بسم الله الرحمن الرحيم
(تعزيز فتوى علماء الدعوة السلفية في اليمن حول تنظيم القاعدة)
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فقد أخبرني أحد المشرفين على موقع منتديات دار الحديث بمأرب بأن أحد الإخوة المناصرين لمنهج تنظيم القاعدة – وقد كنّى نفسه بأبي لجين، وحتى الآن لا أعرف له اسمًا ولا عينًا ولا أثرًا- قد ردَّ على الفتوى التي أصدرها عدد من كبار علماء الدعوة السلفية في اليمن، حول موقفهم من تنظيم القاعدة، كما أخبرني بأن هذا الرد يمثل الحلقة الأولى، واستشارني المشرف في إبقائه أو حذفه، فأشرت عليه بإبقائه، حتى نفتح بابًا للحوار العلمي الهادف، وليعلم الآخرون أن صدورنا تتسع لسماع الرأي المخالف، مهما كانت مخالفته للحق، وأننا لا نقيم دعوتنا على المصادرة الفورية للرأي المخالف لنا، بل نأمل من وراء هذا كله فتح باب للحوار – مادمنا نرى أن الحوار أنفع- ومناقشة المخالف مناقشة علمية هادئة هادفة، فإن كان المخالف ممن يريد الحق؛ فنكون قد بذلنا وسعنا في تحقيق مرامه، ونكون عونًا على الخير، وإلا فنكون قد أعذرنا إلى ربنا، وبرئت ذمتنا بالبيان، وأقمنا عليه الحجة الشرعية، وإن ظهر لنا في غضون ذلك شيء من الحق عند المخالف قبلناه، وحمدنا الله أن يسّر لنا هذا، ولولا فتح باب الحوار لما أفدنا ولا استفدنا، كما أن في الحوار تحصينًا للشباب المحب لمنهج العلماء، وليس كل أحد يحسُن دخوله في هذا الخضم، لكن لما انفلت الزمام بسبب الوسائل الحديثة، ومنها “الانترنت” وأصبح كل ديك يصيح من جهته، وإن كان قبل دخول الوقت؛ كان لزامًا على بعض أهل العلم أن ينصِّبوا أنفسهم لرد هذه الشبهات، وإذاعة هذه الردود، مع لزوم العدل والتقى، نصحًا لأهلها، وتثبيتًا لأهل الحق، والله المستعان.
ثم طلب المشرفُ مني الجواب على هذا الرد، فآثرت تأخير اتخاذ أي موقف تجاه رد الأخ أبي لجين حتى أقف على بقية الرد، وبالأمس القريب أُخبرتُ بظهور بقية الرد، فطلبتُهُ ونظرتُ فيه، فتمنيتُ أن يكون الذي تولى الرد على الفتوى أحد كبار طلاب العلم في هذا التنظيم، حتى يستفيد القراء من رده وجوابي عليه، وحتى يتجه الرد وجوابه وما يتولد عنهما من ردود وأجوبة صَوْب الأدلة النقلية، والعقلية، والتاريخية، لا مجرد التساؤل: ماذا تقولون – أو ماذا يقول أبو الحسن- في الجماعة الفلانية، أو أصحاب الجمعية الفلانية؟ أو الحاكم الفلاني، أو المجاهد الفلاني؟ وهي أسئلة تحريشية، واستفزازية أيضًا، وإن كان الأخ السائل قد لا يقصد ذلك، أو يقصده فأمره إلى الله عز وجل، وعفا الله عنا وعنه.
ولأن هذه الأسئلة والأجوبة عليها – مع حَمْل السائل على أحسن المحامل- لا تربي جيلاً، ولا تقوِّم اعوجاجًا، ولا تصحح مسارًا، فسواء أجاب أبو الحسن أم لا؟ وسواء أصاب في الجواب أم لا؟ فإن الله لا يسأل أحدًا في قبره عن حكمه على الرئيس الفلاني، أو الشخص الفلاني، أو الجماعة الفلانية!! فيا ليت أبا لجين – حفظه الله- سلك غير هذا المسلك، فإن حُسْن السؤال نصف العلم، كما يقال.
ولولا خشيتي أن يغتر أحد من القراء بهذه الأسئلة البعيدة عن المنهجية العلمية، تلك المنهجية التي تقوم على إيراد الأدلة، وبيان وجه الشاهد منها، وذِكْر آثار السلف وأقوال العلماء على صحة فهم من أورد تلك الأدلة، ومناقشة الخصم بقواعد الأئمة وطرائقهم لبيان مدى قُرْبه أو بُعْده عن منهج السلف الصالح، وهذا كله – للأسف- قد خلا الرد منه، فلولا الخشية من وجود من يغتر بما ورد من هذه الأسئلة الخارجة عن هذا المنهج العلمي؛ لأعرضت بالكلية عن هذا الجواب، واقتصرت في الجواب على مواضع قليلة منه، ذكر فيها الأخ أبو لجين بعض الآيات القرآنية مستدلاً بها على صحة دعواه!!
ولذا فالجواب مُكَوّن من عدة أمور:
1- لقد تساءل الأخ أبو لجين – متعجِّبًا ولا حاجة لتعجبه- عن كيفية صياغة السؤال والجواب، وكيف تم التوقيع من الموقعين عليه؟
ولا عجب في هذا، فإن من يمارس هذا الأمر يعلم أنه يتم بإحدى عدة طرق: إما أن يصيغ أحد الموقعين الفتوى، ثم تُعرض على الآخرين، فيُبْدوا ملاحظاتهم، فيُنظر في هذه الملاحظات، وتتم صياغة نهائية للفتوى، فيوقع الحاضرون عليها، أو يتم ذلك عبر هاتف، أو بريد الكتروني، أو فاكس، أو رسول يحملها إليهم، والمهم الاتفاق في النهاية، لا معرفة الكيفية التي تم بها ذلك على وجه الخصوص، لأن هذا لا قيمة له، فلا عيب أن يصيغها بعضهم، ويرتضيها الآخرون، أم أن أبا لجين يريد أن كلا من الموقعين يكتب من الفتوى عدة أسطر، حتى يصح عنده القول بأنهم مشتركون في صياغتها؟!
نعم، إن كان أخونا أبو لجين يشك في توقيع أحد الموقعين؛ فليسأله، ولْيُصَدِّق المسؤولُ ذلك أو يُكَذِّبه، أما هذه الدندنة التي شغل الأخ نفسه بها فلا حاجة لها.
وكون الفتوى قد صُدِّرت بموقف علماء الدعوة السلفية في اليمن من تنظيم القاعدة، مع عدم ذكر بعضهم كالإخوة في جمعية الإحسان أو غيرها؛ فلا يضر ذلك أيضًا، لأنه من المعلوم – واقعًا- أن كثيرًا من البيانات التي تصدر أو الفتاوى التي تُنْشَر وتُوسَم بفتوى علماء اليمن، أنها لم تستوعب جميعهم فردًا فردًا، ولا يعني ذلك أن من لم تُعرض عليه أنه ليس عالمًا من علماء اليمن، يكون بعض الموقعين عليها دون بعض من لم يوقع عليها بمفاوز، والأخ أبو لجين يشيد – إلى حد ما- ببيان علماء اليمن، مع أن هناك من لم يوقع عليه، بل لم يعلم به أصلاً حتى صَدَرَ، وهم مثل أو أكثر ممن وقع عليه، وطالما أن هناك من وقع على البيان أو الفتوى فإن هذا يجعل عنوان الفتوى من العام الذي أُريدَ به الخصوص، وأن المراد بالعموم الذي في العنوان هم الموقعون في ذيل الفتوى ومن جرى مجراهم فقط.
فالعبرة بجمهور الدعاة الذين يمثلون الدعوة السلفية، ولا يشترط توقيع كل واحد منهم، ومن كان منهم على خلاف ذلك؛ فليبين موقفه، كما بين الأخ أبو لجين موقفه وموقف التنظيم الذي ينافح عنه، مع أنه لا يلزم بيان موقف كل واحد من ذلك إلا في حالات معلومة، والله أعلم.
