بقلم الشيخ

في أطوار ومراحل الفكر الذي أفضى إلى التفجيرات والاغتيالات المرحلة الأولى

في أطوار ومراحل الفكر الذي أفضى إلى التفجيرات والاغتيالات المرحلة الأولى

{الفصل الثاني}

( في أطوار ومراحل الفكر الذي أفضى إلى التفجيرات والاغتيالات )

لا شك أن أي مشكلة تمر بعدة مراحل، حتى تصل إلى العُقْدَة التي يصعب حلها، والهوّة التي يعسر تجاوزها، ومشكلة التفجيرات والاغتيالات؛ ثمرة فِكْر مَرَّ بعدة مراحل، ولا يمكن علاج هذه المشكلة علاجاً نافعاً؛ إلا بمعرفة هذا الفكر في جميع مراحله، حتى تُعَالَج كلُّ مرحلة بما يناسبها شرعاً.

والحامل على كتابة هذا الفصل: أن بعض الذين لهم أفكار مخالفة لمنهج السلف في هذا الباب، والتي أَسْهَمَتْ بقوة في إيجاد هذه المشكلة التي تعاني الأمة اليوم من ويلاتها؛ أصبحوا الآن – بين عشية وضحاها!!!- من جملة المنكرين على الشباب الذين قاموا بالتفجيرات والاغتيالات!!! دون أن يدركوا القَدْر الذي شاركوا به في إيجاد هذه المشكلة، ومن ثَمَّ لم يعلنوا تراجعهم عن أفكارهم السابقة، التي أنجبت هذا المولود المشئوم!! وعلى ذلك فلا نَأْمَن أن تعود المشكلة من جديد- وإن انتهت هذه المشكلة الآن- لأن أصل الداء لا زال موجوداً ولأن الشجرة التي أثمرت هذه الثمرة الحنظلية؛ لازال هناك من يتفقدها، ويمدها بما يقوى من شأنها!!

أقول هذا، وأعلم أن هناك من يغضب من هذه الحقيقة الواضحة، ويحب الغمغمة والغموض في الأمر!! إلا أني أقول هذا لله عز وجل، وبراءة للذمة، ونصحاً للمسلمين، وأُثبت ذلك بياناً للتاريخ، أما رضا الناس فغاية لا تُدْرَك، ومن أرضى الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس، ومَنْ عمل لله؛ فلا يضل ولا يشقى، والله المستعان.

وإنني إذْ أذكر هذه المراحل؛ فلا يهمني – في هذا المقام – إيقاع اللوم على من خالف، أو تعنيفه على ذلك، بقدر ما يهمني تبصيره بمقدار مشاركته في هذا الأمر، لمخالفته منهج السلف في التربية – وإن كان لا يقر العنف الحاصل، وإثارة الفتن الدموية الموجودة اليوم – والعاقل يستفيد من التجارب، ويتعظ بما وقع لغيره، فكيف بما جرى على يديه؟!

كما أن العاقل إذا رأى لازم قوله، أو ما يؤول إليه كلامه، ورأى عِظم البلية على الإسلام وأهله بذلك؛ فإنه يسارع إلى التوبة، وإصلاح ما بقي، واستدراك ما فاته، والله عز وجل يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ونعوذ بالله من أن نسن سنة سيئة؛ فيكون علينا وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

والمراحل التي مر بها هذا الفكر كالآتي:

* المرحلة الأولى: هناك أناس وضعوا البذرة الأولى لشجرة الغلو، فأثمرت ثمرة مُرة حنظلية، وهي التفجيرات والاغتيالات.

فالبذرة الأولى تتمثل في أمرين:

[ص-31] الأول: التهييج على الحكام، وذِكْر مثالبهم وعيوبهم، وإيغار صدور الناس عليهم، وتصويرهم أمام العوام وأشباههم من طلاب العلم بأنهم جميعاً -دون تفصيل- يكرهون الإسلام، وأنهم منافقون زنادقة، يبطنون الكفر، وإنما يُظهرون بعض المواقف الموافقة للإسلام لِذرِّ الرماد في العيون فقط!! ـ هذا، وإن كان بعض الحكام قد قال بـبعض المذاهب والعقائد والمقالات الكفرية المصادمة للمعلوم من الدين بالضرورة- لكن إطلاق ذلك على جميع الحكام من الملوك والرؤساء والشيوخ والأمراء؛ ظلم وجور، ولا يجوز الجور على رجلٍ من عَرْضِ المسلمين، فكيف إذا كان رأساً من رؤوسهم؟!!

