بقلم الشيخ

في نعمة الأمن وأهميتها وسبيل تحققها والحفاظ عليها

في نعمة الأمن وأهميتها وسبيل تحققها والحفاظ عليها
من كتاب فتنة التفجيرات والإغتيالات  “الأسباب – الآثار العلاج”
 

إن الأمن والاستقرار نعمةٌ عظيمٌ نفعها،كريمٌ مآلها، وهي مَظَلُّةٌ يستظل بها الجميع مِنْ حَرِّ الفتن والتهارج، وهذه النعمة يتمتع بها الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والرجال والنساء، بل البهائم تطمئن مع الأمن، وتُذْعَر وتُعطَّل مع الخوف واضطراب الأوضاع، وتهارج الهمج الرعاع، فنعوذ بالله من الفتن التي تُعْمِي الأبصار، وتُصِمُّ الأسماع.

وبالله ثم بالأمن يُحَجُّ البيتُ العتيق، وتُعْمر المساجد، ويُرفع الأذان من فوق المنارات، و يَأْمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وتأمن السبُل، وتُرَدُّ المظالم لأهلها، فيُنتصر للمظلوم، ويُردع الظالم، وتقام الشعائر، ويرتفع شأن التوحيد من فوق المنابر، ويجلس العلماء للإفادة، ويرحل الطلاب للاستفادة، وتُحرَّرُ المسائل، وتُعْرف الدلائل، ويزار المرضى، ويُحترم الموتى، ويُرْحم الصغير ويُدَلَّل، ويُحْترم الكبير ويُبَجَّل، وتُوصَل الأرحام، وتُعْرف الأحكام، ويُؤمر بالمعروف، ويُنهى عن المنكر، ويُكرَّم الكريم، ويُعاقب اللئيم، وعلى كل حال: فبالأمن استقامة أمر الدنيا والآخرة، وصلاح المعاش والمعاد، والحال والمآل، وقد حذرنا الله من الفتنة التي يَعُمُّ بلاؤها، فقال عز وجل: ) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً( [ الأنفال: 25 ].

فنسأل الله عز وجل ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ونعوذ به من حلول نقمته، وتحوُّل عافيته، وجميع سخطه، إنه جواد كريم، بر رحيم.

ولما كان الأمن بهذه المثابة العظيمة؛ امتن الله سبحانه وتعالى به على قريش، التي قابلت النعم الكبار بالإباء والاستكبار!!

وما كان الله عز وجل ليمتنوهو الجواد الكريم بما ليس بمنة ولا نعمة، فقد قال سبحانه: ) لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ!إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ! فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ! الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَءَامَنَهُمْ مِنْ  خَوْفٍ ! (([1]).

وقد جاء عند الترمذي([2]) من حديث عبدالله بن محصن الخَطْمى رضي الله عنه –أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من أصبح آمنًا في سِرْبه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزتْ له الدنيا بحذافيرها))([3]).

وقد قال صاحب الفضيلة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى  –:   

((… فلا شك أن تَوَفُّر الأمن مطلب ضروري، الإنسانية أحوج إليه من حاجتها إلى الطعام والشراب، ولذا قدمه إبراهيم عليه الصلاة والسلام في دعائه على الرزق، فقال: ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا ءَامِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(([4]) لأن الناس لا يهنؤون بالطعام والشراب مع وجود الخوف، ولأن الخوف تنقطع معه السبل التي بواسطتها تُنقل الأرزاق من بلد لآخر، ولذلك رَتَّبَ الله على قطاع الطرق أشد العقوبات… وجاء الإسلام بحفظ الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، ورتب حدودًا صارمة في حق من يعتدي على هذه  الضروريات، سواءً كانت هذه الضروريات لمسلمين أو لمعاهَدين.

فالكافر المعاهَد له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم-ٍ: ((من قتل معاهَدًا؛ لم يرح رائحة الجنة))… والذين يعتدون على الأمن: إما أن يكونوا خوراج، أو قطاع طرق، أو بغاة، وكل من هذه الأصناف الثلاثة يُتَّخَذ معه الإجراء الصارم، الذي يوقفه عند حدِّه، ويكفُّ شره عن المسلمين، والمستأمنين، وأهل الذمة…))([5]).اهـ. 

فيجب على كل عاقل، أن يحافظ على سلامة أمن البلاد، وذلك بالحفاظ على العقيدة الصحيحة أولًا، لقوله سبحانه وتعالى: ) الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ( ([6])، وأن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحكمة وموعظة حسنة، وأن يحرص على طاعة ربه، فإن ذلك جالب لعز الدنيا والآخرة، فالله      عز وجل يقول:)وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا! وَإِذًا لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا! وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (([7]).

وليعلم المرء أن الإعراض عن أمر الله؛ سبب في زوال نعمة الأمن، وحلول الخوف والفزع، قال تعالى:)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا(… الآية ([8])وقال سبحانه: ) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ! وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ    مُهْتَدُونَ( ([9]).

ويقول سبحانه:)ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (([10]).

ويجب أن يشعر كل مناكل بحسبهأنه مسؤول بين يدي الله عز وجلعن أي إخلال بالأمن من جهته، أو إثارة للفتنة بقول أو عمل، وأن يُنكر على كل من أخل بأمن المسلمينعلى أن يكون إنكاره عليه مقيدًا بالضوابط الشرعية فإن من أخل بأمنهم؛  فقد أخل بدينهم ودنياهم، والناس في هذه الدنيا كقوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فأراد الذين هم في أسفلها أن يخرقوا خرقًا في سهمهم؛ ليستريحوا ويريحوا!! فلو تركهم من هم في أعلاها؛ غرقوا جميعًا، ولو أخذوا على أيديهم؛ نجوا جميعًا، كما أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

فالواجب علينا: ألا نجامل، ولا نبالغ في حُسن الظن بمن يفسد أمن البلاد، ومن يفتح على المسلمين أبواب الفتن، ولو كان قصده حسنًا، فالمقصد الحسن وحده لا يكفي، بل لا بد من الاتباع الصحيح، والحفاظ على مقاصد الشريعة وبقايا الخير، فالعبرة بما تؤول إليه الأمور، والله أعلم.

واعلم أنه يجب على كل عاقل عالمًا كان أم عاميًّاأن يصبر على الظلم والجور من ولاة الأمور، وأن يلزم منهج السلف في هذا الباب؛ حتى لا يكون من الذين خَلَفوا نبينا محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على أمته بسفك الدماء، وإزهاق الأنفس، وهتك الأعراض، ونهب الأموال.

كما يجب علينا أن نعتبر بما جرى لعدة دول، وليكن فيما جرى في الصومال مثلًا عظة وعبْرة لنا، فإنهم قاموا على حاكمهم الذي قد شاع وذاع شره، فما الذي جرى بعد ذلك حتى الآن ؟! فنسأل الله أن يجعلنا مفاتيح الخير، مغاليق الشر، وأن يصرف عنا وعن المسلمين الموبقات والمرديات.

ومعلوم أن هذا الأمن لا يتحقق إلا بدولة قوية، تحكم الناس وتسوسهم إلى ما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد، ومعلوم أيضًاأن الدولة لا تنهض بهذه المهمة العظيمة؛ إلا بأمور، منها: السمع والطاعة من الرعية لولاة الأمور في المعروف، والصبر على الجور والظلم عند وجود المنكرات مع النصح بالتي هي أحسن، وتقدير المصالح والمفاسد المترتبة على أي تصرف، مع مراعاة طريقة وحكمة السلف، لا حماسة وطيش بعض الخلف!!

ولذلك فقد جاءت الأدلة على هذا الأمر، فمن ذلك:

قول الله تعالى: )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا( ([11]).

وقد أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالسمع والطاعة لولاة الأمور وإن جاروا: فقد جاء عند مسلم ([12]) أن سلمة بن يزيد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء، يسألوننا حقهم، ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا ؟ فأَعْرض عنه، ثم سأله، فأَعْرض عنه، ثم سأله في الثانية أو الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، فقال له رسول اللهصلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُمِّلْتم)).

وفي البخاري ومسلم ([13]) من حديث ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إنكم سترون أثَرة، وأمورًا تُنكرونها)) قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال: ((أدّوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم )).

وعند مسلم ([14]) من حديث حذيفة في ذكر فتنة آخر الزمان، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((... يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين، في جثمان إنس)) قال: قلتُ: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك ؟ قال: ((تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع )).

فتأمل هذه الأدلة الصريحة في طاعة ولاة الأمور في المعروف، والصبر على أذاهم، وإن كانت قلوبهم قلوب الشياطين، وإن وُجِدت منهم الأَثَرة والأمورُ المنكرة، وإن ضربوا الظهر، وأخذوا المال، وإن لم يعطوا الرعية حقهم، وألزموهم بحقهم: كل هذا للحفاظ على الأمن وبقايا الخير، لأن الخروج على الحكام يُعمي الأعور، ويهلك الحرث والنسل.

