بقلم الشيخ

في أطوار ومراحل الفكر الذي أفضى إلى التفجيرات والاغتيالات المرحلة الثانية

في أطوار ومراحل الفكر الذي أفضى إلى التفجيرات والاغتيالات المرحلة الثانية

المرحلة الثانية: ثم جاءت طائفة أخرى: وضعت لذاك التهييج والحماس الثوري قواعد وأصولاً، عندما رأوا إنكار العلماء وطلاب العلم على الطائفة الأولى، ورأوا عَجْز تِلْكُم الطائفة عن الرد على مخالفيهم؛ فاعتقد بعض هؤلاء التكفير لجميع الحكام- متأثرين في ذلك بالطائفة الأولى، وبغير ذلك- ثم راحوا يبحثون عما يقوي صحة اعتقادهم، فاعتقدوا ثم استدلوا، وهذا معيب عند أهل العلم.

المهم أن هذه الطائفة استدلت على تكفير جميع الحكام بقواعد مستمدة- في نظرهم- من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة، كأحمد بن حنبل وابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، وغيرهم.

ومن تأمل تِلْكُمُ القواعد: علم أنه لا يسْلَم من التكفير بسببها حاكم على وجه الأرض، بل كثير من المحكومين لا يسْلَمون من التكفير بهذه القواعد أيضاً!!

فمن ذلك قولهم:” من نظَّم المعصية؛ فهو مستحل لها، ويكون كافراً بالاستحلال”!!

ويمثِّلُون لذلك بمن يسمح في بلده بوجود بنك يُتَعامل فيه بالربا، قالوا: فهذه معصية، وهي أكل الربا، والربا في نفسه معصية فقط، لكن البنك له لوائح وإرشادات وتعليمات، وهيكل وظيفي، وأساليب في الإيداع والسحب والتعامل… الخ، فكل هذا يدل على أنهم مستحلون للربا، وإن قالوا بألسنتهم: الربا حرام؛ فهم كفار مع ذلك للاستحلال!!

فمن ذا الذي سيسلم من الكفر إذاً بسبب هذه القاعدة الجائرة؟!لأنه يلزمهم على ذلك أن يكفروا أكثر أمراء بني أمية والعباس وغيرهم، فإن جورهم – ومن ذلك أخذ المال، وقتل النفوس- كان بتخطيط وتنظيم ومجاهرة- ليبقى لهم ملكهم- بل قتلوا المئات أو الألوف في سبيل ذلك، ومع ذلك لم يكفِّرْهم السلف، ولم يخلعوا يداً من طاعة، فأين البنك الربوي من حال هؤلاء – الأمراء، ومنهم الحجاج، وما أدراك ما الحجاج-؟!! فهل كانت معصية الحجاج [ص-34] ارتجالية عشوائية غير مدبَّرة بليل أو نهار؟ هل كان الحجاج وأمراء الجور يقيمون ملكهم وأمرهم على أمور جاءت اتفاقاً لا قصداً وتنظيماً وإعداداً وتحدياً للمخالف؟!

وكذلك يلزمهم أن يُكَفِّروا قُطَّاع الطريق إذا نظموا أنفسهم في عصابة، لنهْب الأموال، وقطْع السُّبُل، وجعلوا لكل مجموعة منهم مهمة معينة، ووضعوا نظاماً في قسمة ما حصلوه نهباً من أموال المسلمين!! وكذا يلزمهم تكفير المتبرجة التي تحرص على أن تكون بهيئة معينة – مع مخالفتها للشرع، ومع إقرارها بحرمة ما خالف الشرع – ومع ذلك فإنها تبذل وقتاً ومالاً وجهداً حتى تظهر بهذه الصورة القبيحة!!، وكذا المشتغلون بالغناء ونحوه، وأصحاب المحلات التي يبيعون فيها بعض ما نهى عنه الشرع، ولهم طرق في استيراد وتحصيل ورقابة هذه الأمور، وكذا ما يجري في الجيوش والمدارس والجامعات من بعض الأنظمة المخالفة للشرع!! وقِسْ على هذا عدداً من الذنوب التي لا يكفِّر أهلُ السنة أصحابها، إلا أن هذه القاعدة المحْدَثة تُكَفِّرهم!!