كما أن إطلاق ذلك على من وقع منه الكفر الأكبر، وإشغال الناس بمقاومته ومنابذته- مع ضعفهم- وبدون الرجوع إلى كبار أهل العلم؛ كل ذلك يؤدي إلى الفتنة والفساد العريض، والله المستعان.

المهم: أن هذه الطائفة لهجت بسب الحكام جميعاً، ورميهم بالنفاق، والزندقة، والعمالة لأعداء الإسلام… إلى غير ذلك من عبارات أوغرت الصدور على ولاة الأمور، وزادت الوحشة بين الراعي والرعية، وأسقطت هيبة ولي الأمر أمام رعيته وغيرهم، وهذه البداية السيئة، التي أورثت هذه النهاية المرة.

وهذه الطائفة -وما كان على شاكلتها – يظنون أنك إذا لم تقف هذا الموقف حذو القذة بالقذة من الحكام؛ فيلزم من ذلك أنك راضٍ بعيوبهم، مدافع عن أخطائهم، مُتزلِّف إليهم، خائن لله، ولرسوله، وللمؤمنين!!! أو – على أحسن الأحوال – فأنت جاهل لا تدري ما يدور حولك!! مع أنه هذا ليس بلازم، فإنا نُشهد الله وملائكته ومن اطلع على هذا من الإنس والجن: أننا نبغض هذه المنكرات، ولا نُقرّهُم على منكر- لم يُعذروا فيه شرعاً – علماً بأن الكثير منا لا قيمة له عند الكثير من الحكام، ونعوذ بالله من أن نجادل عن رجل لا يرجو لله وقاراً، أو نجادل عمن يختانون أنفسهم، أو عن خطأ من أخطأ!!

واعلموا أننا نرى ما ترون، ونعاني مما تعانون منه، لكننا نلزم غرز السلف في التقويم بالتي هي أحسن، والصبر على الأذى -ونسأل الله العافية- هذا مع ما في قلوبنا مِنْ بُغْضٍ لهذه الأفاعيل المخالفة للبرهان والدليل، فإن الأمردين، والمسلم – حاكماً كان أو محكوماً- يُحَبُّ ويُبْغَض على حسب ما فيه من خير وشر، كما اتفق عليه أهل السنة، فليس هناك حُبٌّ خالص لشخص إلا للأنبياء، والصديقين، والأولياء الصالحين، وليس هناك بُغْضٌ خالص إلا للكفار والمنافقين، وأما من خلط هذا وذاك؛ كان له من الحب والبغض بقدْر ما عنده من خير وشر.

وقد كان السلف بخلاف ما عليه الكثير من الناس اليوم أمام الملوك والأمراء الذين قالوا بمقالات مصادمة للدين، فقد كانوا يرون أن السكوت وعدم إثارة الفتن؛ أسلم لدينهم ودنياهم، وأبْقي لبقايا الخير – وذلك بعد النصح إن أمكن- وحنانَيْك بعض الشر أهون من بعض، وقد أثبتت التجارب والحوادث صحة هذا الفهم، والله أعلم.

وكذلك ظنت هذه الطائفة المبالِغة في المجالس أنه لا تقوم للدين قائمة قط إلا بإسقاط الحاكم!!! فمن ثَمَّ لهجوا بذلك، وربُّوا أتباعهم على ذلك!! مع أن هذا مخالف للأدلة والواقع، فمن ذلك: أن الله عز وجل يقول: سورة الرعد الآية 11 إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ  ولم يحصر الأمر في الحاكم فقط، فلم يقل: حتى يُغيروا ما [ص-32] بحكّامهم!!!وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:  لتُنْقضَنَّ عُرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة؛ تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وأخرهن الصلاة  .

فدلَّ هذا الحديث على أن كثيراً من شعائر الدين تبقي بعد ذهاب الحكم، لأنه أول العرى نقضاً، والشيء لا يذهب كله بذهاب أوله!! فظهر بذلك أنه ليس الأمر كما يقولون: ذهاب الحكم؛ ذهاب الدين كله، وعلى ذلك فلا يهتم كثير منهم بكثير من واجبات الدين، لاشتغالهم بما يسمونه بـ” الحاكمية”، بل ربما جعل بعضهم الدعوة إلى سائر أبواب التوحيد؛ مما يثير البلبلة الفكرية، والفتن المذهبية، وعدَّ ذلك اشتغالاً بما لا ينفع، أو إضاعة للوقت!! وأن الأمر المهم الذي تُحْشد له الجهود والطاقات: هو الإطاحة بالحاكم الفلاني، أو تولية الحاكم الفلاني!!!