2- لقد أكثر الأخ أبو لجين من دائرة توجيه السؤال لي عن حكمي على بعض قادة التنظيم، كأسامة ابن لادن أو غيره، بل جزم بأنني أخرجهم بأعيانهم من أهل السنة، وهذا لجهله بما أنا عليه، أو لتقليده من ليس أهلاً، وكان الأولى به والأستر عليه أن يسألني فقط عن موقفي ممن أراد السؤال عنه، دون جزم منه بموقفي دون علم به، وإلا فإنني أسير على قاعدة عامة في الحكم على الآخرين مع هذا التنظيم وغيره من الجماعات، والطوائف، والملل، والنِّحَل، وملخَّص هذه القاعدة: أنني أُفرِّق في حكمي على من ينتمي إلى الإسلام بين الحكم على القول والحكم على القائل، وبين الحكم على الفعل والحكم على الفاعل، وبين الحكم على العموم – وهو التأصيل الشرعي للمسألة- والحكم على الأفراد والأعيان – وهو التنزيل للحكم الشرعي عليهم- وهذه القاعدة تشمل الحكم على الآخر: تكفيرًا، أو تفسيقًا، أو تبديعًا، وهي القاعدة المشهورة: باستيفاء الشروط وانتفاء الموانع، فلا أحكم على مسلم ينتمي إلى الإسلام، ويتبرأ مما سواه، بأنه كافر لمجرد وقوعه في الكفر – قولاً أو فعلاً أو اعتقادًا- إلا بعد استيفائه شروط التكفير، وانتفاء موانع التكفير عنه، من جهل، أو تأويل، أو خطأ، أو إكراه، ونحو ذلك، وقد لا يكون المرء جاهلاً، أو قد يقع في مكفِّر معين لا يُتصور فيه العذر بالجهل، لكن قد يكون مكرهًا، أو متأولاً، أو قد يصدر منه الكفر عن غضب شديد أو إغلاق…الخ، فهذا يكون معذورًا، كما لا أحكم على مسلم سني ينتمي إلى السنة وأصولها، ويتبرأ مما خالفها من البدع إذا وقع في أمر يوجب إخراجه من أهل السنة، وإلحاقه بأهل البدع – ولا يكون ذلك إلا بموافقة أهل البدع في أصل من أصولهم التي فارقوا بها أهل السنة، لا مجرد المسائل الخلافية أو الاجتهادية- فإنني لا أحكم عليه بعينه بأنه خارج من دائرة أهل السنة إلا بعد استيفائه شروط هذا الحكم وانتفاء موانعه عنه كما سبق، علمًا بأن هذا المقام ليس كلأً مباحًا لكل أحد، إنما يُرجع فيه إلى أهله من كبار أهل العلم والقضاة، أما أن يُترك مقام التكفير والحكم على الآخرين لمن دبَّ ودرج، أو لمن يميلون إلى جانب الشدة والعنت، فلا يخيَّرون بين قولين: أحدهما بالتكفير، والآخر بما دونه إلا اختار الأول، إلى غير ذلك من أوصاف غير المؤهلين؛ ففي هذا فساد عريض، وبلاء مبين!!
أما تنظيم القاعدة: فقد أعلنتُ ردِّي على فكره الذي انحرف به عن منهج أهل السنة والجماعة من وقت بعيد، وناظرت عددًا من حملة هذا الفكر، سواء انتموا إلى التنظيم حركيًّا أم لا، وألفتُ في ذلك عدة مؤلفات، وبعضها في طريقه إلى الظهور – إن شاء الله تعالى- وأعتقد أن فِكرهم قد وافق فِكر الخوارج في عدة أمور – وإن كنتُ لا أحكم على أفرادهم بذلك لما سبق تفصيله، ولوقوعهم في التأويل الخاطئ، مع حرص الكثير منهم على الخير، والتأويل عذر ومانع- ولذا فالحكم إنما هو على الأفعال والأقوال والمناهج التي ينشرونها في الناس، ولابد من بيان ذلك وتوضيحه بعدل وحَزْم، وإلا فهم من جملة أهل السنة – من حيث الانتماء والانتساب- سواء كانوا من أصول سلفية أو إخوانية، أو غير ذلك، إلا إذا ثبت أنهم أو بعضهم قد أقيمت عليهم الحجة، إقامة تزيل شبهتهم، وتقطع عذرهم وتأويلهم وما يتعلقون به من أدلة وأقوال، ثم أصروا على قولهم عن هوى وإعراض، فيلحقون بالمبتدعة آنذاك، وهذا ما لم أعلم وقوعه حتى كتابة هذه الأحرف، ونسأل الله للجميع الهداية والرشاد.
وإذا كنا قد حكمنا على أفراد وجماعات ينتمون إلى السنة، بأنهم من أهل السنة انتماءً وانتسابًا، مع أنهم أبعد ولاءً للسنة من كثير من شباب القاعدة، وأقل تمسكًا بالدين، وذلك لعدم قيام الحجة الكافية عليهم – مع التحذير مما أحدثوه في الدين- فمن باب أولى هؤلاء، وإذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية كما في “الرد على البكري” (2/494) لم يكفِّر قضاة وأعيان الجهمية، مع أن مقالتهم قد اتفق العلماء على أنها كفر، وذلك لجهلهم وتأويلهم، مع كونه قال ذلك بعد مناظرتهم، ولما رأى بقاء جهلهم، وتعلقهم ببعض الشبهات لم يكفِّرهم لذلك، وهم ليسوا من العوام، بل هم قضاة وأعيان وقال لهم: “أنا لو وافقتكم كنتُ كافرًا، لأني أعلم أن قولكم كُفْر، و أنتم عندي لا تَكْفُرون لأنكم جهال” قال هذا بعد مناظرتهم، فكيف بمن وقعوا في مقالات وأفعال مبتدعة، وليست كفرًا، مع انتمائهم إلى السنة، وتمسكهم بكثير من مسائل الدين الأخرى؟! ولا يلزم من هذا براءة من اعتدى منهم على الآخرين في دمائهم وأموالهم، فهذا أمر آخر.
ومن هذه المسائل التي خالف فيها تنظيم القاعدة منهج السنة وعلمائها:
أ- توسعهم في تكفير حكام المسلمين بالعمومات من الأدلة دون الرجوع إلى تفصيل السلف الصالح، ودون جمع أدلة هذا الباب، ونشْرهم هذه الأفكار الخطيرة بين شبابهم الذين تغلب عليهم العامية، فيكفرون بالشبهة والظن والاحتمال، ولا يبالون من تكفير الجموع الغفيرة، ويجعلون ذلك من المعلوم في الدين بالضرورة، وينظرون إلى من خالفهم في ذلك كله أو بعضه نظرة الازدراء وسوء الظن به.
ب- حكمهم على المجتمعات المسلمة – وهي الديار لا الأفراد كما فهم الأخ أبو لجين- بأنها ديار كُفر.
ج- إهدارهم للدماء المعصومة بحجة أنهم كفار، أو أعوان للكفار، أو مسلمون يُبعثون على نياتهم، وإشهارهم السلاح في وجه ولاة الأمور المسلمين، وإن كفَّروهم، فالعبرة ليست بفهمهم، وإنما العبرة بما عليه كبار العلماء، وما يدل عليه الدليل.
د- طعنهم في كبار علماء السنة والكثير من دعاتها، بزعم أنهم منافقون، أو عملاء للحكام، أو معينون للحكام على المجاهدين…..الخ، وهذا أمر سلكه أهل البدع جميعًا، حتى يسقطوا حُرْمة وجلالة علماء السنة في قلوب الناس، فلا يُرْجع إليهم، ويخلو لهم الجو.
واعلم أنه لا يُشْتَرَط في الحكم على المنهج بأنه منهج الخوارج أن يكون أهله ممن يكفِّرون بالمعصية، فإن التكفير بالمعصية أحد أصول الخوارج، وليست كل أصولهم منحصرة فيه، ولذا عاب العلماء على الحسن بن صالح بن حي سلوكه منهج الخوارج في الخروج بالسيف على أمراء زمانه، وإن لم يُذكر عنه التكفير بالمعصية.
3- دعوى الأخ أبي لجين بأن من تنظيم القاعدة من خرج من بعض مراكز السنة، فالجواب: الأصل أن هذا الفكر لم يأخذوه من مراكز السنة، ولا من كبار علماء السنة، بل أخذوه من بعض الجماعات التي أقامت دعوتها على ضرورة التهييج والتحريض للعوام على الحكام، وعلى تزهيد العوام في علماء السنة، بحجة أنهم جهلة مغفلون، أو سطحيون مُسْتَغْفَلُون، أو عملاء لا علماء ….الخ، ثم انقلب هؤلاء الطلاب على مشايخهم، فرموهم بالضلال، والإرجاء، والعمالة….الخ، ولم يُصغوا إلى نصائح علمائهم، والأيام والليالي حُبالى بما يجعلهم وغيرهم يدركون صحة ما عليه العلماء وإن جَفَوْهم – إن شاء الله تعالى-.
وقد سبق في الفتوى التي وقّعنا عليها أن من انحرف فهمه، وزل قدمه؛ فإنما يعبِّر عن نفسه لا عن جماعة السنة، وإلا كان واصل بن عطاء واعتزاله دليلاً على اعتزالية الحسن البصري، أو كان مروق المارقة، وجحود الرافضة السبأية دليلاً على الغمز في علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- وحاشاه!!
4- أسئلة أخي أبي لجين لغيري من المشايخ الموقعين معي على الفتوى لا يهمني الجواب عنها، لأن هذا أمر يخصهم، فلْيتولَّوا الجواب عنها إن رغبوا في ذلك.
5- تساءل الأخ أبو لجين عن موقفي من الإخوة في جمعية الإحسان، بل جزم بأنني أخرجهم من دائرة السنة، وهذا من تسرعه فيما لا يحسنه كما سبق، وسواء كان قصده بما قال هذا أو ذاك، فعقا الله عنا وعنه، وأقول: أعتقد أنهم – في الجملة- من جملة السلفيين صالحي المعتقد، ومن ذوي العمل الصالح، والعلم النافع، ومع ذلك فإن هناك أمورًا أخالفهم فيها، تخضع لميزان الحوار الأخوي الموضوعي، والحق أحق أن يُتَّبع، وأهم هذه الأمور التي أحب طرحها معهم على ميزان الحوار العلمي: الموقف من ولاة الأمور، ومن الغلو في التكفير، ومن الأعمال التي تُفضي إلى الفوضى والاضطرابات، ومن كبار أهل العلم، وإن كنت أعلم أن كثيرًا منهم لا غبار عليه في هذا كله، لكن الأمر دين، والبحث العلمي لا يُفسد الأخوّة، وعسى أن ييسر الله بالوقت الكافي لهذا كله، ولا شك أن عندهم أمورًا يعدونها مآخذ عليّ أيضًا، فصدْري يتسع لنقدهم، مع بيان حجتي الشرعية على ما أقوله، وغير المعتمد لا يعتمد مني ومنهم، فعسى أن يكون هذا الجواب عن هذا السؤال من أخي أبي لجين ما يجعله متورعًا في نسبة الأقوال إلى أهلها، ولم يكتف بنسبة ما قاله إليّ وحدي، بل نسبه إلى جميع الإخوة الذين هم معي في الدعوة، فيا لله العجب!!
