل هذا؛ علم أن الكاتب يتوقع حدوث مصالح لم تقع بعد، وإنما يعبر عنها بأداة التسويف الدالة على المستقبل!! أما المفاسد فقد وقعت، وقد سقطت دول، ودول أخرى في حالة لا تُحْسَد عليها، والمؤلف يَعِدُنا بمصالح عظيمة ستأتي فيما بعد!! فكانت المفسدة من هذا الفعل نقدًا، والمصلحة نسيئة عند مَدِين مراوغ قوي لا يؤدي الحقوق ) فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ ( ([16]).
وتأمل كيف يُمنِّي الكاتب نفسه والمسلمين بنظرة متعقلة من أمريكا في قضية فلسطين!! وها هي أفغانستان والعراق وغيرهما في حالة ما يعلم بها إلا الله ؟! وهل حصل تعقل في قضية فلسطين كما يدعي الكاتب؟! أم زاد الشر، وعمّ وطمَّ ؟!
إن هذا كله ليزيدنا بصيرة بأن منهج السلف، وأسلوب كبار علماء العصر؛ هو الحق، وفيه المصلحة، وأن هؤلاء الذين يفتون الشباب بهذا العنف ليسوا مؤهَّلين لتقدير هذه الأمور، والله المستعان.
ج ـــ وما ذكره الكاتب من خسارة مادية وقعت فيها أمريكا، فيجاب على ذلك أيضًا بأمور:
أـــ لا يُستبعد أن تكون هناك مبالغة كما سبق، وأكرر أننا معشر المسلمين – إلا من رحم الله – يعجبنا نصر إعلامي مؤقت، ونطير فرحًا بتصريح مسؤول ما، أو خبر في إذاعة ما، بأن أمريكا قد حصل فيها كذا وكذا، وإن كان الأمر على خلاف ذلك!! وربما أنهم يريدون بذلك إشغال المسلمين عن خطة أخرى يدبرونها لهم!! إن القوم المخالفين يَدَّعون فقه الواقع، وتراهم بهذا الحال العجيب في فهم حقيقة الواقع!! وما أحْدَثَ رجل أمرًا؛ إلا ونقضه من حيث لا يشعر، وهذا شأن الباطل: ) وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ( ([17]) فإلى الله المشتكى.
ب ـــ سلَّمنا بأن الخسارة المذكورة كذلك؛ فهل سقوط دولة من دول المسلمين مفسدة دون ذلك ؟ وهل ما جرى من مفاسد لا تزيد على هذه المصالح المزعومة ؟!
وأيضًا: فالله أعلم من الذين سيقومون بالتعويض عن هذه الخسائر– شاؤوا أم أَبَوْا – وذلك بسبب ما تقومون به من أمور تضيِّق على المسلمين، ولأسباب أخرى أيضًا، فوا أسفاه على فقهكم للواقع!!
وصدق من قال:
قل لمن يدَّعي في العلم فلسـفة حفظتَ شيئًا وغابتْ عنك أشياءُ
ومن قال:
وكُلُّ من يدَّعي ما ليس فيه كذَّبتْـه شواهدُ الامتحان
ج ـــ وعجبْتُ – وحُقَّ لي ذلك – من دعوى الكاتب أن نظام العولمة قد ذهب إلى غير رجعة!!
فمتى ذهب نظام العولمة كما تَدَّعون ؟ومن أخبركم – إن كان قد ذهب – أن ذلك بسبب تحطيم ذاك المركز التجاري ؟!
إن هذا الكلام بهر كثيرًا من المخدوعين من المسلمين بهذه الزخارف، ونحن نشعر بشدة المؤنة، وزيادة الوطأة على المسلمين، وأنتم توهمون المساكين بأن هناك خسارة تُقدر بكذا، وأنكم حققتم مصالح تقدر بكذا، وبقيت مصالح يُتوقع أن تبلغ كذا وكذا!! وعند الله تجتمع الخصوم!!
وصدق من قال:
أحلامُ ليلٍ أو كظلِّ زائلٍ إن اللبيب بمثلها لا يُخَدعُ
د ـــ إن هذه المصالح المزعومة لو سلمنا بتحققها؛ فهذا لا يساوي ما أصاب المسلمين في دينهم ودنياهم في بلد واحد، فكيف في بقية البلدان؟ ولوسلمنا بأن العملية الفلانية نجحت، فليس معنى ذلك أنكم على الحق، فتواصلون السير في ذلك؛ فإن هذه العمليات مخالفة لمنهج السلف وقواعد الشريعة، ومخالفة لفتوى أهل العلم، وما كان كذلك؛ فلا يُؤْمن أن يعود بفساد عظيم، والمسلمون يسيرون على قواعد شرعية، لاتجربة معينة، ثم يجعلونها قاعدة عامة، والله أعلم.
( تنبيه ): لقد أطنبت في الجواب على هذه الشبهة والتي قبلها، لأن هناك من يغتر بهذه الأرقام الحسابية، ولا يرفع بقواعد السلف رأسًا، فرغبت في إثبات موافقة النقل للعقل، وأن النقل الصحيح لا يعارضه العقل الصريح، ولذلك – أيضًا – فقد أدخلتُ عدة شبه للجواب عنها، لأن كثيرًا من العوام وأشباههم يغترون بها، ويسْهل عليهم ترك الآية والحديث والقواعد الشرعية، ويصعب عليهم تجاوز هذه الشبهات الوهمية العاطفية، والله أعلم.
([1]) [ الأنعام: 108 ].
([2]) ((مجموع الفتاوى)) (28/129).
([3]) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) ( ص 17 ).
([4])((منهاج السنة)) (4/536).
([5]) [ الجن: 26 ].
([6]) [ البينة: 6-8 ].
([7]) [ المائدة: 17 ].
([8]) [ المائدة: 73 ].
([9]) [ النساء: 150-151 ].
([10]) [ آل عمران: 19 ].
([11]) [ آل عمران: 85 ].
([12]) ك. الإيمان (6/رقم153).
([13]) ((مجموع الفتاوى)) ( 12 / 496 ).
([14]) [ البقرة: 143 ].
([15]) من ((فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة)) (ص66،64).
([16]) [ الحشر: 2 ].
([17]) [ النساء: 82 ].