وتأمل إعراض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مرة أو مرتين عن الجواب على سؤال سلمة بن يزيد الجعفي: ((أرأيت إن قامت علينا أمراء، يسألوننا حقهم، ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا ؟))، وتأمل جوابه في حق أمراء قلوبهم قلوب الذئاب، في جثمان إنس، وجوابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حق مَنْ ضَرَبَ الظَّهْرَ، وأخذ المال!!

ولو أن أحدًا من كبار العلماء اليوم، سُئِلَ هذا السؤال؛ فأعرض عن الجواباتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولزومًا لهدْي السلف، وإطفاءً لفتنة قد تحدث من الجواب على ذلك؛ لقال فيه كثير من الشباب المتحمِّس بجهل: جبان، ولا يستطيع أن يقول كلمة الحق، وعميل، ولا يوثق به، ولا يُرْجَع إليه!! فنعوذ بالله من تصدُّر الحدثاء، والجرأة على العلماء!!

ولقد امتثل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه  – هذه الأوامر النبوية، ولم يكن مفتاح فتنة مع غيرته، وصِدْق لهجته، وصَدْعه بالحق رضي الله عنه  – فقد جاء في ((السنة)) لابن أبي عاصم ([15]) من طريق معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما  – قال: لما خرج أبو ذر إلى ((الرَّبَذَة)) ؛ لقيه رَكْبٌ من أهل العراق، فقالوا: يا أبا ذر، قد بلغنا الذي صُنِع بك، فَاعْقِدْ لواءً؛ يأتيك رجالٌ ما شئتَ، قال: مَهْلًا مَهْلًا يا أهل الإسلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((سيكون بَعْدي سلطان، فأعِزّوه، من التمس ذُلَّه؛ ثَغَر ثغرة ً في الإسلام، ولا يُقبلُ منه توبة؛ حتى يعيدها كما كانت))([16]).

فهذا أبو ذر الصادع بالحق، الزاهد الورع، الذي لم يقبل أي تغيير لما عهده أيام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم-لم يرض أن يُسْتَدْرَج لإذلال السلطان، مع وجود ما يكرهه من المخالفات عند كثير من  الناس، ومع توافر الأَتْباع لو أرادهم ولكن الأمر أعظم من ذلك عند من يفهم الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة،كل هذا من أجل الحفاظ على بقايا الخير، واستمرار الأمن والهدوء، لأن حق الله عز وجل  – وحق العباد لا يتأتَّيان على الوجه الصحيح؛ إلا مع الأمن، ولا أمن إلا بحكومة قوية، ولا قوة إلا بسمع وطاعة في المعروف، مع نصح وصبر عند وجود المنكرات والظلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى  – ([17]): ((يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس؛ من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد عند الاجتماع مِنْ رَأْسٍ، حتى قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إذا خرج ثلاثة في سفر؛ فليؤمِّروا أحدهم)) رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة… فأوجب صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيهًا بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد، والعدل، وإقامة الحج، والجُمَع، والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، لا تتم إلا بقوة وإمارة، ولهذا رُوِي: أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمامٍ جائر؛ أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك)).

قال: ((ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة؛ لدعونا بها للسلطان، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم)) رواه مسلم.

وقال: ((ثلاث لا يُغَل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط مَنْ وراءهم)) رواه أهل السنن، وفي ((الصحيح)) عنه أنه قال: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة)) قالوا: لمن يا رسول الله ؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)).

قال: ((فالواجب اتخاذ الإمارة دِينًا وقُربة يُتَقَرّب بها إلى الله؛ فإن التقرب إليه بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يَفْسُد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة والمال بها… )).اهـ. 

وقال ـــ أيضًا ـــ: ((ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أمته بتولية ولاة الأمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله تعالى...))ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرةرضي الله عنهما  – كما سبق، ثم قال: ((فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يُوَلَّى أحدهم؛ كان تنبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك، ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها دينًا يتقرب به إلى الله، ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان من أفضل الأعمال الصالحة… )).([18]) .اهـ.

وقال شيخ الإسلام: ((فإن الملك الظالم لا بد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه، وقد قيل: ستون سنة من إمام ظالم؛ خير من ليلة واحدة لا إمام... )).([19]) .اهـ.

وقال أيضًا: ((والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ورجحت خير الخيرين بتفويت أدناهما، وهذا من فوائد نصب ولاة الأمور، ولو كان على ما يظنه الجاهل؛ لكان وجود السلطان كعدمه، وهذا لا يقوله عاقل، فضلًا عن أن يقوله مسلم، بل قد قال العقلاء: ستون سنة من سلطان ظالم؛ خير من ليلة واحدة بلا سلطان.

وما أحسن قول عبد الله بن المبارك:

لولا الأئمة لم تأمن لنا سبل     وكـان أضعفنا نهبًا لأقوانا ))([20]).اهـ.

وقال أيضًا: ((ومن المعلوم: أن الناس لا يصلحون إلا بولاة، وأنه لو تولى من هو دون هؤلاء يعني بني أمية وبني العباس من الملوك الظلمة؛ لكان ذلك خيرًا من عدمهم، كما يقال: ستون سنة من إمام جائر؛ خير من ليلة واحدة بلا إمام … ))([21]).اهـ. 

وقال رحمه الله تعالى  –: ((فإذا صلح ذو السلطان؛ صلحت أمور الناس، وإذا فسد؛ فسدت بحسب فساده، ولا تفسد من كل وجه، بل لا بد من مصالح، إذْ هو ظل الله، لكن الظل تارة يكون كاملًا مانعًا من جميع الأذى، وتارة لا يمنع إلا بعض الأذى، وأما إذا عُدِم الظل؛ فسد الأمر ))([22]).اهـ.

فظهر من مجموع ذلك: أن الأمن نعمة للجميع، وأن ذلك لا يكون إلا بولاية وقوة، ولا يكون ذلك إلا بسمع وطاعة في المعروف، وصَبْر على الظلم والجور.

وقد رأينا بعض الشعوب الذين سقط حكامهم، وضاعت دُوَلُهم على عوجها وانحرافها لم يعد لهم كرامة كما كانت لهم من قبل، ورأيناهم مشتَّتِين في كثير من البلدان، وتفرقوا شذر مدر في البلاد، وأُهين الكريم، وتنكّر لهم اللئيم، واحْتُقِر العزيز المنيع، وتقطعت الأرحام، وحيل بين الرجل ووالديه وذويه، ولذا يقال: شعب بلا حكومة؛ شعب بلا كرامة، وسلطان غشوم؛ خير من فتنة تدوم!!

فهل يريد الشباب اليوم أن يكون المسلمون كذلك في كل بلد: بإثارة الفتن، وزعزعة الأمن، مما يُفضي إلى سقوط الحكام وإن كانوا في الجملة جائرين ؟! فنكون كمن أراد أن يُطبَّ زكامًا؛ فأحدث جذامًا ؟! أو كمن أراد أن يُطبَّ جذامًا؛ فأهلك الأصحاء شيبًا وشُبَّانًا؟! فنعوذ بالله من كيد الكائدين، وعبث العابثين!!

ألا يعتبر الشباب بما جرى في عدد من الدول، عندما أسقطوا حكامهم وهم شر مستطير على رعيتهم فقد انتشرت الفتنة في كل بيت، وزاد البلاء واستفحل، وأنهم الآن يتمنون رجوع الأيام السابقة على ما فيها بعد أن جرَّبوا الفوضى، ولكن هيهات هيهات، وقد قُتل وجُرح الملايين من الناس، وهُدِّمت البيوت والمساجد، وانتُهِكت الحرمات، وسُلبت الأموال، وقُطعت الطرق، والله المستعان!!  

إن علماء أهل السنة لا يدافعون بذلك عن الدول المسلمة الظالمة حُبًّا في ظلمهم، أو ركونًا إلى دنياهم!! فهم من أبعد الناس عن ذلك، وهم أقل الناس حظًّا مما في يد الحكام، ولكن ينكرون الفتنة وما يُفضي إليها: اتباعًا لمنهج السلف، وحفاظًا على ما بقي من خير، وصيانة للدماء من السفك، وللحرمات من الانتهاك، وإن كانوا يتألمون لوجود المنكرات، ولا يجحدون وجودها، ولا يبالغون في الاعتذار لأهلها، وينصحون ما أمكن بالحذر من مَغبة الذنوب، ويدعون الله عز وجل باختيار الأصلح للإسلام والمسلمين.   