وأما عن عدم توقيعهم على الفتوى؛ فحسب علمي أنها لم تُعرض عليهم، وقد يكون غيري قد عرضها على بعضهم دون علمي – فالله أعلم- ونظرًا لحاجتنا إلى استيفاء الكلام معهم فيما سبق ذكره؛ فكان رأيي عدم عرضها عليهم في هذا الوقت، حفاظًا على الأخوّة، وسعيًا في إيجاد جوٍّ هادئ لنقاش علمي يخدم الدعوة ولا يهدمها.
6- ذكر الأخ أبو لجين أن علماء تنظيم القاعدة لا يستدلون إلا بالكتاب والسنة وأقوال العلماء المعتبرين، والجواب: أنه ليست العبرة في الاستدلال وحشْر الأدلة، فإن هذا لا يعجز عنه أحد، إنما العبرة بسداد الفهم لهذه الأدلة، وإلا فكم من مبتغٍ للخير لا يدركه، وسيأتي ما يدل على ذلك في هذا الجواب – إن شاء الله تعالى-.
7- لقد ذَكَرْنا في الفتوى التي يعترض عليها الأخ أبو لجين أن الذين يُشِيعون على أهل السنة بأنهم إرهابيون، أو أنهم يهيئون مناخًا للإرهاب أربع طوائف: من ماسونية، وعلمانية، ورافضة، وبعض الفصائل الإخوانية؛ فذهب أخونا أبو لجين يَذْكُر أن القاعدة هي التي تتصدى لهذه الطوائف جميعًا، أما السلفيون فلا يُذكر لهم جُهْدٌ كبير في التصدي لهؤلاء، وجوابه هذا من باب قول القائل: “كُلُّ فتاةٍ بأبيها مُعْجَبة” وأما كتب أهل السنة في بيان المعتقد الصحيح الذي يُفَرِّق بين المسلم وغيره، وبين السني وغيره، فأكثر من أن تُحْصَر، وأشهر من أن تُذْكَر، بل من كان صحيح المعتقد من تنظيم القاعدة أو غيرهم في أبواب الربوبية والألوهية والأسماء والصفات وبقية مسائل المعتقد؛ فهو حسنة من حسنات علماء السنة، لكن لا يضرهم جَحْدُ أبي لجين أو غيره لجهودهم، فإنهم لا يريدون أجرًا من هذا أو ذاك!!
وكم لعلماء السنة وطلاب العلم من جُهْد مشكور في مؤلفات، ورسائل جامعية، ومحاضرات، وخطب، وندوات، ومؤتمرات، وفتاوى، ورسائل مترجمة بلغات العالم، وكم هَدَى الله على أيدهم من الكفار فأسلموا، ومن المبتدعة فتسننوا، وكم من مشكلات ومعضلات في الفتوى والقضاء دفع الله شرها عن المسلمين بسبب العلماء وطلاب العلم، كل هذا وغيره قبل أن يولد أسامة بن لادن وأيمن الظواهري فضلاً عن غيرهما، لكننا في زمن فَلْيَقُلْ فيه أبو لجين وأمثاله ما شاءوا!! أم أننا إذا لم نتكلم على الحكام والدول والشعوب بطريقة القاعدة حَذْوَ القُذَّة بالقُذَّة؛ فنكون عند أبي لجين وأمثاله من الخالفين، والمخذلين، ومن لا جُهد له في الدفاع عن الدين …..الخ؟
8- ولا أحب أن أُعَلِّق على كلام الأخ أبي لجين في موقف القاعدة من الرافضة في اليمن وإيران، وأترك ذلك للمتابعين للأحداث، حتى يزنوا كلامه بميزان العدل، أما عن موقفهم في العراق فلا أدري ما هو، ولا أحب أن أخوض فيما لا أعلمه هناك، والأخبار عندي في ذلك متضاربة، ورحم الله امرءًا انتهى إلى ما سمع، فإن أحسنوا فجزاهم الله خيرًا، وإن أساءوا فعلى أنفسهم.
ومما يدل على قلة معرفة أخينا أبي لجين لما يتكلم فيه هنا: جَهْلُه أو تجاهله لما أبلى فيه قبائل وادعة في دمّاج – ومن معهم من طلاب العلم- ضد الرافضة من بلاء حسن، ولم يكن حظهم من شكر أبي لجين ودعائه لهم إلا أنه يعيِّرهم، مع أنهم قد أثخنوا في صفوف خصومهم بما لم يكن مُتَوهَّمًا للجميع، فالله أسأل للجميع الهدى والثبات.
9-وكعادة أخينا أبي لجين في خروجه عن المنهج العلمي في الحوار في هذا الرد، فقد تساءل عن موقفي من طالبان!! ظانًّا أنه لا يغار على حرمات المسلمين إلا هو والقاعدة ومن جرى مجراهم!! وتحدَّى في جوابه أن أُظْهِر هذا الموقف، وبخط كبير، وأن يبقى مدة طويلة في الموقع، وكل هذا عمل غير لائق به وبمن يدعي أنه يسعى لجمع الكلمة، ويا ليته تنزه عن هذا الأسلوب الاستفزازي، لكن يبدو أنه لا يعرف الكثير عن دعوتنا وعن موقفي من كثير من الأمور، مع أنها مسائل اجتهادية قد تختلف فيها الآراء، إلا أنني أريد أن آخذ بيده إلى الله عز وجل مع هذا كله، فأقول: لقد وقف علماء الأمة مع الجهاد الأفغاني وقفة مشكورة، وقد حقق الله بهذا الموقف خيرًا كثيرا، ثم حصل في الجهاد أمور كثيرة لا تُحْمَد، ثم تغلَّبت طالبان على البلاد، وأنا وإن كنت لا أعرف الكثير عما يدور بدقة في تلك البلاد لاسيما في السنوات الأخيرة؛ إلا أن الذي بَلَغَ علمي أن طالبان قامت بتطبيق الشريعة الإسلامية – وإن وُجدت منهم مخالفات- ثم دهمهم عَدُوٌّ غاشم، وهو ما يُسَمَّى بحلف شمال الأطلسي تحت شعارات خداعة؛ فوجب عليهم أن يدافعوا عن بلادهم، وأن يصدوا من غزاهم، وعملهم هذا جهاد شرعي، يكفله لهم الشرع، وهو حق تنص عليه جميع الدساتير الدولية، ويجب على المسلمين نصرتهم فيما يستطيعونه، وبما يحقق لهم تطهير بلادهم من الاحتلال، ويحقق لهم الأمن والاستقرار، فإن هذا من حقهم الشرعي، وهذه الجملة عندي واضحة المعاني والأحكام، لكن ما يحصل في غضون ذلك أو بعد ذلك من قتل الأبرياء، أو تعاون على الإثم والعدوان، أو إساءة للشريعة، أو انحراف عقدي أو سلوكي في الأفغان أو غيرهم ممن يذهب لمعاونتهم، من تكفير للمجتمعات المسلمة، وتزهيد في العلماء ومنهجهم، ونَقْلٍ للفوضى من هناك إلى بلاد المسلمين وغيرهم من تفجير واغتيالات …..الخ؛ فهذا مما لا يقره عقل ولا نقل، ويبقى للمفتي – الخبير بتلك البلاد وما يجري فيها- النظر فيما يحصل هناك من مفاسد ومصالح، فيفتي بالذهاب إليهم أو عدمه.
أهذا يكفيك يا أخانا؟ أم لابد أن نكون جميعًا لُجَيْنيين، فلا نفكر إلا بعقلك، ولا نخرج عن قولك ولو قيد أنملة؟!
إن هؤلاء الشباب لا يعرفون إلا ما يعجبهم من الآراء والأفكار، ولا ينظرون إلى أدلة خَصمهم، ولا يجدون له عُذْرًا في مخالفتهم إلا العمالة والنفاق والضعف واللهث وراء الدنيا، كأن الإخلاص والصدق لا يعرفان سبيلاً إلا إلى قلوبهم هم ومن وافقهم، وكما قال الشيخ سلمان العودة في كتابه: “وكأن المطلوب هو الإصرار والعناد، وأن يُوضَع الرأس في الجدار مهما تكن الآثار، وكأن السيرة النبوية لم تشهد صبر مكة، ولا تجرُّع المرارة بحضرة سيد ولد آدم، ولا محاسنة سكان المدينة من وثنيين، ويهود، ثم منافقين، ونصارى، ولا إطلاق أسرى بدر أول معركة فاصلة, والتي سماها الله تعالى (يوم الفرقان) ولا العفو عن غَوْرَث بن الحارث، ولا إطلاق ثُمامة بن أُثال، ولا المن على أُسارَى بني المصطلق، ولا معاهدة اليهود ، ولا صلح الحديبية ، ولا حقْن الدماء بمكة بعد الفتح الأعظم… إلخ، وهذا كله في جهاد شرعي قطعي, يقف على قيادته نبي من أولي العزم، بل هو أفضلهم…… فكيف بمحاولات ليس لها عصمة ، ولا وقع عليها قطْع أو إجماع، ولا أقرَّتْها مجامع علمية، ولا دعا إليها فقهاء معتبرون، ولا تمحضت عنها نتائج مشجّعة؟!…… قال رجل لابن عمر: ألم يقل الله [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ] {البقرة:193} ؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكون فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدوا أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله. أخرجه البخاري (4515) اهـ من “شكرًا أيها الأعداء” (صـ209-210).