واعلم أنه ليس فيما سبق تسويغ للحكم بغير ما أنزل الله – فمعاذ الله من الكفر والضلالة بعد الهدى – كما أنه ليس فيه تهوين من شأن هذا الأمر العظيم، وهو التحاكم للدين في كل كبيرة وصغيرة، ولكن المراد بذلك الرد على هذا الفهم الفاسد، الذي عطّل كثيراً من الطاقات، وبعثر كثيراً من الجهود، وضيَّع كثيراً من الأعمار وراء ذاك السراب، وشغل الكثير من الشباب عما كانوا يستطيعون القيام به من علم، وتعليم، ودعوة!!! فلا العلم حَصّلوه، ولا الحاكم بدّلوه، ولا الداعية على منهج السلف تركوه، فالله المستعان، وإليه المشتكى!!!

وأيضاً فالواقع يشهد بأن كثيراً من الشعوب- مع أنهم لا يُحْكَمون بما أنزل الله، ومع ما في ذلك من فساد وشر – إلا أن كثيراً منهم يحافظ على مباني الإسلام من صلاة وصوم وزكاة وحج، ويحافظ على توحيده، وإنكاره المنكرات، ومن ذلك إنكاره الحكم بغير ما أنزل الله، وكذلك ترى كثيراً من الناس محافظاً على صلة الأرحام، والصدق، والعفاف، والفضيلة، والمكارم، وفعل الخيرات، ونحو ذلك.

فالحق أن المخالفين في هذا الباب قد هوّلوا، وأعطوا مسألة الحكم والحكام أكبر من حقها في سُلَّم الأولويات في الدعوة إلى الله تعالى، وخالفوا بذلك منهج السلف في هذا الباب، وقابلهم من يهوِّنون من شأن الحكم بغير ما أنزل الله، وكِلا طرفيْ قصد الأمور ذميم!!

علماً بأن تلك الطائفة تنطلق من عاطفة جيَّاشة، وحماس متدفق فقط!!فليس عندهم قواعد علمية، تجعلهم يدافعون عن مذهبهم هذا، وذلك لأنهم لا يهتمون بالعلم- إلا من رحم ربي -.

إنما لهم توجه ثوري حماسي، ولذا فمنابرهم لا تزال ساخنة بذِكْرِ خيانات الحكام، وتَتَبُّعِ خطواتهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة، والله أعلم بصدق كل ما يُقال- وإن كان الظاهر البيّن من كثير من الحكام لا تقرّ به عين، ولا ينشرح له صدر!!- لكن ليس معنا إلا الصبر واللجوء إلى الله عز وجل، هكذا أمرتنا السنة، وعلى هذا نصَّ سلفنا في مصنفات معتقدهم، وهم القوم الذين لا يشقى من لزم غرزهم في الحق – إن شاء الله تعالى-.

[ص-33] وإذا جالست أحداً من كبار هذه الطائفة أو صغارهم؛ فما عند كل منهما إلا هذه العبارات: الحاكم الفلاني منافق، أو كافر، أو زنديق، أو فاجر، أو عدو الله، أو كلهم كفار، أو عملاء اليهود والنصارى… الخ، وليس وراء هذه الأحكام كثير علم ولا تأصيل، بل هناك عاطفة وحماس، فإذا ناقشتهم، وذكرت لهم خطأهم، وبُعْدَهم في ذلك عن منهج السلف في هذه الإطلاقات، أو في هذا التشهير والتهييج؛ لم يقتنعوا بما تقول – إلا من رحم الله- مع عجزهم عن الرد عليك، وإثبات صحة ما هم عليه، إلا من خلال الجرايد والصحف والمجلات والكتب الثقافية، التي كتبها من كان على شاكلتهم!!

الأمر الثاني الذي بذرته الطائفة السابقة: وهو ذم كبار أهل العلم المخالفين لهم، وتنقصهم، وبيان أنهم علماء سلطة فقط، أو على الأقل: أنهم سطحيون، جهلة بالواقع، وأنهم لُعْبَة في أيدي الحكام من حيث لا يشعرون!!!

إن هذه الطائفة التي لهجت بهذين الأمرين؛ هي التي وضعت أول لبنة – شعرتْ أو لم تشعرْ- في بناء هذا المنهج المخالف لمنهج السلف، والذي انتهى به الأمر إلى التفجيرات والاغتيالات، فهذه الطائفة اعتقدت، ولم تُحْسِن الاستدلال على اعتقادها هذا!!