ثم لو سلمنا أنكم أيها الشباب قد أسقطتم الدولة الفلانية، ونجحتم في ذلك مع أن هذا لا يكون إلا بإهلاك الحرث والنسل!! والمسلمون على هذا الحال من الضعف، فهل سيترككم أعداء الإسلام وشأنكم ؟! أم سيجعلونها حربًا أهلية بينكم وبين طوائف الشعب، الذين يصدق على كثير منهم قوله تعالى:)تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ( ([23])ثم يتدخل الأعداء بعد الخراب والدمار، كما تدخلوا في كثير من البلدان فتكون الجماجم والأشلاء من المسلمين منكم وممن حاربكم ثم تكون الثمرة لغيرنا، والأمر كما قيل: نحن نمسك برأس البقرة وقرنيها، وأعداء الإسلام يحلبونها!! فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد قيل:

على كتفيْه يبلغ المجدَ غيرُه       فهل هو إلا للتسلق  سُلَّم

(تنبيـه): إن من العجب: أن ترى بعض الجماعات تستدل بالكلام السابق لشيخ الإسلام في وجوب نصب الإمارة: على وجوب بيعة  أميرها، ولزوم الانضواء في حزبها، وضرورة الانتماء لرايتها وشعاراتها!!

هذا؛ مع أن كثيرًا من أمرائهم مستضعفون مجهولون، لا يكاد يَعْلَم بهم إلا من يثق به، ويطمئن إليه!!

ومع ذلك فلا يرون السمع والطاعة في المعروف للملوك والرؤساء الممكَّنين بالاختيار، أو بالغلبة والشوكة في جميع البلدان!! وإن كان بعضهم في الكلام عنه تفصيل مع أن الطاعة لا تكون إلا لممكَّن معلوم، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يستدل بكلامه السابق هؤلاء على صحة بيعاتهم في((منهاج السنة))([24]) في سياق رده على الروافض في دعوى المهدوية: ((الوجه التاسع: وهو أن النبي –  صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين، الذين لهم سلطان، يقدرون على سياسة الناس، لا بطاعة معدوم ولا مجهول، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلًا… )).اهـ.

فتأمل هذا، واحمد الله على العافية!!  

لكن قد يقول قائل: هذه النصوص السابقة في السمع والطاعة في المعروف، والصبر على الأذى؛ كلها حق، ولكنها تُنـزَّل على الأئمة المسلمين، الذين عندهم جور وظلم على أسوأ الاحتمالات، أما جميع حكام زماننا فكفار، ومن هنا فلا سمع لهم ولا حُرمة، وتعيَّن الخروج عليهم لإزالتهم!!

والجواب: أننا لا نسلم بهذا الإطلاق، ولهذا تفصيل طويل الذيل، ليس هذا موضعه، وأسأل الله أن يوفقني لإتمام ما شَرَعْتُ فيه بهذا الصدد، وأن يدفع عني الشواغل والمشاكل، والعلائق والعوائق التي تحول بيني وبين الخير كله، ظاهره وباطنه، ما علمتُ منه وما لم أعلم.

لكن لو سلمنا جدلًا!! بما قالوه؛ فهل يلزم من ذلك إثارة الفتن، وفتح أبواب الشغب المفضي إلى محق ما بقي من خيرٍ في المجتمعات ؟!   فكُفْر الحاكم شئ، وجرّ الفتن على البلاد والعباد شئ آخر!!

فهل إثارة الفتن هي التي تجعل الحاكم الكافر مسلمًا، والفاجر منهم تقيًا ؟ وهل اندلاع نار الفتن المفضية إلى إهلاك الحرث والنسل، وزيادة المظلوم ظلمًا،والفاجر فجورًا؛ هو الذي يقيم شعائر الدين، ويُذِلُّ العصاة والكافرين ؟ وهل عقوبة الفاسق أو الكافر شرعًا تكون بهذه الطريقة ؟! وهل استفدنا خلال عقود من الزمان أكثر من  نصف قرن من هذه الأفعال في عدد من البلدان، فَقَلَّ بها الشر أو زال ؟!

إن الناظر بعين العدل والتجرد؛ يجد أن هذه الأمور ما جَرَّتْ على المسلمين إلا شرًّا، فزادت الكادح كدحًا، والمظلوم ظلمًا، والمنكر فُحْشًا، بل نجد بعض المسلمين في بعض البلدان يتمنون دخول اليهود والنصارى؛ ليوقفوا الحرب الأهلية بينهم، أو يستعينوا بهم على إخوانهم وأبناء جلدتهم!! ) فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ([ الحشر: 2 ].

قال الإمام ابن القيم –  رحمه الله – ([25]) في سياق تمثيله لقاعدة: تغيير الفتوى بتغير الأزمنة والأحوال: ((… المثال الأول: أن النبي –  صلى الله عليه وعلى آله وسلم – شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله؛ فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يُبغضه ويمقت أهله وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابةُ رسولَ الله –  صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم ؟ فقال: ((لا، ما أقاموا الصلاة،)) وقال: ((من رأى من أميره ما يكره؛ فلْيصبر، ولا ينـزعنَّ يدًا من طاعته )).

قال: ((ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار؛ رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته، فتولَّد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله –  صلى الله عليه وعلى آله وسلم – يرى بمكة أكبر المنكرات، ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة، وصارت دار إسلام؛عَزَم على تغيير البيت ورَدِّه على قواعد إبراهيم، وَمَنَعَهُ من ذلك مع قدرته عليه خشيةُ وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه، كما وُجِد سواء…)).

إلى أن قال – رحمه الله –: ((وسمعت شيخ الإسلام قدّس الله روحه، ونوَّر ضريحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم مَنْ كان معي؛ فأنكَرْتُ عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر، لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسَبْي الذرية، وأخْذ الأموال، فَدَعْهُمْ)).اهـ.

قلت: فتأمل قول ابن القيم –  رحمه الله –: ((فقد كان رسول الله–  صلى الله عليه وعلى آله وسلم – يرى بمكة أكبر المنكرات، ولا يستطيع تغييرها)) ولا شك أن المراد بذلك عبادة الأصنام، وهذا كفر بواح لا إشكال فيه، ومع ذلك لم يغيره الرسول –  صلى الله عليه وعلى آله وسلم – آنذاك لضعف قدرة المسلمين على ذلك، ولما يترتب عليه من شرٍّ  وفتنة، وهذا كله يدلك على أن تغيير المنكر مقيد بالقدرة والمصلحة، سواء كان ذلك في زمن حاكم فاسق، أو كافر كفرًا لا خلاف فيه.

وانظر في ((الاستقامة)) حكاية شيخ الإسلام عن نفسه إنكاره على المسلمين الذين أنكروا على التتار والكرج ونحوهم شرب الخمر، وكذا تفصيله البديع في مراعاة المصالح والمفاسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى قال: ((فالحاصل أنه تجب الموازنة بين الحسنات والسيئات التي تجتمع في هذا الباب وأمثاله وجودًا وعدمًا... ))([26]).اهـ. 

فالذين يرون  الخروج لكفر حكام المسلمين جميعًا عندهم لم يراعوا ما اعتنى به السلف من النظر إلى القدرة والمصلحة، بل خالفوا النص الصريح: ) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( ([27])والاستطاعة الشرعية لا تكون كذلك إلا بإزالة المنكر بدون مفسدة مساوية أو راجحة، وذلك كله بتقدير أهل العلم والفهم.

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى –: ((والاستطاعة في الشرع: هي مالا يحصل معه للمكلَّف ضرر راجح … ))([28]).اهـ.

وبيَّن –  رحمه الله – ((أن القتال إذا كانت مفسدته أكبر من مصلحته: فهو قتال فتنة…))([29]) .اهـ.

وإن ذلك التقدير يكون بميزان الشريعة، لا بالتَّشَهِّي والفوضى، لما قال شيخ الإسلام:

((لكن اعتبار المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص؛ لم يعْدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تعوز النصوص من يكون خبيرًا بها وبدلالتها على الأحكام))([30]) .اهـ.

وقد قال الجويني في ((غياث الأمم))([31]) في سياق الكلام على من يُقَدِّر المصالح والمفاسد، فقال: ((ولا يكون ذلك لآحاد الرعية، بل لأهل الحل والعقد)).

فلو سلمنا بإطلاق تكفير حكام المسلمين اليوم جميعًا كما يرى هؤلاء المخالفون فلا يلزم الخروج عليهم بالسلاح، لأن غاية الأمر أن يكون حال المسلمين اليوم كحال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم –عندما كان يرى أكبر المنكرات وعبادة الأصنام بمكة؛ وهو صابر على ذلك، ومشتغل بأمر الدعوة، لا مجرد تكسير الأصنام فقط، فلما حطمها من قلوبهم؛ حطمها أمام أعينهم، وهم يحمدون الله ويشكرونه على نعمة الإسلام، فأين نحن من الحكمة النبوية ؟!