10- جزم الأخ أبو لجين – سلّمه الله- بأن جميع الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله كفار، وذكر أن تنظيم القاعدة في تكفيرهِ للحكام ما كفَّر إلا من كَفَّره الله بقوله تعالى: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ] {المائدة:44} وهذا يدل على عدم اطلاعه أو فهمه لكلام السلف حول هذه الآية، فقد فرّقوا بين من حكم بغير ما أنزل الله، مُدَّعيًا أن فِعْلَه هذا حسن، أو جائز، أو أنه أفضل من شرع الله، أو مثله…الخ، فهذا يكون كافرًا كفرًا أكبر عند العلماء، بعد استيفاء شروط التكفير وانتفاء موانعه عنه، وإن كان قد حكم بغير ما أنزل الله لدنيا أو شهوة مع إقراره بأن حكم الله هو الحق، وما دونه فباطل؛ فهو فسْق، وهذا قول السلف عامة، والأدلة تشهد لذلك، وإن اضطررتُ لسرد كل ذلك فعلتُ في أجوبة أخرى – إن شاء الله تعالى- لكن ذلك من الشهرة بمكان، وكون الأخ أبي لجين يطلق الحكم في موضع التقييد؛ فهذا يدل على مبلغه من العلم، وهذا الذي يجعل طلاب العلم لا يطمئنون إلى فقه عدد من منظري التنظيم الذين يسلكون هذا المسلك في الاستدلال، فيستدلون بالعموم في موضع الخصوص، ويجزمون في مواضع الاحتمال والاشتباه!! ولعل أخانا أبا لجين أخذ هذا الأسلوب في الاستدلال والاستنباط عنهم، كما سيأتي في التعليق الذي بعد هذا.
11- ثم وجّه الأخ أبو لجين السؤال لي – لعدم تكفيري من يحكم بغير ما أنزل الله لشهوة أو طمع في دنيا مع صحة إقراره بأن حكم الله هو الحق، وأن مخالفة ما أنزل الله لا تجوز- فقال: “أين تذهب بآية: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآَخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ] {النحل:107} قال: “فَرَبَطَ كُفْرَهم باستحبابهم للحياة الدنيا” اهـ.
قلت: ومع علمي بأن من منظِّري التنظيم من يفصِّل في الحاكم بغير ما أنزل الله – بخلاف إطلاق أبي لجين هنا- وإن كان لا يفصِّل في المشرِّع، إلا أنني أقول: هذا منهج الاستدلال الذي حَذَّر منه العلماء، وهو الاستدلال بالعموم أو الإجمال في موضع التخصيص والتفصيل، والاستدلال بآيات نزلت في الكفار وجعْلها في المؤمنين لمجرد وجود وجه تشابه بين الكافر والمؤمن في أمر ما، وهذا هو منهج الخوارج، وقد كنتُ أحب لأخينا أبي لجين ألا يتورط في هذا، والتوفيق بيد الله، والله المستعان.
وعلى كل حال: فقد ذكر البخاري في ك/استتابة المرتدين، ب/قتل الخوارج والملحدين أثر ابن عمر: فقال: “وكان ابن عمر يراهم – يعني الخوارج- شرار خَلْق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات في الكفار، فجعلوها على المؤمنين” قال الحافظ في “الفتح” (12/282): “وصله الطبري في مسند علي في “تهذيب الآثار” من طريق بكير الأشج، أنه سأل نافعًا: كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: كان يراهم شرار خلق الله؛ انطلقوا إلى آيات الكفار فجعلوها في المؤمنين. قال الحافظ: وسنده صحيح” ا.هـ وكذا صحَّح سنده بعد أن ساقه تامًّا في “تغليق التعليق” (5/259) وهو كما قال.
ويجب على من أراد أن يفسِّر كلام الله عز وجل، ويستنبط من ذلك أحكامًا – لاسيما في تكفير المسلمين- أن يعرف طريقة الصحابة وعلماء السنة في التفسير، وإلا قال على الله بغير علم، فالعلماء وإن استدلوا بآيات نزلت في الكفار، واحتجوا بها على ذم أعمال بعض المسلمين، إلا أنهم يدركون أن وجه الشبه في أمر ما بين المسلم والكافر لا يوجب التساوي في الأحكام، وقد أنكر النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- قوله: إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، قال ذلك جوابًا على قوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- له ولفاطمة – رضي الله عنهما- “ألا تصليان“؟ فأنكر رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هذا الجواب من علي، وخرج مولِّيًا يضرب فخذه، ويقول: [وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا] {الكهف:54} متفق عليه، ومع كون هذه الآية نزلت في الكفار، إلا أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنكر على علي بن أبي طالب شيئًا معينًا، وهو الجدال في غير محله فقط، ولم يَدُرْ بخَلَد أحد من أهل العلم طعنٌ في علي – رضي الله عنه- لذلك، وهذا بخلاف صنيع أخينا أبي لجين وأضرابه، الذين يجعلون للمسلم حكم الكافر مستدلين بعموم الآيات وإطلاقها!!
وقد قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله- في “أضواء البيان” (7/490-491) في الكلام على آيات ذم التقليد التي نزلت في الكفار، واستدلال العلماء بها في ذم التقليد، وإن صدر من بعض المسلمين، ومنها قوله تعالى: [وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا] {الأحزاب:67} قال: “وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كُفْرُ أولئك من الاحتجاج بها، لأن التشبيه لم يقع منهم من جهة كُفْر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليد بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجل فَكَفَرَ، وقلّد آخر فَأَذْنَبَ، وقَلَّدَ آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها؛ كان كل واحد ملومًا على التقليد بغير حجة، لأن كل تقليد يشبه بعضه بعضًا، وإن اختلفت الآثام” اهـ. وهناك مَنْ يُسَمِّي هذا النوع من التفسير تفسير القياس، وبعضهم يدخله في تفسير المعنى أو العموم.
بل هناك آيات وأحاديث نريد من أخينا أبي لجين أن يجيب عنها في ضوء فهمه للآية السابقة، لننظر: هل سيفصِّل كما يفصِّل العلماء، فيقع في التناقض، أم سَيُطْلق كما أَطْلَقَ، فيقع في الغلو والإفراط في أمر عظيم، وهو تكفير المسلمين، والأول أهون، وأحلاهما مُرٌّ، والمخرج من ذلك ترك الأسلوب الذي سلكه في آية النحل السابقة، فمن ذلك:
أ- قوله تعالى في الصحابة في غزوة أُحد: [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ] {آل عمران:152}. فما حكمه على الذين يريدون الدنيا من الصحابة؟ وخالفوا أمر رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ونزلوا من الجبل حبًّا في الدنيا والغنائم، فكان ذلك سببًا في الهزيمة؟ هل سيفصِّل في حُكْم من وقع في شيء من حب الدنيا هنا، ويجعل منه ما يكون سببًا في الكفر، ومنه ما دون ذلك، أم سيطلق القول هنا أيضًا، فيكفِّر أصحاب محمد – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؟ والله المستعان.
ب- قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا] {النساء:94} . وقد نزلت هذه الآية في سرية من المؤمنين قتلوا رجلاً مسلمًا كان يُخفي إيمانه، فلما رآهم فرح بهم، وسلَّم عليهم، وكان معه غنيمات، فقتلوه، وأخذوا غنمه، فما حكم أخينا أبي لجين على من يقتل مؤمنًا متعمدًا ابتغاء عرض الحياة الدنيا بشهادة الله عليه بذلك؟ هل سيفصِّل، أم سيطلق التكفير؟ وإذا أطلق فما جوابه على صدر الآية: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا]؟!
ج- قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ] {التوبة:38} . فما حكمك يا أخانا على من يترك الجهاد طمعًا في الدنيا وحُبًّا لها؟! وما تأويلك لصدر الآية: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا]؟!
فهل تفهم يا أبا لجين – سلَّمك الله- من هذه الآيات تكفير أهلها؟ وهل ستقول: رَبَطَ كُفْرَهم باستحبابهم للحياة الدنيا كما قلتَ قبل ذلك؟ بل ماذا أنت قائل في حديث: “تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة….“([1]) الحديث؟ هل يلزم من ذلك الكفر، أم من الممكن أن يقع ذلك من المسلم، ويكون ناقص الإيمان؟ وإذا كان من وُصف بكونه عَبْدَ الدرهم والدينار بشهادة رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عليه بذلك قد لا يكون كافرًا؛ فكيف يكون كل من أحب الدنيا على الآخرة في قليل أو كثير كافرا؟ وهل قد سَلِمْنا أو سَلِمَ الأخ أبو لجين نفسه من حب الدنيا، والضعف أمامها؟ من الذي يستطيع أن يزكي نفسه في هذا المقام؟ وحب الدنيا ليس محصورًا في حب المال فقط، بل من ذلك: حب الجاه، والذِّكر، والسمعة، والمكانة بين الخلق …الخ، كل ذلك من حب الدنيا نجانا الله من شرها.
