شبهات والرد عليها

واستدل بعضهم بقول الله – عز وجل (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) قالوا: والفتنة هي الشرك، فلو أننا قتلْنا مَنْ قتلْنا من المشركين؛ فإن القتل دون جريمتهم بنص القرآن، فلماذا تنكرون علينا، ولا تنكرون عليهم ما هم فيه من الشرك وفتنة المؤمنين ؟!

واستدل بعضهم بقول الله عز  وجل   –: ) وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ (([1]) وقوله سبحانه: ) وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ((2) قالوا: والفتنة هي الشرك، فلو أننا قتلْنا مَنْ قتلْنا من المشركين؛ فإن القتل دون جريمتهم بنص  القرآن، فلماذا تنكرون علينا، ولا تنكرون عليهم ما هم فيه من الشرك وفتنة المؤمنين ؟!

والجواب من وجوه بمشيئة الله عز وجل :

1ـــ من الذي قال لكم: إننا لا ننكر شرك المشركين، ولا نحذر من طريقتهم المخالفة لديننا ؟ فإذا كنا ننكر البدعة على المبتدعة من المسلمين؛ أفلا ننكر الشرك ؟ وإذا كنا ننكر الشرك الذي يقع فيه المسلم ولو  بجهل أفلا ننكر على من لم يدخل في الإسلام أصلًا كُفْرَه وإعراضه عن دين رب العالمين؟! والله تعالى يقول: ) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (([2])، ويقول عزوجل: ) إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ( ([3])، ويقول سبحانه: ) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( ([4])، إلى غير ذلك من آيات في وجوب الدخول في الإسلام كافة، ونبْذ ما سواه من الأديان المنسوخة والمحرفة، ويقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت، ولم يُؤْمنْ بالذي أُرسلْتُ به؛ إلا كان من أصحاب النار ((أخرجه  مسلم([5]).

2ـــ ونحن إنما ننكر عليكم فهمكم البعيد للآيات والأحاديث   والآثار، كما ننكر عليكم نسبتكم هذا الفهم لمنهج أهل السنة والجماعة، ولا نتجاوز الحد في الإنكار عليكم، فلا نكفِّر المسلم بمجرد انتمائه لهذا الفكر، إنما نَعُدُّ هذا الفكر مخترعًا محْدَثًا، وأنه ليس من منهج أهل السنة والجماعة، وأنه من منهج الخوارج وأهل البدع، وأما الأعيان فلا نحكم على الشخص إلا بما يستحق، بعد استيفاء الشروط، وانتفاء الموانع، ونتبع أهل العلم والحلم في ذلك، ولا نتبع من سلك مسلك الغلاة ولا الجفاة، ولا المتربصين الكائدين، ولا المدافعين عن هذا الفكر بجهل وعاطفة، أو هوى وعصبية!! ومع ذلك فنحذِّر من هذا الفكر، ومن حملته والدعاة إليه إذا لم يستجيبوا للحق براءة للذمة، ونصحًا  للأمة، ولزومًا لمنهج الأئمة، والله أعلم.

3ـــ وأما قوله تعالى: ) وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ (([6]) فبعيد عما ذهبتم إليه، وذلك:

لأن الآية نزلت في قوم مسلمين، قتلوا مشركًا في شهر حرام، فشنّع الكفارُ على المسلمين قائلين: إن محمدًا استحل القتال في الشهر الحرام، فأخبر الله عز وجل أن الإسلام لم يُحِلَّ الشهور الحُرُم، بل أكّد حرمتها، كما في قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ )([7])، أي من الكبائر، إلا أن جُرمكم أيها المشركون بكفركم بالله، وصدكم عن سبيل الله؛ أعظم جرمًا لو كنتم تعقلون، غير أنكم ترون الخطأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا ترون ما هو أعظم من أخطائكم!! فليس في هذا إقرار لفعل المسلمين عندما قتلوا في الشهر الحرام، بل فيه إنكار عليهم بقدر فِعْلهم، وإنكار على الكفار بقدر فِعْلهم، وهذا هو العدل والإنصاف.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى – ([8]) بعد أن ذكر نحو ما سبق: ((والمقصود: أن الله سبحانه حَكَمَ بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يبرّئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر  الحرام، بل أخبر أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام، فهم أحق بالذم والعيب والعقوبة، لاسيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصِّرين نوع تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات، والهجرة مع رسوله، وإيثار ما عند الله، فهو كما قيل:

وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحد      جاءت محاسنُه بألف شفيـع )) .اهـ.

إذًا؛ فليس في الآية براءة للمؤمن إذا أخطأ، وهذا الذي فعلتُهُ ولله الحمد فقد أنكرتُ المنكر كلَّه: عليكم وعلى غيركم، ولم أتجاوز الحد، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.

أقول هذا؛ مع علمي بأن هناك من لا يعجبه هذا الاعتدال والإنصاف في الحكم عليكم، لكن الحكم على الناس عبادة، والله تعالى يقول: ) وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ (([9])، ويقول سبحانه: ) فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ! أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ( ([10]).

4ـــ قد يفهم بعض الناس أن الآية تأمر بالصبر على القتل وعدم قول الكفر، لأن الكفر أعظم من القتل، إلا أنه ليس في الآية: أن المرء يجب عليه أن يصبر على القتل، ولا يجيب الكفار في قولِ أو فعلِ الكفر مطلقًا، فإن الله – عز  وجل   – رخَّص عند الإكراه في قول كلمة الكفر، قال تعالى: ) إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا (([11]) وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))([12]).

والله عز  وجل   – يحكي عن المؤمنين قولهم: ) رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لا َطَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (([13]) وفي ((صحيح مسلم)) من حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن الله عز وجل قال: ((قد  فَعَلْتُ)).

إذًا؛ فليس في هذه الآية تبرئة لفعلكم، ولا تصحيح لمنهجكم،ومع ذلك فنحن لا نتجاوز الحد معكم، والله أعلم.



([1]) [ البقر: 191 ]، (2) [ البقرة: 217 ].

([2]) [ آل عمران: 85 ].

([3]) [ آل عمران: 19 ].

([4]) [ فصلت: 33 ].

([5]) ك. الإيمان ( رقم/153).

([6]) [ البقر: 191 ].

([7]) [ البقرة: 217 ].

([8]) ((زاد المعاد)) (3/151-153).

([9]) [ البينة: 5 ].

([10]) [ الزمر: 2-3 ].

([11]) [ النحل: 106 ].

([12]) أخرجه ابن ماجه برقم (2045) من حديث ابن عباس وقد صححه شيخنا الألباني – رحمه الله تعالى – في ((الإرواء)) برقم (82).

([13]) [ البقرة: 286 ].