فمن نظر في حال رسول الله–  صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وأصحابه – رضي الله عنهم- بمكة، ورأى صبرهم على أذى المشركين مع الدعوة بالتي هي أحسن؛ علم الفارق بين هذا وبين حال من خالف منهج العلماء اليوم، والله المستعان.

وكذلك موقف الإمام أحمد ممن أراد الخروج على الواثق، مع قول الواثق بخلق القرآن، ودعوته إلى ذلك، وامتحان الناس بذلك، وإيذاء أهل السنة، واتفاق العلماء على كفر هذه المقالة.

وكذلك موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – وغيره من علماء السنة من الحكام الباطنيين، والحلوليين، وغلاة المعطلة، وغير ذلك ممن وقعوا في مكفِّرات عظيمة، والله أعلم.

ولذا فقد قال صاحب الفضيلة الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله  –: ((… وإذا فرضنا على التقدير البعيد: أن ولي الأمر كافر؛ فهل يعني ذلك أن نُغِير الناس عليه، حتى يحصل التمرد، والفوضى، والقتال ؟! لا شك أنه خطأ، المصلحة التي تحصل غير مرجوة في هذا الطريق، المصلحة التي يريدها هذا؛ لا يمكن أن تحصل بهذا الطريق، بل يحصل في ذلك مفاسد عظيمة، لأنه مثلًا إذا قام طائفة من الناس على ولي الأمر في البلاد، وعند ولي الأمر من القوة والسلطة ما ليس عند هذا، ما الذي يكون ؟ هل تغلب هذه الفئة القليلة ؟ لا تغلب!! بل بالعكس: يحصل الشر والفوضى والفساد، ولا تستقيم الأمور، والإنسان يجب عليه أن ينظر أولًا بعين الشرع، ولا ينظر أيضًا إلى الشرع بعين عوراء، ينظر إلى النصوص من جهة دون الجهة الأخرى، بل يجب أن يجمع بين النصوص.

ثانيًا: ينظر أيضًا بعين العقل والحكمة، ما الذي يترتب على هذا الشيء ؟ لذلك نحن نرى مثل هذا المسلك، مسلكًا خاطئًا جدًّا، وخطيرًا، ولا يجوز للإنسان أن يؤيد مَنْ سَلَكه، بل يرفض هذا رفضًا باتًّا، ونحن لا نتكلم على حكومة بعينها، ولكن نتكلم على سبيل العموم ))([32]).اهـ. 

وبعد تقرير أنه لايلزم من مجرد كُفر الحاكم إن سلَّمنا بذلكدعوة الناس للخروج عليه، ومنابذته بالسلاح؛ فاعلم أن الخروج على الحاكم المسلم وإن ظلم يجر إلى فساد عظيم.

فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – ([33]): ((ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان؛ إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته)).

وقال –  رحمه الله –: ((وقَلَّ مَنْ خرج على إمام ذي سلطان؛ إلا كان ما تولَّد على فعله من الشر؛ أعظم مما تولد من الخير،كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة، الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة، وأمثال هؤلاء )).

قال: ((وغاية هؤلاء إما أن يُغْلَبُوا، وإما أن يَغْلِبُوا، ثم يزول ملكهم، فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلْقًا كثيرًا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم؛ فهُزِموا وهُزِم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا، ولا أَبْقَوْا دنيا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يصلح به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين، ومن أهل الجنة، فليسوا أفضل من علي، وعائشة، وطلحة، والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يَحْمدُوا ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدرًا عند الله، وأحسن نية من غيرهم )).

قال: ((وكذلك أهل الحرة: كان فيهم من أهل العلم والدين  خَلْق، وكذلك أصحاب ابن الأشعث: كان فيهم خَلْق من أهل العلم والدين، والله يغفر لهم كلهم )).

قال: ((وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث: أين كنت يا عامر؟ قال: كنت حيث يقول الشاعر:

عَوَى الذُئب فاستأنسْتُ بالذئب إذْ عَوَى

وصَـوَّت إنسـانٌ فكـدتُ  أطـير

أصابتنا فتنة؛ لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء )).

قال: ((وكان الحسن البصري يقول: إن الحجاج عذاب الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكنْ عليكم بالاستكانة والتضرع؛ فإن الله تعالى يقول: )وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُون(([34])... وكان أفاضل المسلمين ينهوْن عن الخروج في الفتنة، كما كان  عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وعلى بن الحسين، وغيرهم ينهوْن عام الحرَّة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري، ومجاهد، وغيرهما ينهوْن عن الخروج في فتنة ابن الأشعث، ولهذا استقر أمْر أهل السنة على تَرْكِ القتال في الفتنة، للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي –  صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وصاروا يَذْكُرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جَوْر الأئمة، وترْك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خَلْقٌ كثير من أهل العلم والدين…)).

إلى أن قال: ((وهذا كله مما يبين أن ما أمر به الرسول –  صلى الله عليه وعلى آله وسلم – من الصبر على جور الأئمة، وتَرْكِ قتالهم والخروج عليهم؛ هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدًا أو مخطئًا؛ لم يحصل بفعله صلاح، بل فساد، ولهذا أثنى النبي –  صلى الله عليه وعلى آله وسلم – على الحسن بقوله: ((إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين))، ولم يُثْنِ على أحد لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة، ولا نَزْع يدٍ من طاعة، ولا مفارقة للجماعة ))([35]) .اهـ. 

فتأمل قول شيخ الإسلام: ((ولم يُثْنِ على أحد لابقتال في فتنة...)) الخ يظهر لك أن باب الخروج باب فتنة، فلا تكن من المتهورين فيه، حتى وإن كان الإمام الجائر من الأشرار الفجار، لأن خروجك عليه لا يرجع في الغالب إلا بشر أكبر.

وقد جاء في ((الفتح))([36]) قال ابن بطال: ((وفي هذا الحديث أيضًا حجة لما تقدم من ترك القيام على السلطان ولو جار لأن النبي –  صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أعْلَمَ أبا هريرة بأسماء هؤلاء، وأسماء آبائهم، ولم يأمرهم بالخروج عليهم مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم لكون الخروج أشد في الهلاك، وأقرب إلى الاستئصال من طاعتهم، فاختار أخف المفسدتين، وأيسر الأمرين )).اهـ.

وهذا يدلنا على أن هَدْي رسول الله ـــ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ــ ومنهج الصحابة –  رضي الله عنهم  – ليس فيه إشغال المسلمين بتتبع أخبار وأحوال الحكام، وإشهار ذلك في الناس، حتى يكون ذلك حديث الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والصالح والطالح!! وإلا فلماذا لم يُخبر رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- جميع الصحابة بحال هؤلاء الغلمان الذين يكون هلاك الأمة على أيديهم، كما أخبرهم بالصلاة والزكاة ونحوهما ؟ وإذا كان إشهار ذلك في الناس هو الهدْي الصحيح؛ فلماذا لم يبثه أبو هريرة في الناس ؟! إن هذا كله ليدل على فقه السلف الذي يُغلق الأبواب أمام الفتن المفضية للخراب، وأما من لـم يهتد بهديهم؛ فإنه يرى ذلك جبنًا وخذلانًا، فإلى الله المشتكى.

وقد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – بأن العلم بما يجري من الفتن والملاحم ليس من حقائق الدين، فقال رحمه الله تعالى – بعد ذكره قول أبي هريرة: ((حَفِظْتُ من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- جرابين: فأما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر: فلو بثثته؛ لقطعتم هذا البلعوم)) قال – رحمه الله تعالى – : (( ولكن ليس في هذا من الباطن الذي يخالف الظاهر شيء ، بل ولا فيه من حقائق الدين، إنما كان في ذلك الجراب الخبر عما سيكون في الملاحم والفتن، فالملاحم: الحروب التي بين المسلمين والكفار، والفتن: ما يكون بين المسلمين، ولهذا قال عبدالله بن عمر: لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم، وتفعلون كذا وكذا؛ لقلتم: كَذَبَ أبو هريرة، وإظهار مثل هذا مما تكرهه الملوك وأعوانهم، لما فيه من الأخبار بتَغيُّر دُوَلهم…))([37]) .اهـ.       

فأين هؤلاء الذين يجعلون الجهل بتفاصيل أمور الحكام جهلًا بالمعلوم من الدين بالضرورة، ويرونه جهلًا بحقائق الدين، ويستحلون عرض  مخالفهم، بل ربما استحلوا دمه ؟! 

وقال شارح ((الطحاوية))([38]): ((وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلأنه  يترتب على الخروج عن طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات، ومضاعفة الأجور )).اهـ.