وقد قال شيخ الإسلام في” بيان الدليل” ( ص 104 ) عند كلامه على حديث:  أول دينكم النبوة، ثم ملك عضوض، يُسْتحل فيه الحر والحرير…  قال:” لم يُرِدْ بالاستحلال مجرد الفعل؛ فإن هذا لم يزل موجوداً في الناس، ثم لفظ الاستحلال: إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالاً” اهـ، ولشيخ الإسلام كلام واضح في أن الاستحلال المكَفِّر لا يثبت بفعل المعصية، مع قول الشخص: أنا أعتقد أن هذا حرام، وعدَّ التكفير بذلك تكفيراً بغير موجب، وتكفيراً بأمر محتمل  .

فلا يزال العصاة يُنَظِّمون أمرهم في المعصية، ويسيرون في سبيل تحقيق رغباتهم على مراحل معينة، ومع ذلك لم يكفِّرهم السلف بذلك، ولم يعدُّوهم مستحلين لذلك، بخلاف هذه القاعدة المبتكرة، والله أعلم.

.. ومن ذلك قولهم:” من جاهر بمعصية؛ فهو مستحل لها، يكفر، كالذي عَرَّس بامرأة أبيه، كما في حديث البراء!! وقد رددت على ذلك الاستدلال في كتابي:” كشف الغطاء بتحقيق أحاديث وآثار الداء والدواء” يسّر الله النفع به في الدارين، وذكرت أن من أهل العلم من صرح بأن الرجل خُمِّس ماله؛ لأنه كان مستحلاً، لا بمجرد المعصية، وعلى كل حال: فهل سيسلم من هذه القاعدة حاكم، بل وهل سيسلم منها أكثر المحكومين؟!!

فإن المجاهرة بالمعاصي في هذا الزمان؛ أمر لا يخفى على العميان، فهل سنكَفِّر هؤلاء جميعاً، حكاماً ومحكومين؟!!

فإذا قالوا: نكفِّر الحاكم دون المحكوم؛ تناقضوا، فإن القواعد تشمل كل من انطبقت عليه، والتفرقة – بلا دليل – تَحَكُّمٌ، والله أعلم.

ومَنْ سَلِمَ مِنَ التكفير بهذه القاعدة؛ فلن يَسْلَم من التكفير بقاعدة أو قواعد أخرى!! إذاً، فما الفرق بين هذه القواعد، وبين تكفير الخوارج لأصحاب الكبائر؟!!

[ص-35] إن حقيقة هذا المذهب تؤول إلى مذهب الخوارج، إلا أنهم وضعوا فروقاً -نظرية – فظن الناس أنهم ليسوا على طريقة الخوارج يسيرون – وإن جهل كثير من القائلين بهذه الحقيقة- ومن عرف الحقيقة؛ فإنه لا يغتر بهذه القيود النظرية!!

فأحذرك – أخي الكريم – أن تغتر بقول هذا حاله ومآله، وأنصحك أن تكون حذراً يقظاً في قضايا التكفير والتبديع والتفسيق والتضليل، فقد ضل بسبب ذلك طوائف في الزمان الأول، زمن انتشار العلم وفيوض العدالة، فما ظنك بهذا الزمان؟!!

.. وأيضاً فمن ذلك قولهم:” من اعترف بمجلس الأمن، والأمم المتحدة، والأنظمة العالمية؛ كفر”!!

هكذا دون إدراكهم لمعنى الاعتراف، ودون مراعاتهم قوة المسلمين ووهنهم، وقوة شوكة غير المسلمين أو ضعفها، ودون النظر في المصالح والمفاسد، وهذا كله لا تسلم من التكفير به دولة من الدول!! لأن الدول المسلمة – صالحها وطالحها – مشاركة في هذه الأنظمة، ومنهم من له اعتبارات شرعية في كثير من ذلك، ومنهم من لا يلتفت إلى موافقة الشرع أو مخالفته، ومثل هذا وذاك لا يخفى على كثير من العقلاء!!