فهذا أخونا أبو لجين أعرض عن تفسير السلف لآية الحكم، وفسَّرها من عند نفسه، أو قلّد فيها دعاة القاعدة ومن نحا نحوهم فأتى بما أتى به، فهل أنتم منتهون؟!
نعم، حب الدنيا إذا كان سببًا في الإعراض عن الدين، والبقاء على الكفر، أو الوقوع فيه؛ فهو مكفِّر، وإلا فقد يكون مفسِّقًا، ومنه دون ذلك.
فالحكم على المرء الذي يستحب الحياة الدنيا على الآخرة باعتبار ما يؤول إليه أمره بسبب ذلك من كفر أو فسق، فتأمل، ولا تكن من الغافلين.
فإن قال أبو لجين – من باب حُسْن الظن به- عندما سقْتُ آية النحل إنما ذكرتُها لأن استحباب الحاكم بغير ما أنزل الله الدنيا على الآخرة هو السبب في كفره بالحكم بغير ما أنزل الله، وإلا فأنا أفصِّل في حُكم من أَحَبَّ الدنيا.
فالجواب: السلف فصَّلوا في الحكم بغير ما أنزل الله، فجعلوا منه قسمًا مفسّقًا، وهو ما كان الحامل عليه حب الدنيا ونحو ذلك، أما أنت فترى أن الحكم بغير ما أنزل الله بسبب حب الدنيا كفر أكبر، وهذا هو صريح مخالفة السلف في هذا الموضع، ثم إن سياق كلامك لا يدل على التفصيل الذي افترضناه لك هنا من باب حسن الظن بك، فيلزمك أن تتراجع عن مذهب إطلاق تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله، وعليك أن تفصِّل كما فصَّل السلف، والزم عمليًّا غَرْزَ القوم كما نراك تشيد بمنهجهم نظريًّا، حتى تسلم من الزلل والإسراف، والله ولي التوفيق.
12- كما تساءل الأخ أبو لجين: هل فساد القاعدة مثل فساد الحكام المعاندين لله ولرسوله؟ والجواب: لا وجه للمقارنة بينهما، فهل نقارن بين من يخطئ وهو يريد الخير، ويضحي بنفسه من أجل عقيدته التي يظن صحتها، ويفارق الخلق من أجل ما يظنه دينًا، ويتحمل أنواع البلاء لما يعتقد صوابه -وإن كان خطأً وانحرافًا جالبًا على البلاد والعباد المزيد من الشرور والفساد- بمن يتعدى حدود الله لشهوته، أو من لا يرجو لله وقارًا، أو همّه المجاراة لمن أعلنوا عداءهم للدين، أو من يفتح المجال أمام الأفكار السامة فتفتك بشعبه والأجيال اللاحقة….الخ؟ لا وجه لهذه المقارنة، لكن مع ذلك لابد من بيان الخطأ والتحذير منه، حتى لا يُنْسب إلى الدين ما ليس منه، مع لزوم العدل والوضوح في ذلك، وأيضًا فهناك بعض الحكام وأعوانهم ممن تكفرهم القاعدة – على ما عندهم من مخالفات- قد أجرى الله على أيديهم من الخير للأمة ما لم يقع عُشْر معشاره من القاعدة، والإنصاف عزيز!!
13- ثم بالغ الأخ أبو لجين في الإنكار على ما جاء في الفتوى: أن القاعدة تكفِّر المجتمعات الإسلامية، وزاد من تهويله وعويله وَوَلْوَلته، ودعا بالويل على أهل الافتراء والكذب على المجاهدين ورميهم بما لم يعتقدوه!! وأطال في إثبات أنهم لا يُكَفِّرون عموم المسلمين، بل يجاهدون لحمايتهم، وبهذا يظهر مقدار فهم أخينا أبي لجين للكلام، وأنه بحاجة إلى مزيد إدراك لما يتكلم فيه، فَفَرْقٌ يا أخي الكريم بين تكفير المجتمعات، وهي الديار، والحكم عليها بأنها ديار كفر، وبين الحكم على جميع أفرادها بالكفر، فرويدًا رويدًا أخي أبا لجين!! ولا بأس أن تسعى وتجتهد في اتساع معرفتك ودائرة اطلاعك أكثر من هذا.
وأما القول بأن القاعدة تجاهد لحماية المسلمين؛ فهذا إن كان في بعض البلدان التي دهمها الأعداء، فتُشْكَر على هذه النية، والأعمال التي لا تخالف الشرع؛ إلا أنها في أكثر البلدان قد جَرَّت على المسلمين من الشر، والبلاء، والتضييق، وكشف الستر، وهزيمة الأمة ما الله به عليم، وتفصيل ذلك يطول ذِكْره.
14- وحول تضليل القاعدة وطعنهم في كبار العلماء فقد قَعْقَعَ أخونا أبو لجين، وحاول أن يُغمغم، وكان الأَوْلى به أن يعترف بخطأ القاعدة في عدم التأدب مع العلماء، وإنزالهم منزلتهم الشرعية، وأن يوجّه لهم نصيحة بلزوم الأدب والإنصاف معهم، على أنه لا يلزم من ذلك عصمة العلماء، بل الواجب حبهم حبًّا شرعيًّا، فنشكرهم ونقبل منهم إن أصابوا، ونعذرهم ونرد قولهم إن أخطأوا، أما رميهم بالعمالة، والنفاق، والجبن، والضعف ….الخ؛ فهذه باقعة ليس لها راقعة، وبليّة لا يغطّيها ذيل، ولا يسترها ليل، وإن حاول أخونا أبو لجين أن يُرَقِّع؛ فهذا ما لا حيلة لك فيه أخي الكريم إلا إعلان التوبة والمراجعة، أو أن تكون واضحًا وتضم نفسك إلى القاعدة في هذا أيضًا.
وأما تقسيم القاعدة للعلماء: بأن منهم علماء ربانيين يجلونهم، وهم من كان على شاكلتهم، ووافقهم فيما ذهبوا إليه!! وأن منهم عملاء لا علماء، وهم من خالفوهم، وأَفْتَوْا بتخطئتهم، وإن كانوا كبار علماء هذا العصر، والمجددين لهذا الدين على رأس هذا القرن الخامس عشر؛ فلا شك أن هذا مما تمجّه نفوس العقلاء، ولا ينفق إلا على البسطاء الجهلاء!!
علمًا بأن من يمدحهم التنظيم – في الغالب- ويُشيد بهم، ويخْلع عليهم الألقاب العلمية والتربوية الفضفاضة هم في طبقة تلامذة أو تلامذة تلامذة هؤلاء الذين يذمونهم، فوقعوا في الأكابر الذين قال فيهم رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “البركة مع أكابركم” ورفعوا الأحداث الأصاغر، والله المستعان.
15- ثم أمعن أخونا أبو لجين في الغمغمة والتعمية، فأراد أن يثبت أن القاعدة تحترم العلماء أكثر من احترام الحكومات العلمانية لهم، ولسنا بحاجة إلى هذه المقارنة – أيها الأخ الكريم- لأننا وإن سلمنا بذلك مطلقًا؛ نرى أن كلا من الطائفتين – إلا من رحم الله- قد طعن في العلماء بما يحاسبهم به الله عز وجل، ثم إن فتوانا لم تكن في مقام المقارنة في هذا الباب بين الطائفتين حتى يُطلب منا بيان ذلك.
16- ودفاع الأخ أبي لجين عن القاعدة في تخريب المصالح العامة: النفط ونحوه مما لا حجة له فيه، إذ ذَكَر أن النفط يذهب لغير المسلمين، وأن تخريبه أوْلى من بقائه على ذلك، حتى لا يستعينوا به على المسلمين، فيجاب: وهل تفجيره وحرقه بالكلية سيعود منه شيء على المسلمين؟ إذا كان الواقع الآن أنه لا يعود منه على المسلمين إلا القليل، فهل تفجيره هو الذي سيرد للمسلمين حقوقهم المسلوبة؟! وهل تفجير خزانات الغاز التي تلتهم الأخضر واليابس مما حولها في بلاد الإسلام – لولا لُطْف الله بالمسلمين- على مسافة آلاف الأمتار من جميع الجهات مما يوقع نكاية بغير المسلمين فقط؟!
17- ثم إن عدم اعتراف أخينا أبي لجين بشرعية الحكومات التي تعطي الأمان للمستأمَنين والمعاهَدين، ومن ثم أجاز قَتْلَ القاعدة إياهم؛ فهذا مما لا حجة له فيه أيضًا: فإن المعتد في عقد الأمان وعدمه هو فَهْم المستأمَن لا فَهْم معطي الأمان فضلاً عن غيره، وقد ذكرتُ ذلك في جوابي عن الشبهة الرابعة عشر من كتابي “التفجيرات والاغتيالات: الأسباب، والآثار، والعلاج” وذكرتُ قول الإمام أحمد – رحمه الله-: إذا أُشِيَر إليه – أي الكافر- بشيء غير الأمان، فظنه أمانًا، فهو أمان” قال الفتوحي: “وذلك تغليبًا لحقن الدماء، كما حُقن دم من له شبهة كتاب، تغليبًا لحقن دمه……الخ”اهـ من “المعونة” للفتوحي (3/733).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: “جاءت السنة بأن كل ما فهم الكافر أنه أمان، كان أمانًا، لئلا يكون مخدوعًا، وإن لم يُقصد خدعه” اهـ “بيان الدليل” (صـ64) وقال أيضًا: “ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم….” اهـ من “الصارم المسلول” (2/522). وكل هذا تغليبٌ لحقن الدم مع الاحتمال والشبهة، ولدفع تهمة الغدر ونقض العهد عن الإسلام والمسلمين.