وقال المعلمي رحمه الله تعالى – في ((التنكيل))([39]): ((كان أبو حنيفة يستحب أو يوجب الخروج على خلفاء بني العباس، لِمَا ظهر منهم من الظلم، ويرى قتالهم خيرًا من قتال الكفار، وأبو إسحاق يعني: الفزاري يُنكر ذلك، وكان أهل العلم مختلفين في ذلك، فمن كان يرى الخروج؛ يراه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بالحق، ومن كان يكرهه، يرى أنه شَقٌّ لعصا المسلمين، وتفريق لكلمتهم، وتشتيت لجماعتهم، وتمزيق لوحدتهم، وشُغْلٌ لهم بقتل بعضهم بعضًا، فَتَهِنُ قوتهم، وتقوى شوكة عدوهم، وتتعطل ثغورهم، فيستولي عليها الكفار، ويقتلون مَنْ فيها مِنَ المسلمين، ويُذِلُّونهم، ويستحكم التنازع بين المسلمين، فتكون نتيجته الفشل المخزي لهم جميعًا )).

قال: ((وقد جَرَّبَ المسلمون الخروج؛ فلم يروا منه إلا الشر، خرج الناس على عثمان، يرون أنهم إنما يريدون الحق، وخرج أهل الجمل، يرى رؤساؤهم ومُعْظَمُهم أنهم إنما يطلبون الحق، فكانت ثمرة ذلك بعد اللُّتَيَّا والتي: أن انقطعت خلافة النبوة، وتأسست دولة بني أمية، ثم اضطُّر الحسين بن علي إلى ما اضطُّر إليه، فكانت تلك المأساة، ثم خرج أهل المدينة، فكانت وقعة الحَرَّة، ثم خرج القراء مع ابن الأشعث، فماذا كان ؟! ثم كانت قضية زيد بن علي، وعَرَضَ عليه الروافض أن ينصروه على أن يتبرأ من أبي بكر وعمر؛ فأبَى، فخذلوه، فكان ما  كان، ثم خرجوا مع بني العباس، فنشأت دولتهم التي رأى أبو حنيفة الخروج عليها واحتشد الروافض مع إبراهيم الذي رأى أبو حنيفة الخروج معه ولو كُتِبَ له نَصْرٌ؛ لاستولى الروافض على دولتهم، فيعود أبو حنيفة يفتي بوجوب الخروج عليهم))!!

قال([40]): ((هذا، والنصوص التي يحتج بها المانعون من الخروج والمجيزون له معروفة، والمحققون يجمعون بين ذلك: بأنه إذا غلب على الظن أن ما ينشأ عن الخروج من المفاسد أخف جدًّا مما يغلب على الظن أنه يندفع به؛ جاز الخروج، وإلا فلا، وهذا النظر قد يختلف فيه  المجتهدان، وأولاهما بالصواب: من اعتبر بالتاريخ، وكان كثير المخالطة للناس، والمباشرة للحروب، والمعرفة بأحوال الثغور، وهكذا كان أبو إسحاق )).اهـ. 

قلت: وقد ذَكَرْتُ كلام المعلمي رحمه الله تعالى – لأُبيِّن مفاسد الخروج على الولاة الظلمة، وأما الخلاف بين العلماء في أمر الخروج؛ فهو خلاف قديم، وقد استقر الأمر بعد ذلك على المنع منه، وصار عدم الخروج شعارًا لأهل السنة، فذكروه في كتبهم المصنفة في ذِكْر عقيدتهم، وعدُّوا المخالف لهم في ذلك مبتدعًا من أهل الأهواء.

فقد قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى – في عقيدته التي رواها عنه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة))([41]): ((لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم: أهل الحجاز، ومكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، والشام، ومصر،لقيتهم كرّاتٍ قرنًا بعد قرْن، ثم قرنًا بعد قرْن ([42])، أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ست وأربعين سنة: أهل الشام، ومصر، والجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات، في سنين ذوي عدد، بالحجاز ستة أعوام، ولا أُحصي كم دخلت الكوفة، وبغداد، مع محدثي أهل خراسان...)) ثم ذكر أسماء بعضهم في عدد من البلدان.

ثم قال: ((واكتفينا بتسمية هؤلاء؛ كي يكون مختصرًا، وأن لا يطول ذلك، فما رأيت واحدًا منهم يختلف في هذه الأشياء…)) فذكر أمورًا في العقيدة، ومن ذلك قوله: ((وألا ننازع الأمر أهله وألا يرى السيف على أمة محمد –  صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقال الفضيل: لو كانت لي دعوة مستجابة؛ لم أجعلها إلا في إمام، لأنه إذا صلح الإمام؛ أمِنَ البلاد والعباد، قال ابن المبارك: يا مُعَلِّم الخير، من يجترئ على هذا غيرك ؟ )).اهـ.

فتأمل هذا الإجماع المستقر الثابت الرافع للخلاف في هذه المسألة، وتأمل قول ابن المبارك للفضيل، فلعله والله أعلم يشير إلى أن أهل الأهواء من عادتهم رمي أهل السنة بالجبن والضعف أمام الحكام، ولذلك والله أعلم ربما سكت بعض أهل السنة عن التصريح أمامهم بالدعاء للإمام، ولما سمع ابن المبارك هذا القول من الفضيل؛ قال له: ((… من يجترئ على هذا غيرك)) ؟! مما يدل على قوة الفضيل في الصدع بما يعتقد، وكم من عالم أو إمام اليوم يُنتقد عليه أنه يدعو لولي الأمر، ويقال فيه بدون وجه حق : هو عميل، أو متزلِّف، أو جبان … إلخ، فما على صاحب الحق إلا المضيّ فيه، وإلى الله سبحانه وتعالى المشتكى، وعليه التكلان!!

وقد ذكر اللالكائي أيضًاالإجماع عن غير واحد، فارجع إليه في المصدر السابق.

وقال الأشعري في ((رسالة أهل الثغر))([43]): ((وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وعلى أن كل مَنْ ولي شيئًا من أمورهم عن رضًى أو غلبة، وامتدت طاعته مِنْ برٍّ وفاجر لا يلزم الخروج عليه بالسيف جارَ أو عَدَل، وعلى أن يُغْزا معه العدو، ويُحَجَّ معهم البيت، وتُدْفع إليهم الصدقات إذا طلبوها، ويُصَلَّى خلفهم الجُمَع و الأعياد)).اهـ. كلامه رحمه الله تعالى –.

وهذا الإجماع موافق لما سبق، ولا حجة للمخالفين في ذكر الأشعري غزو الإمام العدوَّ، لأنه لا يلزم من ترك الغزو وفيه تفاصيل خلع اليد من الطاعة مطلقًا، والله أعلم.

وبنحو ذلك قال الصابوني في ((عقيدة السلف أصحاب الحديث))([44]): ((ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم، برًّا كان أو فاجرًا، ويرون جهاد الكفار معهم، وإن كانوا جَوَرة فَجَرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح، والتوفيق، والصلاح، وبَسْط العدل في الرعية، ولا يرون الخروج عليهم بالسيف، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف... )). اهـ كلامه.

وقال الإسماعيلي في ((اعتقاد أهل السنة))([45]):((ويروْن الدعاء لهم بالإصلاح، والعطف إلى العدل، ولا يروْن الخروج بالسيف عليهم )).اهـ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – ([46]): ((وأما أهل العلم والدين والفضل؛ فلا يرخّصون لأحدٍ فيما نهى الله عنه:من معصية ولاة الأمور، وغشهم، والخروج عليهم بوجه من الوجوه، كما قد عُرِف من عادات أهل السنة والدين قديمًا وحديثًا، ومن سيرة غيرهم)).اهـ.

وقال أيضًا: ((فلهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة: لزوم الجماعة، وترْك قتال الأئمة في الفتنة، وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم ))([47]).اهـ.

ونقل الإمام ابن القيم في ((حادي الأرواح))([48]) عن حرب صاحب أحمد في ((مسائله)) المشهورة، أنه قال: ((هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الآثار،وأهل السنة المتمسكين بها، المقتدَى بهم فيها من لدن أصحاب النبي –  صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى يومنا هذا، وأدركْتُ مَنْ أدركْتُ من علماء أهل الحجاز، والشام، وغيرهم عليها، فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها؛ فهو مخالف، مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق )).

قال: ((وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم، وعبدالله بن مخلد، وعبدالله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم، ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم، وكان من قولهم...)) فذكر أمورًا،  وفيها: ((… والانقياد لمن ولاه الله – عز وجل – أمركم، ولا تنـزع يدًا من طاعة، ولا تخرج عليه بسيف، حتى يجعل الله لك فرجًا ومخرجًا، ولا تخرج على السلطان، وتسمع وتطيع، ولا تنكث بيعته، فمن فعل ذلك؛ فهو مبتدع، مخالف، ومفارق للجماعة... )).اهـ.

وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى –

((وأما الخروج عليهم وقتالهم؛ فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظلمة وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق))([49]).اهـ.  