.. ومن ذلك قولهم:” مَن أَمَرَ غيره بمعصية، وعاقبه على ترْكها؛ فهو مستحل لها كافر”!! ومع ذلك فلهم نَظْرَتُهُم- الخاصة بهم- في الحكم على الشيء بكونه معصية، دون مراعاة للحامل على هذه المعصية: هل هو العجز أو الخوف، أو مراعاة مصالح عامة، أو درء مفاسد أكبر من فعل المعصية – وإن وقع خطأ في تقدير ذلك – وكذا هل الحامل على المعصية الشبهة، أم الشهوة والجرأة على حدود الله، أم لا؟ أو الجهل أو العناد، ونحو ذلك؟ على أنه لا يلزم من ذلك أن جميع الحكام ينطلق في تصرفاته من هذه النظرة الشرعية، بل بعضهم يفعل ذلك عن هوى وشهوة، ودون مراعاة للقيود الشرعية!!! ومع ذلك لا يلزم من ذلك التكفير لمعيَّن إلا بشروط معروفة عند أهل العلم، وإن سلمنا بكفر المعيَّن؛ فلا يلزم من ذلك منابذته بالسيف، وإثارة الخاصة والعامة عليه، فإن في ذلك من الشر – الذي شهدت بها التجارب- ما الله به عليم.

وعلى كل حال: فلا يسلم – بناء على ما سبق من قواعد محدثة – حاكم، بل لا يكاد يسلم من ذلك كثير من أفراد الشعوب، ومديري المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية وغيرها!!

وهل كفَّر السلف أكثر أمراء الأمويين والعباسيين، وقد كانوا يقتلون من خالف أَمْرَهم – ولو كان أَمْرَهم في معصية-؟!! وأي عقوبة أشد من القتل؟!!

.. ومن ذلك قولهم:” من حيَّا العلَم؛ كفر، وإذا حيَّا الجنديُّ قائده؛ كفر، وكأنه سجد لغير الله، أو هذه السجدة الصغرى”…. إلى غير ذلك من قواعد وفتاوى أَصَّلَت تكفير الحكام ومعاونيهم في جميع المجالات عند كثير من الشباب، بل تكفير كثير من المسلمين ـ من حيث يشعر أهل هذه القواعد أولا يشعرون ـ!!!

[ص-36] ولهم على ذلك أدلة يستدلون بها، وكثير منها وضعوه في غير موضعه، وكثير منها حمَّلوه مالا يحتمل، ولهم بعض مقالات أصابوا فيها الحق من الناحية العلمية- ويجب الاعتراف لهم بذلك- لكنهم رتَّبوا عليها أموراً مفسِدة، وأطلقوا لظنونهم العنان، وأغرقوا في الأخذ بلوازم الأمور، مع أن لازم القول ليس بقول في كثير من الحالات!!

وقد حدثني بعض الدعاة إلى الله تعالى: أن مِنْ هؤلاء الشباب مَنْ يُكَفِّر الإمام من أئمة الحرم، لأنه يقول في دعائه:” اللهم اصلح ولاة أمور المسلمين” مستدلاً هذا المُكَفِّر على ذلك بقوله:” إن هذا يدل على أنه يُقرُّ بأنهم ولاة أمور المسلمين، وهذا يدل على عدم كفره بالطواغيت، ومن لم يكفر بالطاغوت؛ فلم يؤمن بالله عز وجل!! بل يتعدى به الحال إلى أن يكفِّر كلَّ من أمَّن وراءه على هذا الدعاء من المصلين للشبهة السابقة، ولقاعدة من لم يكفِّر الكافر؛ فهو كافر!!