بل الخوارج الذين كانوا في عهد علي – رضي الله عنه- كانوا لا يقتلون الذمي، مع أن الذي أعطاهم عقد الذمة هو علي – رضي الله عنه- فإنه الخليفة بعد عثمان، والشوكة بيده، والخوارج يكفرونه، فحافظوا على عقد علي لأهل الذمة مع تكفيرهم إياه، لحقن دم أهل الذمة، وكي لا يُنسب إلى الإسلام الغدر والخيانة، وهذا الذي قد تَوَرَّع عنه الخوارج قديمًا، تجرأت فيه القاعدة التي تنتمي إلى السنة اليوم، فتأمل إلى أين يصل الغلو بأهله، وسل الله الهداية والعافية!!
فلا أدري: هل يُقبل بعد هذا كله قول الأخ أبي لجين: “إن الخلاف بيننا وبينكم على أسمائهم: هل هم مستأمَنون أم لا؟ وهل لهم عهد وأمان أم لا؟” لا أدري متى يكون لهم عهد أو أمان عندك يا أبا لجين؟ هل إذا حصلوا عليهما من القاعدة وأفرادها فقط؟ أليس العمدة في الأمان ما يفهمه الكافر لا ما يفهمه المسلم المعطي للأمان أو غيره؟ فهل هؤلاء الكفار ما فهموا أنهم آمنون بدخولهم البلاد بعقد عمل أو غير ذلك؟! ثم هل القاعدة من حقها أن تقيم الحدود، وتقتل من نقض العهود؟ بأي سلطة أو حق يقومون بهذا؟ وهم ليسوا ولاة أمر، ولا جماعة حسبة ولاَّهم ولي الأمر، أو جماعة قاموا بالحسبة عند ضعفه وعجزه، وأُمِنَتِ المفسدة، ورأوا أن ذلك أولى في انضباط الأمور من تركه!! بل الذي نراه: هو المزيد من انتشار الفوضى وزيادة التضييق على المسلمين.
18- ثم دندن الأخ أبو لجين كثيرًا حول معنى قولنا: نرفض التدخل الأجنبي في بلاد المسلمين، ويتساءل عن موقفنا إذا حصل ذلك؟ فالجواب يا أخانا: إن لكل حادثة حديثًا، ولا يلزمنا أن نتعامل مع كل حدث بطريقتكم، وهذه المسائل والنوازل العامة يجتمع لها العلماء، ويصدرون الفتوى التي تليق بالمقام، ولا يَسْتَقِلُّ بها فلان أو فلان، هكذا أدَّبنا العلمُ والعلماءُ!!
19- تناول رد أخينا أبي لجين أمورًا أخرى حول الموقف من الاعتداء على الأبرياء من النساء والأطفال وغيرهم الذين قتلتهم الطائرات في أبين وشبوة وغيرهما – من جملة المحافظات اليمنية- فَنُشْهِدُ الله على براءتنا من هذه الأفعال، وكم اهتزت أعواد المنابر لاستنكار هذه الحوادث المخزية، والتي هي نقطة سوداء في تاريخ أهلها، ومع ذلك لا نبرئ الشباب المتهور الذين جلبوا على أنفسهم وعلى بلادهم وأهليهم هذا البلاء، وقد كان الناس في عافية من ذلك، وهذه ثمرة من ثمرات الفكر المنحرف: سقوط الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل، إلا أن الشباب وإن أخطأوا في أمور قد بينَّاها؛ فالعلاج بقذائف الطيران مما يغضب كل من له عقل رشيد، هذا موقفنا من هذه الحادثة وأمثالها، فهل لازلتَ يا أخي الكريم لا بسًا نظارة سوداء قاتمة جدًّا، فترى نور علماء السنة وطلابها ظلامًا، أم غَيَّرْتَ من عقلك وتفكيرك؟! أم لابد أن نحمل السلاح، ونخرج فنقتل الجنود في نقاط المرور والتفتيش على الطرقات، أو نرمي بالقذائف خزانات الغاز والبترول، أو نرمي سفارة أو سفيرًا؟! حتى نكون قد أخذنا بالقصاص لدماء الأبرياء!!
نعم، يجب على الحكومة أن تتخذ السبيل الشرعي وحده في العلاج، ولا يجوز لها أن تتجاوز الحد بنفسها، أو تسمح لغيرها أن يضرب أحد رعاياها – إن صح ذلك- وإن أخطأ، فبلاد الإسلام لها سيادة، واختراق هذه السيادة جالب للفساد العريض، ولنعتبر بما يجري على هذا المنوال في أفغانستان، وباكستان، والعراق، هذا ما نراه نُصْحًا للجميع، وبراءة للذمة، وحفاظًا على المنهج السديد.
وبعد هذا كله –وهو موقفنا سابقًا ولاحقًا ولله الحمد- فيبدو أن أخانا أبا لجين أصبح ضحية مجالس التشويه للعاملين في ساحة الدعوة، وفريسة مقالات السوء في الدعاة الصادقين، وأنه بعيد عن معرفة حقيقة دعوتهم، وعسى أن يستفيد شيئًا من هذا الجواب.
20- ومما ذكر الأخ أبو لجين في صدد استدلاله على تكفيره للحكام قوله تعالى: [وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ] {المائدة:51} وهذا يدل على أنه يرى أن مطلق الولاء للكفار يكون كفرًا أكبر، وهذا مخالف لما عليه العلماء من تفصيل في ذلك، وأن الولاء منه المكفِّر، ومنه غير المكَفِّر، ومعلوم أن من أصول الدين الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين، ومعلوم أن من أَخَلَّ بولائه للمؤمنين في أمر أو أكثر فإنه لا يلزم منه الكفر الأكبر، بل قد يقتل المؤمنُ المؤمنَ ولا يكون كافرًا، وأي إخلال بمبدأ الولاء للمؤمن أعظم من قتله؟ فإذا كفَّرناه بكبيرة القتل؛ فيكون تكفيرًا بكبيرة، وهذا مذهب الخوارج، فكذلك لا يلزم من مطلق الإخلال بمبدأ البراءة من الكافرين الكفر، فقد يوالي المؤمن الكفار في أمور يكون بها فاسقًا لا كافرًا، كما أنه قد يتبرأ المؤمن من المؤمن في أمور يكون بها فاسقًا لا كافرًا، وصدر سورة الممتحنة في قصة حاطب أكبر شاهد على ذلك، بل قد استدل العلماء بها على أن الجاسوس – وهو موالٍ للكفار على المسلمين بلا شك- لا يلزم من عمله إذا بقي أصل اعتقاده ثابتًا بحبه للإسلام ونصرته وكراهيته لدين المشركين ونصرتهم أن يكون كافرًا.
وقد قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ(2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(3) ]. {الممتحنة}. ففي هذه الآيات وقفات مع كل من يدعي الكفر الأكبر على كل من أخل بمبدأ البراءة من الكفار، فوقع في موالاتهم، سواء كان محبًّا لدينهم ونصرتهم، أو كان كارهًا لدينهم ونصرتهم، وإنما فعل ذلك لدنيا يريدها، أو شهوة يقضيها:
الوقفة الأولى: أن حاطبًا – رضي الله عنه- وقع في نوع من موالاة الكفار بلا شك، وقد سمى الله ذلك ولاء، فقال: [لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ] وقال أيضًا: [تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ] وقال أيضًا: [تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ] وقد حكم على من فعل ذلك بقوله: [وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] .
الوقفة الثانية: حاطبٌ – رضي الله عنه- كان اعتقاده في حب الإسلام ونصرته، وكراهية الشرك اعتقادًا ثابتًا، وبهذا استفتح الجواب عندما سأله رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عما حمله على ما صنع؟ مما يدل على أن وجود هذا الاعتقاد يدرأ حكم الكفر عنه، وإن وقع في الموالاة العملية، وفي هذا دليل على التفريق بين الحالتين، خلافًا لمن أطلق الحكم سواء ثبت اعتقاده بحب الإسلام ونصرته، وكراهية الشرك أم لا، مستدلاًّ بعموم تكفير من والى الكفار، ولولا أن الفرق حاصل بين الحالتين، لما سأله الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بقوله: “ما حملك على ما صنعت يا حاطب“؟ ولما أجاب حاطب بقوله: “والله ما بي إلا أن أكون مؤمنًا بالله ورسوله، أردت أن تكون لي عند القوم يَدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هنالك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال: “صدق، لا تقولوا له إلا خيرًا” متفق عليه، وفي رواية أخرى عند الإمام أحمد: قال حاطب: “…. وما فعلتُ ذلك كُفْرًا ولا ارتدادًا عن ديني، ولا رضىً بالكفر بعد الإسلام” فتأمل حرص حاطب على التصريح بمعتقده، وإن خالف ذلك فعلُهُ، وتأمل أيضًا كيف نفعه وجود هذا الاعتقاد مع الموالاة العملية، فيا ويـح من لا يُفصِّل كما فصَّل الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- والصحابة – رضي الله عنهم-.