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في((تهذيب التهذيب))([50]) ترجمة الحسن ابن صالح بن حي، أنه كان يرى السيف، ثم قال: ((وقولهم: كان يرى السيف، يعني: كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك؛ لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه،ففي وقعة الحَرَّة، ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عِظة لمن تدبر…)).اهـ. 

وقد قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله تعالى – ([51]): ))… ولم يَدْرِ هؤلاء المفتونون: أن أكثر ولاة أهل الإسلام، من عهد يزيد بن معاوية حاشا عمر بن عبد العزيز ومن  شاء الله من بني أمية قد وقع منهم من الجراءة، والحوادث العظام، والخروج، والفساد في ولاية أهل الإسلام، ومع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام، والسادة العظام معهم معروفة مشهورة: لا ينـزعون يدًا من طاعة فيما أمر الله به ورسوله من شرائع الإسلام، وواجبات الدين…)).اهـ.

فلو سلمنا جدلًا بأن جميع حكام المسلمين اليوم كفار كما يدَّعي هؤلاء؛ فإن ذلك لا يسوِّغ الخروج عليهم بالقتل والقتال والمسلمون بهذا الحال لما يؤول بهم الأمر إلى المفاسد التي تهلك الحرث والنسل، فكيف وهذا الإطلاق في الحكم جائر عن سواء الصراط، وعن فتاوى الراسخين في العلم، بل لابد من التفصيل، والحكم بعدل وقسط ؟!

وليس هذا إقرارًا مني للمنكرات الموجودة في المجتمعات فمعاذ الله من الضلالة بعد الهدى إنما المراد: الحفاظ على ما أمكن من الخير، ودَرْء ما أمكن من المفاسد.

وقد قال صاحب الفضيلة الشيخ صالح الفوزان –  حفظه الله  – في سياق ذم الخروج على الحكام الظلمة : ((لأن في الخروج عليهم أشد مما هم واقعون فيه من الخطأ والخلل، ويحصل مضرة أكبر من الصبر على أذاهم، الصبر على أذاهم مضرة بلا شك، ولكن ما يترتب على الخروج عليهم أشد من نقض عصا الطاعة، وتفريق كلمة المسلمين، وتسلط الكفار على المسلمين، هذا أشد من الصبر على ظلم الوالي الظالم أو الفاسق، الذي لم يصل إلى حد الكفر )).([52])

وقد سبق عن شيخ الإسلام قريبًا أنه قال: ((وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يُرخِّصون لأحد فيما نهى الله عنه: من معصية ولاة  الأمور، وغشهم، والخروج عليهم بوجه من الوجوه )).اهـ.

فتأمل قوله: ((والخروج عليهم بوجه من الوجوه)) وذلك لما يؤول إليه الحال من الشر المستطير، والبلاء المبير!!

وقد سبق أيضًا أنه ذكر ثناء النبي –  صلى الله عليه وعلى آله وسلم – على الحسن–  رضي الله عنه – بسبب ما جرى من صلح على يديه، ثم قال شيخ الإسلام:

((ولم يُثْنِ على أحد: لا بقتال في فتنة،ولا بخروج على الأئمة، ولا نزْع يدٍ من طاعة، ولا مفارقة للجماعة )).اهـ.

واعلم بأن باب تكفير الحكام ومن ثمَّ الخروج عليهم لا يجوز أن يشتغل به طلاب العلم، أو أن يكون كلًا مباحًا لمن دَبَّ ودَرَجَ!! بل لا بد من الرجوع فيه إلى أهل الاجتهاد والاستنباط، ولأَنْ نترك قولنا لقولهم في مثل هذه المسائل الشائكة؛ خير لديننا ودنيانا، ولأن نخطئ في العفو؛ خير من أن نخطئ في العقوبة لاسيما في أمر الحكام وكم للدعوة والدعاة من سنوات زادت عن المدة التي تاه فيها بنو إسرائيل من الخبط، والخلط، والاضطراب، والهرج بسبب ترك نصائح كبار أهل  العلم، والخوض في مسألة من أعظم المسائل، بدون هُدًى ولا كتاب منير، ولا اتعاظ بما جرى للأمة سلفًا وخلفًا من فتنة الأرض وفساد عريض!!

واعلم أننا لو سلمنا بكفر الحكام؛ لكان النظر إلى تحقُّق شرط القدرة على الخروج عليهم، والنظر في المصالح والمفاسد؛ أمرًا متعينًا، فهاهي بلاد اليهود والنصارى؛ لا نُسوِّغ للمسلمين المقيمين بها أن يقوموا فيها بهذا الشغب، بل نُطالبهم بأن يكونوا دعاة إلى الله عز  وجل   – متمسكين بدينهم الحنيف ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا وأن يتخلقوا بالأخلاق الحسنة، التي يأمر بها هذا الدين فإن ذلك سبيل من سُبل الدعوة إلى  الله وألا يشوِّهوا صورة الإسلام بهذه الأفكار الشاذة، وتلك المفاسد التي يحرمها ديننا، وتخالف نهج سلفنا، وحذَّر منها أئمتنا، فلم نُرخص بهذا الأمر في بلاد اليهود والنصارى وغيرهم لما سبق، ولأنه ليس كل كافر يجوز أن يحارَب في بلاده،  فكيف في بلاد الإسلام ؟!

وقد جاء في ((سؤالات أبي داود لأحمد))([53]): ((سمعت أحمد سئل عن الأسير إذا أمكنه في بلاد العدو أن يقتل منهم ؟ قال: إذا عَلِم أنهم أمِنُوه على أنفسهم وأموالهم؛ فلا يقتل منهم، قيل: إنه مُطْلَق ؟ قال: قد يطلق لأمر ولا يأمنونه، إذا علم أنهم أمنوه؛ فلا يقتل)).اهـ.

ها هي أخلاق المسلمين وآدابهم، فلا عبرة بمن شذَّ، ولا سَمْعَ ولا طاعة لمن يحقد على المسلمين، ويهتبل هذه الجرائم ليشوِّه بها صورة الإسلام وأهله!! 

ولقد لقيت بعض الشباب المغَرَّر بهم في مدينة ((لندن)) سنة 1420هـ، بعد أن دخل المسجد أثناء محاضرة لي، وأصرّ على مناظرتي، وقد حاولت الإعراض عنه وصَرْفه عن ذلك، فأبى وشغَّب، فناقشته في بعض هذه الأفكار التي يدعو إليها، ومما ذكره لي إجابة على سؤال مني: أنهم لا يقومون بعمليات اغتيالات أو تفجيرات في بلاد أوربا والواقع حتى الآن يشهد بذلك في الغالب لأن ذلك يجر عليهم المفاسد، ويجعلهم خائفين في آخر معقل لهم وجدوا فيه الأمان، هكذا قال!!

ويُشكر ذاك الرجل على تعقله في هذا الموضع!! لكن لماذا يقومون بهذه الفتن في بلاد الإسلام، وهي تجر مفاسد لا تُحمد عقباها أيضًا ؟! فهل درء المفاسد معتبر في بلاد أوربا وغيرها، وغير معتبر في المملكة العربية السعودية، واليمن، ومصر، والشام، وليبيا، وبلاد المغرب العربي، والكويت، والصومال، والباكستان، وغير ذلك من بلاد الإسلام ؟!

وصدق من قال:

قُلْنا ولم نفعل أمام عدونا                وعلى أحبتنا نقول ونفعلُ

هذا، والتفجيرات منكرة حيثما كانت: هنا أو هناك أو هنالك لما سبق، والله أعلم.

ثم ما الذي جعل كثيرًا من هؤلاء المخالفين: يهاجرون من بلاد الإسلام، ويأمنون في بلاد اليهود والنصارى وأهل الأوثان ؟!

إن أفكارهم المخالفة لمنهج أهل السنة، كانت سببًا من جملة الأسباب التي ضَيَّقت عليهم، فلما غَلَوْا في تكفير الحكام، ولم يلزموا منهج السلف وطريقة كبار أهل العلم من الخلف في ذلك، واستباحوا الدم الحرام؛ تعرضوا لفتن عظام، بل عوملوا في كثير من البلدان بما يخالف عدل الشريعة الإسلامية، وهذا شأن الفتن، لا تُعَالَجُ في كثير من الأحيان إلا بفتن أشد منها، ونُشْهد الله على كراهية ما يخالف الدين الحنيف منهم ومن غيرهم، لكن المقام مقام تفسير للواقع، وليس إقرارًا لما هو واقع، فتأمل.

