المرحلة الثالثة: فلما اقتنع كثير من الشباب المحبين للدين- مع قلة البصيرة- بتلكم القواعد والأصول؛ ضحَّوْا بأنفسهم خدمة للدين ـ في ظنهم ـ فلبسوا الأحزمة الناسفة، وقادوا السيارات التي تحمل أطنان المتفجرات، ولسان حال أحدهم يقول – وهو قادم على قتل نفسه وغيره من المسلمين وغيرهم-: الله أكبر، الله أكبر، فُزْتُ وربِّ الكعبة، فُزْتُ وربِّ الكعبة، غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه!!!!
فيا سبحان الله، كم تعمل التأويلات الفاسدة في أهلها وغيرهم!!!
هذا، وقد يكون غير هؤلاء الشباب هو الذي يقوم في بعض البلدان ببعض هذه التفجيرات – تحريشاً للحكام عليهم، وزجّاً بالشباب في أُتونٍ مستعر مع حكامهم، وقلقلة لأمن البلاد- ثم تُنسب هذه الرزايا إلى الشباب!! لكن الشباب هم الذين وضعوا أنفسهم موضع الشبهة، فقد اشتهر عنهم أنهم قاموا ببعض هذه الأمور، وقرّرها بعضهم في كتبه ومقالاته، ودافع عنها، واتهم مخالفه في ذلك – وإن كان من العلم والفضل بمكان- ومدحها آخرون، وفرحوا بها، بل ويُنقل عنهم أنهم يعلنون مسئوليتهم عن تلكم الأوابد والفواقر، وينشرون على الملأ خطوات تنفيذ هذه العمليات، فإنا لله وإنا إليه راجعون!!
فإذا أنكرنا على الطائفة الثالثة فقط، دون علاج الأمر من الأساس؛ فذلك كالحرث في الماء، وكخبط عشواء في أرض بيداء!!!
فإن حال الطوائف الثلاث يُمثِّل طائر الغلو، الذي له جناحان وجسد، فالطائفة الأولى بطن هذا الطائر وأصله، والطائفة الثانية: الجناح العلمي له، ورأسه المفكرة المنظِّرة، وعيناه الناظرتان، والطائفة الثالثة: الجناح العسكري له، ومنقاره، ومخالبه!!!
إذن فعندنا ثلاث مراحل:
أ- مرحلة العاطفة في التهيج على الحكام، والغمز في العلماء المخالفين لهذا الرأي، والطعن فيهم، وإن كان ذلك قد صدر عن عاطفة ارتجالية، وصرخات عشوائية!!
ب- [ص-38] مرحلة التقعيد والتأصيل لهذا الفكر، حتى انتقل من حَيِّز العاطفة التي يسهل تغييرها، إلي حَيِّز العقيدة التي تتسم بالرسوخ والثبات، وقد أُخِذَتْ الاحتياطات اللازمة من بعض دعاتهم لإبقاء هذه العقيدة راسخة؛ عندما صُدَّ الشباب عن الرجوع للعلماء الكبار، بحجة أنهم ليسوا موثوقاً بهم!!!
ج- مرحلة التنفيذ، المتمثلة في الاغتيالات للحكام وأعوانهم، بل لبعض العلماء المخالفين لهذا الفكر، وكذا التفجيرات التي طارت فيها أشلاء الشيوخ والنساء والصبيان، وانهدمت بها البيوت على سكانها، وسواء كان ذلك في شهر حرام، أم لا!! أو كان ذلك في شهر رمضان، الذي تُصَفَّدُ فيه مردة الجن، أم لا!! أو كان ذلك في ليالي العشر، والمسلمون عاكفون في المساجد، أم لا!! أو كان ذلك في الحرمين الشريفين أو غيرهما، أم لا!! وما سلمت بعض المساجد في اليمن- وغيره- من هذه التفجيرات، كما جرى في صنعاء وعدن، والله المستعان.
والحق يقال: إن هذه المراحل لا يلزم أن تجتمع في جميع أفراد هذه الطوائف المشار إليها سابقاً، بل قد يكون هناك أشخاص تنقَّلوا بين هذه الطوائف مع هذه المراحل، وأشخاص بذروا البذور فقط، وآخرون قاموا بسقيها ورعايتها فقط، مع ظنهم أن الأمر لا يصل إلى ما وصل إليه، وآخرون قطفوا ثمارها، وأدخلوها الأسواق، فَصِيْحَ بهم – فقط – من كل جانب!!
وقد تُحذِّر الطائفتان الأوليان الطائفةَ الأخيرةَ من الإقدام على هذا الفساد- لاعتبارات عندهم، سواء كانت صحيحة أم فاسدة- وقد تحصل استجابة من البعض، إلا أن الكثير منهم مضَوْا في هذا الطريق، وهكذا فالفكر يتطور، ولا حَدَّ له، ومن بذر بذرة؛ فلا يستطيع أن يتحكم في نوع شجرتها ونباتها، ولا في لون أو طعم أو رائحة ثمرتها، لأن كل ثمرة تنبت من شجرتها ولابد – إلا أن يشاء الله شيئاً- وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ومما ينبغي أن يُنَبَّه عليه هنا: أن دعاة وأفراد هذه الطوائف ليسوا سواء، فمنهم من أتى بالقواعد السابقة، ومنهم من سكت ولم يُعقِّب، ومنهم من لا يرضى بذلك، لكن لم يظهر إنكاره، ومنهم غير المستبصر بهذا الفكر، المحبّ للخير دون معرفة بالطريق إليه، وغُرِّرَ به بسبب التعبئة الخاطئة، وهؤلاء يُخشى عليهم في المستقبل – إن لم يلطف الله عز وجل بهم-، ولا شك أن لكلٍ من هؤلاء حُكْماً سورة الطلاق الآية 3 قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا .
والكلام هنا عن فِكْر ابتُليتْ به الدعوة والأمة، لا مجرد إثبات أن فلاناً يقول بهذا القول أم لا؟! فإن لهذا مقاماً آخر.
كما أن المراد التحذير من هذا الفكر، والتنفير عن اتِّبَاع دعاته والاغترار بهم، لا مجرد إصدار الأحكام على المخالف، دون مناقشته بالحجة والبرهان، والتجارب التاريخية والمعاصرة، فإن السعي في إصلاح هذا الفكر؛ من الواجبات الشرعية، والطبيب يقرر نوع الداء بدقة وأمانة ووضوح لا خفاء فيه، ثم يتلطف ما أمكن في علاجه، ويأتي البيت من بابه، فإن نفع الله بذلك؛ وإلا فما على المحسنين من سبيل، ويُعامَل كل امرئ بما يستحقه شرعاً، والله أعلم.