ولا شك أن تكفيرهم من لم يكفِّر من كفَّروه – وإن سلمنا بخطأ مخالفيهم في عدم التكفير-؛ تكفير بمجرد الخلاف في المسائل الاجتهادية، وهذا أشد من التكفير بالكبيرة، كما لا يخفى على من له معرفة بالعلم والعلماء!!!

وأما قاعدة:” من لم يكفِّر الكافر…” فهي مقيدة بمن لم يكفِّر الكافر الذي كفَّره بعينه القرآن أو السنة، كفرعون، وأبي لهب، ونحوهما، أما من اختلف العلماء في تكفيره، كتارك الصلاة – مثلاً  -؛ فلا يُكفَّر من لم يكفِّره، ومن كفَّره لذلك؛ فهو مخالف للأدلة وطريق الأئمة، وقائل بما هو أشد من قول الخوارج في التكفير بالكبيرة!!

المهم أن هذا الحال يدل على أمر خطير، فاحذر منه يا طالب النجاة والهداية، ولا تغتر بكون الدعاة إلى هذا الفكر ما أرادوا إلا خيراً؛ فإن هذا وحده لا يكفي، والقصد الحسن -وحده- لم يبرئ ساحة الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ومن والاه، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كما في” مجموع الفتاوى” ( 13 30 – 31 ) :” وكانت البدع الأولى مثل” بدعة الخوارج” إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، ولم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم بدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب؛ إذْ كان المؤمن هو البر التقي، قالوا: فمن لم يكن براً تقياً؛ فهو كافر، وهو مخلد في النار، ثم قالوا: وعثمان وعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين، لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله، فكانت بدعتهم لها مقدمتان:

الواحدة: أن من خالف القرآن بعمل أو برأي -أخطأ فيه- فهو كافر.!!

والثانية: أن عثمان وعلياً ومن والاهما كانوا كذلك؛ ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا، فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام، فكفَّر أهلها المسلمين، واستحلوا دماءهم وأموالهم…. وهم مع هذا الذم إنما قصدوا اتباع القرآن، فكيف بمن تكون بدعته معارضة للقرآن والإعراض عنه، وهو مع ذلك يكفر المسلمين….” اهـ.

وعلى كل حال: فعندما أَدْلَتْ هذه الطائفة بدلْوها، وقعَّدت قواعد كثيرة لذلك، وأفرزت عدداً لا يكاد يُحصر من الكتب والمجلات والنشرات والمطويات والرسائل والمقالات والأبحاث، سواء منها المطبوعة أو المسموعة، أو التي في” [ص-37] الإنترنيت” أو في الفضائيات أو غير ذلك، فعندما أفرزوا هذه الكتب والأشرطة وغيرها، ووُزِّعت مجاناً- في بعض الأحيان-؛ عَمَّق هذا الصنيع تكفير جميع الحكام في نفوس الشباب والعوام، وكلما كان أحد الحكام مظهراً لأمرٍ مُكَفِّر؛ قَلَّ كلامهم فيه، بحجة ظهور أمره عند الناس!! وكلما كان أحدهم أكثر خيراً؛ زاد الكلام فيه، بحجة أن أمر تكفيره مُلْتَبَسٌ على الناس، وأنهم يحسنون به الظن، ولا يعرفون حقيقته؛ فلا بد من تقرير كُفْره بجلاء، نصحاً للأمة!!! واشتعلت المجالس بذلك، وذُمَّ كبار العلماء الذين لا يرون رأيهم، ورُمُوا بما رمتهم به الطائفة الأولى وزيادة!!

ولاشك أن هذه القواعد إذا خيَّمت على أذهان الشباب، وسيطرت على أفهامهم، مع ما انضم إلى ذلك من إسقاط هيبة كبار أهل العلم المخالفين لهم، والتعبئة الخاطئة في أمر الجهاد والشهادة؛ فإن هذه الأمور ستفضي إلى شرٍ عظيم، ومفاسد لا خطام لها ولا زمام!!