الوقفة الثالثة: حاطبٌ مع ولائه للكفار بقي على الحكم له بالإيمان، والآية صريحة في ذلك، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ] فالآية عامة، ويدخل فيها حاطب، وهو السبب في نزولها، فلو كان كافرًا لما خاطبه – ضمن الصحابة- بالإيمان، مما يدل على أن موالاة الكفار منها المكفِّر، ومنها ما هو دونه.
الوقفة الرابعة: لو كان مطلق الولاء للكفار مكفِّرًا، ولا فرق بين بقاء اعتقاد المرء أو عدمه بحب الإسلام وكراهية الشرك؛ لما قال الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لهم لما أجاب حاطب ببقائه على حب الإسلام وكراهيته الكفر – وإنما فعل ذلك للحفاظ على أهله وماله، وهذا ولاء لهم من أجل الدنيا- لو كان كما يقول الآخر؛ لما قال لهم: “لقد صدقكم، فلا تقولوا له إلا خيرا” وأيُّ خير في تكفيره؟!
الوقفة الخامسة: الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يقبل قول عمر في حاطب، ولا أقره على أن حاطبًا منافق أو كافر – كما في بعض الروايات- لأنه أعرض عن عمر في المرة الأولى من استئذانه في قتله، وحكمه على حاطب بالنفاق، وسأل حاطبًا، فلما سمع جوابه؛ قال لهم: “لا تقولوا له إلا خيرا” وفي المرة الثانية من استئذان عمر في قتله، مع حكمه بالنفاق أيضًا على حاطب أنكر عليه رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقال: “ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم” حتى بكى عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
فلو لم يكن إلا هذا الرد الثاني لكان كافيًا في عدم إقرار عمر على قوله في حاطب: “إنه قد نافق” أو “كفر” فكيف وقد أعرض عنه في المرة الأولى، ثم قال لعمر وغيره: “لا تقولوا له إلا خيرا“؟ وفي هذا ردٌّ على من ادعى إقرار الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لعمر على رمْيه حاطبًا بالنفاق أو الكفر، وزاد ففرَّع على ذلك إطلاق تكفير الجاسوس دون تفصيل، وتكفير من وقع في أي موالاة للكفار دون الرجوع إلى تفصيل أهل العلم، وما بُني على فهم خاطئ فهو ساقط، والله أعلم.
الوقفة السادسة: حاطب فعل ما فعل من أجل الدنيا، حتى قال الله محذّرًا له ولغيره: [لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ولم يكفِّره رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولم يستدل بقوله عز وجل: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآَخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ] {النحل:107} كما فعل أخونا أبو لجين ومن هو على شاكلته، في استدلالهم على عموم تكفير من استحب الحياة الدنيا على الآخرة، فمن نتبع في ديننا: هل نتبع الرسول، أم نتبع أبا لجين وإخوانه؟
الوقفة السابعة: ليس هذا الحكم بالمغفرة خاصًّا بحاطب وأهل بدر، لأن البدرية لا تمحو بمجردها الشرك، فالشرك لا يمحى إلا بالتوبة، قال تعالى: [إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] {النساء:48} بل قال الله تعالى: [وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ] {الزُّمر:65} فإذا كانت النبوة لا تمحو الشرك بنفسها بدون توبة – لولا أن الله قد عصم الأنبياء من ذلك، بل عصمهم من الكبائر، بل لا يُقَرُّون على اجتهاد أخطأوا فيه- فكيف بالبدرية تمحو ذلك بدون توبة؟ فهذه كبيرة لا تمحى في حق غير البدريين إلا بالتوبة، أما في حق البدريين فتمحى تكرمة لمن شهد بدرًا، ولو كان حاطب قد وقع في الشرك الأكبر؛ لما نفعه كونه بدريًّا.
والمعاصي أقسام:
أ- قسْم لا يُغْفَر إلا بالتوبة، وهو الشرك الأكبر، لقوله تعالى: [إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ] {النساء:48} .
ب- قسْم يُغْفَر باجتناب الكبائر، وهي الصغائر، لقوله تعالى: [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ] {النساء:31} .
ج- وقسْم راجع لمشيئة الله عز وجل: إن شاء غفره، وإن شاء عذب صاحبه، وهي الكبائر التي يموت صاحبها دون توبة منها، لقوله تعالى: [وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] {النساء:48} ، وهذا القسم يُغفر لمن شهد بدرًا، ولا يكون مُعَرَّضًا للوعيد، وهذا الموضع الذي يُنزل عليه الحديث، جمعًا بين الأدلة.
ومن نظر في ذلك علم أن تأويل المخالفين بعدم تكفير حاطب لأنه بدري، أما غيره فإن فعل فعله كفر، لأنه ليس له ما لحاطب والبدريين من مزية؛ من نظر فيما سبق علم خطأ هذا التأويل، والله أعلم.
الوقفة الثامنة: العلماء استدلوا بحديث حاطب على عدم كفر الجاسوس إذا كان يفعل ذلك لدنيا لا كراهية للإسلام، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وادعى بعضهم الاتفاق عليه، ومعلوم أن الجاسوس ربما يضر بالمسلمين أعظم من المسلم الذي يكون مظهرًا ولاءه للكفار، لما في أمر الجاسوس من الخيانة والغدر والتطلع على عورات المسلمين عن قُرْب ..الخ، فإذا فُصِّل في الجاسوس فُصِّل أيضًا في الموالاة الظاهرة، كما قال جماعة من العلماء، فلا تنخدع ببريق العمومات في مقام التخصيص!!
الوقفة التاسعة: المرء إذا وقع في موالاة الكفار، واحتمل المقام أنه فعل ذلك كراهية للإسلام وحبًّا للكفار – وهذا كفر أكبر- واحتمل أيضًا أنه فعل ذلك عن خوف على دنياه، أو طمعًا في دنياهم، مع بقاء حبه للإسلام ونصرته، وكراهيته للشرك – وهذا فسق فقط- فلا يمكن الجزم بكفره، وحمْل صنيعه على الحالة الولى فقط إلا بعد سؤاله عما حمله على ذلك، كما سأل الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حاطبًا: “ما حملك على ما صنعت يا حاطب“؟
والقاعدة الشرعية في ذلك: أنه لا تكفير مع الاحتمال، وأن الحدود تُدرأ بالشبهات، والخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، فأين المتسرعون من هذه القواعد كلها؟ وما كفاهم مخالفة الأدلة، بل تسرّعوا في اتهام العلماء وطلاب العلم – الذين هم أسعد الناس بالأدلة والقواعد- بأن همهم ومقصدهم الدفاع عن الحكام، وأنهم باعوا دينهم بيعًا رخيصًا ….الخ، ناسين أن الدفاع عن القواعد والمنهج أبقى وأهم عند أهل السنة من الدفاع عن الحكام الذين نجد بعضهم أو كثيرًا منهم لا يقيم لله وقارًا في أمر أو أمور، على أننا مع هذا الثبات على عقيدتنا فإننا لا قيمة لنا عندهم، وربما كان الذباب أعظم قدرًا من كثير من الدعاة عند كثير من الحكام، لكن الأمر دين، والدفاع عن منهج السلف وقواعدهم هو مقصد الصادقين!! فوا قُبْحَ من فسَّر الاتباع بالتزلف، وفسَّر الحكمة والنظر للحال والمآل بالجبن والعمالة!!
الوقفة العاشرة: لو سلمنا بأن مطلق الموالاة للكفار كفر أكبر، وأن قوله تعالى: [فَإِنَّهُ مِنْهُمْ] لا يحتمل إلا الكفر الأكبر – مع أن للمفسرين فيه قولين ذكرهما ابن الجوزي، وهما: الأول: أنه منهم في الكفر، والثاني: أنه منهم في مخالفة الأمر لا الكفر- لو سلمنا بهذا: أليس من قواعد السلف: أنه لا تكفير للشخص المعين إلا بعد استيفاء شروط التكفير وانتفاء موانعه عن المرء؟ فأين تطبيقكم لهذه القاعدة؟ وهل تقرون بها أم لا؟ وكيف تحكمون على من أخذ بها، وتريّث في تكفير الحاكم بالأحكام المقذعة التي لا تخفى على أحد؟ هلا اشتغلتم بعلاج عيبكم، وتركتم أعراض أهل الدين والنسك والإخبات من الوقيعة والطعن والشتم؟!
21- ويتساءل أخونا أبو لجين فيقول: إذا كنتم تنكرون على القاعدة تخريب المصالح العامة، فلماذا لا تنكرون على الحكام الذين يُبَذِّرون أموال المسلمين في مصالحهم الخاصة أو في شهواتهم، وأن منهم من يصرف في اليوم الملايين على شهوته…الخ؟!
والجواب: نحن ننكر الخطأ على الجميع – سواء صح ما نقله أبو لجين عن بعضهم أم لا- وقد سبق أن بعض الحكام قد أجرى الله على يده من تطبيق الشريعة، ونشر الدعوة، وإغاثة المكروب، ما لم يحصل عُشْر معشاره من القاعدة وغيرهم، وإن لم يسلموا مع ذلك من أخطاء ومخالفات أخرى، لكن الله حَكَم عَدْل، يجازي على السيئة بمثلها، وعلى الحسنة بعشر أمثالها، إلى أضعاف كثيرة، وهذا للحاكم والمحكوم.