أقول هذا، ومع ذلك فنحن لم نَسْلَم في حالات كثيرة من ظلم بعض ذوي السلطان نتيجة الوشايات الكاذبة ومن محاولة من يسعى إلى إيذاء إخواننا الدعاة إلى الله تعالى وطلاب العلم، لكننا نسلك المسلك الشرعي في التعامل مع هذه المحن: طاعةً لله عز وجل، ولزومًا لغرز الأئمة الأعلام، وما أمْر طلاب دار الحديث بمأرب، وما جرى عليهم في شوال 1422هـ مِنْ ظُلم، وعدوان، وافتراءٍ عن كثير من الناس ببعيد، فحسبنا الله ونعم الوكيل، ونسأل الله أن يجمع لنا بين الأجر والسلامة فإن العافية أوسع لنا، وأستر لضعفنا إنه على كل شيء قدير.

(تنبيه): سيأتي –  إن شاء الله تعالى  –في الفصل السادس في رد الشبهات الجواب موسعًا على شبهة من ذهب إلى الخروج على الحكام بعد تكفيره  لهم!!

( خاتمة هذا الفصل ): يتلخص مما مضى: أن الأمن والاستقرار نعمة عظيمة، يتمتع بها الجميع، والحفاظ عليها مع وجود مخالفات كثيرة في المجتمعات مع النصح بالتي هي أحسن؛ هَدْيُ السلف، ونهج من سلك سبيلهم من أئمة الخلف، وعلماء هذا  العصر.

وأن هذه النعمة لا تتحقق إلا بدولة قوية وإن كانت ظالمة ولا تكون الدولة قوية؛ إلا بطاعتها ربَّها، وطاعة الأمة لها في طاعة الله –  عز وجل – وعند اختلال هذا الميزان من جهة الدولة المسلمة، بأن تفرِّط في حق الله أو حق الرعية؛ فلا بد من الصبر من الرعية مع النصح، والاستمرار في الدعوة، وإطفاء الفتن، ونُصْح الذين يُهَيِّجون الدهماء على الملوك والرؤساء، بأن يتركوا هذا المسلك الثوري الخارجي وإن صلحت نياتهم وأن يلزموا النهج العلمي السلفي الدعَوي الإصلاحي، فإن أعظم جهاد الآن جهاد الدعوة والبيان، وقد قال الله تعالى في سورة الفرقان وهي مكية قبل فرض القتال بالسيف: ) وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا(([54]) أي بالقرآن والدعوة إليه، لا بالقتال، فتأمل.

بل الدعوة إلى الله، ورد الشبهات عن هذا الدين، ونشر العلم النافع في الناس؛ أعظم الجهاد في سبيل الله، قال الإمام ابن القيم –  رحمه الله تعالى  –: ((وإنما جُعل طلب العلم من سبيل الله؛ لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد، فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان، وهذا المشارِكُ فيه كثير، والثاني: الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادَيْن؛ لعِظمِ منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه، قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية ) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا!فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا( ([55]) فهذا جهاد لهم بالقرآن، وهو أكبر الجهاديْن، وهو جهاد المنافقين أيضًا، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوَّهم معهم، ومع هذا فقد قال الله تعالى: ) يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( ([56]) ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن.

والمقصود: أن سبيل الله هي الجهاد، وطلب العلم، ودعوة الخلق به إلى الله، ولهذا قال معاذ –  رضي  الله عنه  –: ((عليكم بطلب العلم: فإن تعلُّمه لله خشية، ومدارستَه عبادة، ومذاكرتَه تسبيح، والبحث عنه جهاد))، ولهذا قرن سبحانه بين الكتاب المنـزل والحديد الناصر، كما قال تعالى: ) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ( ([57]) فذكر الكتاب والحديد، إذْ بهما قوام الدين، كما قيل

فماهو إلا الوحي أو حُدُّ مُرْهَفٍ    تُميل ظِباه أَخْدَعَيْ كـل مائـلِ

فهذا شفاء الداء من كل عاقـل    وهذا دواء الداء من كل جاهـل

إلى أن قال –  رحمه الله تعالى  –: ((فطلبُ العلم وتعليمه من أعظم سبيل لله عز وجل_)).([58]).اهـ.

وقال شيخ الإسلام –  رحمه الله تعالى  –: ((والرادُّ على أهل البدع مجاهد، حتى كان يحيى بن يحيى يقول: الذبُّ عن السنة أفضل من الجهاد… )) ([59]) .اهـ.

وقد قال شيخ الإسلام ([60]): ((… وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمرٌ بالمعروف، ونهي عن المنكر )).اهـ. 

وأيضًا: فالصبر عند الجور، وتَرْك الفتن؛ مما أجمع عليه السلف، بعد خلاف قديم، والعبرة بما استقر عليه الأمر مؤخرًا، حتى صار شعارًا لأهل السنة في كل عصر ومصر، ولم يخالفهم فيه بعد الإجماع إلا أهل الأهواء.

وأيضًا:  فإننا معشر طلاب العلم لا نرى الحكم على حاكم معين بالكفر؛ إلا إذا ظهرت الأدلة على ذلك، وسبقنا إلى هذا الحكم العلماء الراسخون، ورُوعيتْ قواعد أهل السنة في تكفير المعيَّن، ومن ذلك: استيفاء الشروط، وانتفاء الموانع؛ لأن هذه مسألة خطيرة، وعواقبها في الغالب وخيمة، ولا يلزم كلَّ واحد منا أن يُدلي فيها بدلوه، وأن يُحدِّد موقفه منها، فإن تكفير فلان بعينه أو عدمه؛ ليس من المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، وليس من المسائل التي لا يسع مسلمًا الجهلُ بها، وليس مما يلزم كُلَّ مكلف أن يقرر بجلاء: هل الحاكم الفلاني مسلم أو كافر إذا ارتكب أمرًا مكفِّرًا.

كما يلزمه الإقرار بوجوب الصلاة، وحرمة الزنا، فإن هذا الأمر يلزم جميع المكلفين، بخلاف الأول؛ فإنه يخص العلماء المتأهلين.

وهناك أمور لا بد من طرحها في هذا المقام، فإن فِقْهَ هذه الأمور فيه عَوْن عظيِم على سلوك المنهج العلمي القويم، أمام جيوش الشبهات الزاحفة على كثير من الغيورين، فأقول وبالله التوفيق والسداد :

( أ ) ـــ لا بد من معرفة الأمر الذي وقع فيه الحاكم قولًا، أو فعلًا، أو اعتقادًا هل هو كُفْر أكبر، أم لا ؟ وهل هو صريح في الكفر، أم محتمل ؟ وهل هو كفر مطلقًا، أم كفْر بشروط توجد في شخص، ولا توجد في غيره ؟ فكثير من الناس يُطلق التكفير على أمور فيها تفصيل.

(ب) ـــ إذا سلمنا بأن ما وقع فيه الحاكم كُفْر أكبر، وصريح في ذلك؛ فهل يلزم من الوقوع في الكفر، أن يكون الحاكم كافرًا ؟! هناك فرق بين العموم والمعين، والنوع والفرد، والقول والقائل، والفعل والفاعل، أي يُحكم على العموم، أو النوع، أو القول، أو الفعل بالكفر، ولا يلزم من ذلك أن يكون القائل أو الفاعل كافرًا.

فلا بد قبل تكفير المسلم من استيفاء شروط التكفير، وانتفاء موانع التكفير عنه، فقد يكون جاهلًا، أو خائفًا، أو متأوِّلًا، , أو أخذ بفتوى من يثق به من ذوي الأهواء والشهوات، أو نحو ذلك مما لابد فيه من إزالة الشبهة، وقَطْع العذر، حتى يظهر أنه مستحق شرعًا للحكم عليه بالكفر.

(جـ) ـــ لو سَلَّمنا بأن الحاكم قد وقع في الكفر الأكبر الصريح، وأنه لا بد من إقامة الحجة عليه، ومن ثَمَّ الحكم عليه بما يستحق، فهل هذا المقام كلأٌ مباح لكل أحد: عالمًا كان أم جاهلًا ؟ أم أن هذا المقام للعلماء والقضاة الذين يحسنون معرفة مدلولات الألفاظ، ومراتب المسائل، وأحكامها الشرعية، ويُدركون ضرورة النظر إلى قصد المتكلم، لا مجرد ظاهر الألفاظ، ويُدركون الفرق بين السائغ من الأعذار وغيره ؟!

(د) ـــ ولو سلمنا بأن الحاكم كافر بعينه، وقد أُقيمتْ عليه الحجة، وانقطع عذره؛ فهل يلزم من ذلك إشاعة هذا الحكم بين الغوغاء  الأصاغر، والصراخ بذلك من فوق أعواد المنابر ؟!