واعلم أن الخطأ الذي باسم الدين والدعوة، لاسيما إذا كان هناك من ينسب هذه الأخطاء إلينا وإلى دعوتنا هو أولى بالبيان، ويتعين علينا – تبرئة للدين مما أُلصق به ولدعوتنا- البيان، لكن بعلم وعدل وإنصاف، وهذا الجواب – وغيره- يدل على ذلك.
ولعل من سعة الصدر في الحوار أننا أبقينا عندنا رد أخينا أبي لجين – على خوائه العلمي واحتوائه على عبارات الاستفزاز والتحريش والاتهام لنا بالباطل- فترة طويلة، وهذا إن دل فإنما يدل على ثقتنا – أيضًا- بما نحن عليه من الحق، وأن هذه قناعات علمية مأخوذة من الأدلة النقلية والعقلية، وأنها من منهج سلفي أثري، وما كان الله ليجعل الضلال في سبيل المؤمنين، كما يدل موقفنا هذا على الإنصاف في الحوار، وفي هذا الجواب ما يدل على ذلك أيضًا، وإن كان أخونا أبو لجين قد طعن فينا أكثر من مرة بقلة الإنصاف، وأترك المجال للقارئ المنصف، ليحكم بنفسه هل ما اتهمنا به أخونا أبو لجين صحيح أم لا؟ وعند الله تجتمع الخصوم.
وعلى كل حال: فالحاكم المسلم – وإن كان جائرًا ظالمًا- فإن السنة أمرت بالصبر عليه، إذا كان في الخروج عليه مفسدة أكبر، لا حُبًّا في فساده، كما أمرت بنصحه النصيحة الصادقة بما لا يثير فتنة أكبر، وأما المنتسبون للدعوة والعلم فقد جاءت السنة – بعد نصحهم بالتي هي أحسن، وبذل الوسائل لتركهم ما خالف الحق- بتفنيد أخطائهم وشبههم، ليس لأنهم أقل خيرًا وإيمانًا من الصنف الأول، بل ربما كان إيمان بعضهم يزن ملء الأرض من إيمان الحاكم الظالم الفاجر، ولكن الرد عليهم من باب الحفاظ على الدين مما أُلحق به، لأنهم ينسبون قولهم إلى الدين، بخلاف العاصي، فإنه لا ينسب ذلك إلى الدين، فالسنة هي التي فرقت بين المعاملتين، ومنهج السلف دل على هذه التفرقة أيضًا، فليس الأمر هوى، إنما هو اتباع واقتداء – وإن كان المخالفون لنا لا يرفعون رأسًا بهذا التأصيل، ولا يتورعون عن اتهام غيرهم بما شاءوا- المهم أن يكون الرد بعلم وحلم وإنصاف، أما أن يقال: لماذا لا تردون على فلان الحاكم، وتردون على فلان الداعية؟ فهذا السؤال ناتج عن منهج مُحْدَث وليس منهجًا شرعيًّا، ومن تأمل الأحاديث الواردة في التحذير من الخوارج، وعدم الاغترار بصلاتهم، وصيامهم، وقراءتهم للقرآن، وتأمل ما ورد في السنة أيضًا من الصبر على أئمة الجور، وأداء الذي لهم، والصبر عند منعهم ما هو لنا، من تأمل ذلك علم صحة ما نحن عليه، ولو أننا قارنّا بين الحجاج بن يوسف الأمير الظالم العسوف وبين بعض الخوارج: لرأينا تهتكًا وفجورًا في الحجاج، وعبادة وزهدًا في الخارجي، ومع ذلك فرّقت السنة في معاملة كل منهما، فمن تأمل ذلك علم أن السنة هي التي فرقت بين هذا وذاك، لا أن السلفيين يتملقون، أو يتزلفون، أو يجبنون عن قول الحق، ولكنهم أسْعد الطوائف بالنصوص ومنهج السلف، وهذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك:
قال رحمه الله: “ولهذا أمر النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بقتال الخوارج المبتدعين مع كثرة صلاتهم، وصيامهم، وقراءتهم، ونهى عن الخروج على أئمة الظلم، وأمر بالصبر عليهم” اهـ من “درء تعارض العقل والنقل” (7/180).
وقال أيضًا: “ثم المعاصي التي يَعْرِف صاحبها أنه عاصٍ، يتوب منها، والمبتدع الذي يظن أنه على حق: كالخوارج، والنواصب الذين نصبوا العداوة والحرب لجماعة المسلمين، فابتدعوا بدعة، وكَفَّروا من لم يوافقهم عليها، فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة الذين يعلمون أن الظلم مُحرَّم، وإن كانت عقوبة أحدهم – يعني: المبتدعة- في الآخرة لأجل التأويل قد تكون أخف، لكن أَمَر النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بقتالهم، ونهى عن قتال الأمراء الظلمة، وتواترت بذلك الأحاديث الصحيحة” اهـ من “منهاج السنة” (5/149-150) وانظر (6/118).
واعلم أن هذه التفرقة في المعاملة لا يلزم منها أن أهل الشهوات أخف شرًّا من أهل الشبهات دائمًا، فقد يكون صاحب المعصية قدوة لغيره، أو معه قوة سلطان ينشر بها معصيته، وقد ينسب ذلك إلى الدين، فيكون شره عظيمًا على الأمة، بخلاف صاحب الشبهة الذي قد لا يُلْتَفَتُ إليه، أو لا سلطان له، هذا في الدنيا، وفي الآخرة فقد يكون العاصي ممن يدخل النار، وصاحب الشبهة من المعذورين بتأويله، بل إن كان من أهل الاجتهاد كان مأجورًا أجرًا واحدًا على اجتهاده، لعموم الحديث في ذلك، وفي هذا المقام تفصيل ليس هذا موضعه.
فالذين يريدون منا أننا إذا ذكرنا خطأ رجل ينتسب إلى الدين والدعوة لزمنا أن نكون كذلك مع الحاكم الظالم؛ عليهم أن يجيبوا على ما سبق من أدلة وأقوال للعلماء أولاً، ثم إننا أيضًا نحذِّر من اتباع الحاكم في معصية الله، ونعتقد ضرورة نصحه إن أمكنا ذلك، على أن إنكارنا على إخواننا الذين انحرفوا عن الجادة إنكار لم يخرج عن المنهج العملي من الكلام بعلم، وبيان ما لهم وما عليهم، وهذا هو العدل والإنصاف، وكتابي “فتنة التفجيرات والاغتيالات” دليل على ذلك، لكن نظرًا لأنهم لا يقبلون إلا ما يوافقهم حَذْو القُذَّة بالقُذَّة؛ فعند ذاك يشيع الخلاف والرد بيننا وبينهم، لأنهم يردون بأدلة يضعونها – في نظرنا- في غير موضعها، مما يضطرنا للرد عليهم لبيان الحق، وهذا الذي يجعل الرد والسجال يطول بيننا، فمن هنا يقولون: لماذا تردون علينا بكثرة، وعلى الحكام بغير هذا القدر؟ وظهر من ذلك أنهم مشاركون في تطويل ذيل الرد، وأما الحكام فلا يجادلون في إنكارنا عليهم الحكم بغير ما أنزل الله، والوقوع في الربا والمنكرات التي شاعت وذاعت، والتي لا خلاف فيها، وربما انبرى بعض علماء السوء ليُسوِّغ لهم ذلك، فيطول الخلاف وينتشر، نعم هناك أمور عندهم نجهلها ولا نعرفها، وأخرى نرى أن المصلحة في إنكارها ليست في التهييج والإثارة، وقد سبق بيان تفريق السنة في المعاملة بين الحالتين، والله أعلم.
فإن قيل: هذا الذي ذكرته إنما هو في الحاكم المسلم الظالم، أما هؤلاء الحكام فهم عندنا كفار مرتدون، فالجواب: أننا نخالفكم في ذلك، ولا يلزمنا أن نتبع أقوالكم، التي نراها مخالفة للدليل والأثر، ومخالفة لمنهج العلماء المجددين لهذا الدين في هذا القرن الخامس عشر، وتفصيل ذلك له محل آخر، فهل بان لكم أن دعاة السنة متبعون لا مبتدعون؟ وإلا [فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ] {المرسلات:50} ؟!
ونحن نشهد الله، ونشهد من حضرنا من الملائكة والإنس والجن على أننا ننكر أخطاء الحكام والمحكومين، ولا يجوز لأحد أن يتبعهم على أخطائهم، فإنما الطاعة في المعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إلا أننا نتبع منهج السلف في كيفية الإنكار، والنظر في الحال والمآل. والله أعلم.
أخيرًا: أخي الكريم أبو لجين: أشكر لك اجتهادك وحرصك على طلب الحق، وتلطفك في بعض المواضع في ردك على الفتوى والموقعين عليها، وآمل أن نكون بهذا الحوار قد وضعنا لبنة صادقة في بناء التصحيح والبحث عن الحق بتجرد لله رب العالمين، وإن كان في كلامي شيء لا يعجبك فما أردت به إلا توصيف الحال بما يكون باعثًا لك على المراجعة والمزيد من البحث العلمي، والتأني فيما تنسبه لأخيك – والناصح محب وإن كان في أمر ثقيل على النفس- وإلا فآمل أن نرى منك ردودًا أكثر نضجًا، وأعمق فهمًا، وأكثر استدلالا، والله ولي التوفيق والسداد، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
دار الحديث بمأرب
2/6/1431هـ
([1] ) أخرجه البخاري برقم (2887) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه-.