(هـ) ـــ ثم لو سلمنا بأن إشاعة ذلك جائز في الجملة؛ فهل الظروف التي تمر بها أمتنا هذه الأيام تحتمل إشاعة ذلك، وأن المصلحة تقتضيه؟ أم أن ذلك يؤول إلى شر عظيم، وخطر جسيم ؟! لأنه يُفضي إلى الخروج بالسيف على الحاكم، والمسلمون غير قادرين على ذلك، فتراق الدماء، وتُنتهك الحرمات، ويَثِبُ المتربصون بالجميع وشرهم أكثر على زمام الأمور، فيُسيمون الأمة سوء العذاب، ولا يزداد الطين إلا بِلَّةً، ولا تجني الأمة من وراء ذلك إلا تمزقًا وذِلَّةً، فإلى الله المشتكى!!

إن مراعاة هذه الخطوات وبهذا التسلسل من الأهمية بمكان، وبدون ذلك يسبح الناس في بحر من الدماء، وتُخَيِّمُ عليهم فتنة الدهماء، ونعوذ بالله من هذا البلاء!!

واعلم أن الحكم على المعيَّن، والنظر في الشروط والموانع: ضَرْبٌ من الاجتهاد، لا من مسائل الأصول والاعتقاد، وأن الخلاف في ذلك بين أهل العلم؛ خلاف لا يوجب تضليلًا، أو تفسيقًا، أو تكفيرًا، والمختلفان في ذلك من أهل العلم المتأهلين مأجوران، فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر، ومغفور له خطؤه، فلا تغتر بالتهويل، ولا بمن يهرول وراء مجرد الأقاويل!!

ونعوذ بالله أن نكون مفتاح شر على هذه الأمة، وقد حذَّر النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – من تكفير المسلم وإن صغر شأنه، وضعفت قوته فكيف بتكفير من بيده الشوكة والقوة، دون إتيان لباب التكفير من بابه الشرعي ؟!

كما لا يلزم من ذلك أن نَشْغَل أنفسنا أو غيرنا بالدفاع بالباطل عن أخطاء الحكام، وأن نتكلف ونتعسف في الاعتذار عن الأمر البيِّن الذي لامَدْفع له، وكأننا نتأول للصدِّيق، أو لرجل من العلماء الأبدال!! بل ندعوا لهم بالهداية والصلاح، ونحذِّرهم إن أمكن من مغبة  الذنوب، ومبارزة الله عز وجل بالمعاصي، ونذكِّرهم بحق الله وحق الرعية عليهم، كما نحذِّر من المناهج التي يؤول أمرها إلى إثارة الفتن والفوضى، والله عز وجل يقول: ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً( ([61]).

والمقصود: أن الحق وسط بين طرفين، ووادٍ بين جَبليْن، ونحن منهيُّون عن تحريف الكلم عن مواضعه، ومنهيُّون عن الاشتغال بأخطاء الحكام، وتهييج الناس عليهم، وترك الصبر على ظلمهم، وكذا فقد نهينا عن التقوُّل عليهم أو على غيرهم بلا هُدى ولا كتابٍ منير، ويشرع لنا الدعاء لهم بالهداية والصلاح، وأن يُجري الله الخير على أيديهم للبلاد والعباد.

وقد يقول قائل: ماذا نفعل إذا اختلف العلماء الكبار في الحكم على حاكم فأكثر ؟ فالجواب: أن السكوت أسلم، والإعراض عن الاشتغال بذلك أحكم، ومن ترك الكلام في ذلك درءًا للمفاسد المترتبة عليه؛ فهو محسن غير مسيء وإن أخطأ ومن خاض في ذلك، وأشعل الفتن؛ فهو مسيء وإن ظن أنه يحسن صنعًا !!

وقد يبلغ الحاكم بمعتقداته، أو أعماله، أو أقواله درجة الكفر الأكبر، لكن إظهار ذلك، ونشره، ودعوة الناس إلى العلم به؛ لايأتي في الغالب إلا بما هو أكثر فسادًا من شر هذا الحاكم، فالسكوت عن  ذلك، وصَرْفُ الناس عن الاشتغال به في مجالسهم، ومساجدهم، ومنابرهم إلى ما هو أنفع وأصلح؛ خير لهم في دينهم ودنياهم، ولزوم لمنهج سلفهم.

هذا، مع حثهم على صِدْق اللجوء إلى الله تعالى، والدعاء والتضرع إليه سبحانه، بـأن يختار لهم الخير، ويصرف عنهم الشر، وأن يصلح حاكمهم ويهديه إلى الحق، ويرزقه البطانة الصالحة، فإن في صلاحه صلاح البلاد والعباد، والله تعالى أعلم وأحكم.

 

 

 

([1]) [ قريش 1-4 ].

([2]) برقم (2346).

([3]) وانظر ((صحيح الجامع)) (6042).

([4]) [ البقرة: 126 ]

([5]) ((الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية)) (ص125- 127/ط.الثانبة/جمع محمد بن فهد الحصيّن ).

([6]) [ الأنعام: 82 ].

([7]) [ النساء: 66 ـ 68 ].

([8]) [ طه: 142 ] 

([9]) [ الزخرف: 36 ـ 67 ].

([10]) [ سبأ: 17 ].

([11]) [ النساء: 59 ].

([12]) برقم ( 1846).

([13]) عند البخاري برقم (7052)، وعن مسلم برقم (4752).

([14]) برقم ( 4763).

([15]) برقم ( 1079).

([16])قال شيخنا الألباني رحمه الله تعالى  – في ((ظلال الجنة)) ( 2/499): ((إسناده صحيح)).اهـ.

([17]) ((مجموع الفتاوى)) (28/390-391).

([18]) ((مجموع الفتاوى)) (28/64-65).

([19]) ((مجموع الفتاوى)) (14/268).

([20]) ((مجموع الفتاوى)) (30/ 136 ).

([21])((منهاج السنة)) (1/547-548).

([22]) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 46).

([23]) [ الحشر: 14 ].

([24]) (1/115) ت/ محمد رشاد سالم.

([25]) ((إعلام الموقعين)) (3/15-16/ ط.دار الفكر ).

([26])  ((الاستقامة)) (2/165-167).

([27]) [ التغابن: 16 ].

([28]) ((مجموع الفتاوى)) (14/103).

([29])((مجموع الفتاوى)) (4/442-443).

([30]) ((الإستقامة)) (2/217).

([31] ) ( ص 96 )، و انظر رسالة ((الخوارج والفكر المتجدد)) (ص40 ) للشيخ عبد المحسن العبيكان.

([32])  نقلًا من ((الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية)) ( ص 86 87 ).

([33]) ((منهاج السنة)) (1/391).

([34]) [ المؤمنون: 76 ].

([35]) ((منهاج السنة)) (4/527-531).

([36]) (13/11) ك/الفتنة، ب/ قول النبي:((هلاك أمتي على يد أُغَيْلمة سفهاء )) الحديث رقم (7058).

([37]) ((مجموع الفتاوى)) (13/255-256).

([38]) ( 2/542 ).

([39]) (ا/93-94) ط/المعارف.

([40] ) ((لتنكيل)) (1/93-94) ط/ دار المعارف.

([41]) (2/193-197/ برقم320/ ط.دار طيبة).

([42]) أي طبقة بعد طبقة، كما هو ظاهر من السياق، وليس المراد جزمًا: مائة سنة!!

([43]) (ص 297) ط / مكتبة العلوم والحكم.

([44]) (ص 106/ ط. مكتبة الغرباء).

([45]) ( ص 50/ ط. دار الريان).

([46]) ((مجموع الفتاوى)) (35/12).

([47]) ((الاستقامة)) (2/215 – 216).

([48]) (ص 401،399/ ط. مكتبة المدني).

([49]) ((شرح مسلم)) (12/432-433).

([50]) ((تهذيب التهذيب(((2/263).

([51] ) ((الدرر السنية)) ( 7/177-178) وانظر ((معاملة الحكام)) (ص 12) وغيرها للشيخ عبد السلام العبد الكريم حفظه الله  –

([52]) انظر ((الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية)) ( ص 93 ).

([53]) (ص332/رقم 1588) تحقيق الأخ طارق عوض الله –حفظه الله – .

([54]) [ الفرقان: 52 ].

([55]) [ الفرقان: 51 – 52 ].

([56]) [ التوبة: 93 ].

([57]) [ الحديد: 25 ].

([58]) ((مفتاح دار السعادة)) (1/70) ط. رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض .

وقد قال ابن عبد البر معلقًا على أثر معاذ بعد أن رواه مرفوعًا: ((ليس له إسناد قوي، وقد روِّيناه من طرق شَتَّى موقوفًا )).اهـ. 

انظر حاشية ((مفتاح دار السعادة)) (1/72) ط. دار بن عفان، تحقيق أخينا الشيخ على الحلبي ـ حفظه الله تعالى ـ

([59]) ((مجموع الفتاوى)) (4/13).

([60]) ((مجموع الفتاوى)) ( 15 / 166 ).

([61]) [ البقرة: 208 ].

للتواصل معنا