بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد
فإن من نعم الله – عز وجل- على هذه الأمة أن أبقى فيها طائفة ظاهرة على الحق، تُعْرَف به وبها يُعْرَف، إن غضبتْ فمن أجله، وإنْ رضيتْ فلظهوره، وهذا مصداق لوعده عز وجل: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {الحجر:9} فمهما تطاول العهد بزمن النبوة المبارك؛ فلا يمكن لأحد أن ينسب للدين ما ليس منه؛ إلا ويهيئ الله رجالاً في الشرق أو في الغرب ليردوا هذا الباطل، فيجعلوا الأمر في نصابه، ويعيدوا السيف إلى جرابه، والهَدْي إلى صوابه، جعلنا الله وإياكم وذرياتنا منهم.
ومما عُرفت به هذه الطائفة المباركة عَبْر الأعصار والأمصار: أنها تعرض الدين القويم على الناس عرضًا وسَطًا لا نقص فيه ولا شطط، وترد على من خالفه بعلم متين، وفهم رصين، وأسلوب حكيم.
ونظرًا لتزاحم أشغالها، وتتعدد جبهات الآخرين عليها، وكثرة خصومها؛ فإنها تسير على منهج الأولويات، فتولي كل مسألة ما يليق بها – عصرًا ومصرًا- من الجهد والوقت، دون أن يطغى ذلك على حق آخر، أو يكون سببًا في تضييع واجب آخر، فتضع كل شيء في موضعه، وبقدره، وقدِّه، وحدّه، مع مراعاة الفرق بين زمن الاستخلاف وزمن الاستضعاف، أو القدرة والعجز.
فلما كثر التَّجَهُّمُ في خراسان في بعض الأزمنة: كان علماء السنة بخراسان أعلم الناس بالرد على هذه المقالة، وأصولها، وشبهاتها، ومواطن الخلل فيها، وكذا كان حالهم لما كثر القَدَرُ والنَّصْبُ بالبصرة والشام، والتشيعُ بالكوفة، وهذا إن دل فإنما يدل على أن العلماء لا يعيشون خارج هموم الأمة في عصورها الطويلة، وهذه سنة عملية يجب أن يفقهها الدعاة، فيهتم دعاة كل بلد بما يرونه هادمًا لصرح الحق، ويعطونه حقه في النظر والبيان، مع إجمال الكلام فيما لا حاجة مُلِحّة إلى تفصيله، لاسيما إذا كان تفصيله قد يفضي إلى خلاف وشقاق بين أبناء الحق أنفسهم، أو كان تفصيله على حساب ما هو أهم منه في البيان والتقرير، وهذا مَعْلَم مُهمٌّ في السيرة العلمية العملية لعلمائنا عبر التاريخ، وعَدَمُ أَخْذِهِ بضوابطه ربما كان سببًا في الإفراط أو التفريط، وكلاهما مَغْنَمٌ لشياطين الإنس والجن.
ومن الهموم التي تئط منها كواهل الدعاة اليوم: جهل جمهور الأمة بحقيقة دينها، وسوء فهم جمهور الخاصة لمعالم درْبها، وغطرسة خصومها، ووجود مَنْ هُمْ مِنْ جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ولكنهم – بعلْم أو بجهل- ينْخرون في عظام هذه الأمة وثوابتها وأصولها، ويسْلمونها ذليلة مهينة رخيصة لخصومها، ومن ذلك أيضًا ارتفاع رايات البدع والأهواء، و….و…الخ.
ومع هذا كله الذي يُثْقِلُ كواهل العاملين الصادقين؛ فقد نزل بالأمة خطْب مفجع، ومصاب جَلَل، وداهية دهياء: وهي انتشار مقالات الرافضة الإمامية الاثنى عشرية، التي منها ما ينسف أصول وجذور الدين نسْفًا، ويجتثه اجتثاثًا، ويصادم العقل الصريح؛ فكان لزامًا على طائفة الحق أن تُولي هذا الأمر اهتمامها، تحصينًا لأبناء السنة من هذا الزحف الجارف، وإرشادًا لمن انطلتْ عليه هذه المقالات، والتبس عليه أمرها من أبناء هذه الطائفة، فالدين النصيحة.
ولقد انبرى رجال غيورون لأداء هذا الواجب الشرعي فكتبوا الكتب والمقالات، والرسائل، وملأوا بها المكتبات والمواقع الإلكترونية، وسجلوا الكاسيت، ووضحوا وناظروا في الفضائيات، وحملوا على عاتقهم الكثير والكثير من هذا الحمل الثقيل، فجزاهم الله خيرًا، ونفع بهم، وهيّأ لهم أسباب القبول والتوفيق، والعز والنصر والتمكين.
ومشاركةً منا في “منتديات دار الحديث بمأرب” وتأييدًا لهذه الجهود المباركة؛ فقد رأينا فتح “منتدى الحوار العلمي مع الرافضة” راجين أن يكون منبرًا صادقًا، ولبنة صالحة في بناء السنة، وبابًا من أبواب الهدى، ودعمًا لما سبق من جهود ميمونة، والله أكرم مسؤول وأعظم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وأنصح نفسي وإخواني المشاركين بأفكارهم ومقالاتهم وأبحاثهم في هذا المنتدى أن يراعوا أدب الحوار العلمي، وإن كانوا مع الرافضة – على قُبْح كلماتهم، وافتراءاتهم- وذلك لأسباب:
1- أن الأصل في الحوار مع المخالف – مهما كان انحرافه- أن يكون الحوار هادفًا، قائمًا على أصول علمية: نقلية وعقلية متفق عليها، بعيدًا عن مجرد التهجُّم واللسع بالكلمات الجارحة، ويراد منه النفع للمتحاورين، ولمن يقف على حوارهما، ولا يتأتى ذلك إلا بلزوم منهج الأدب في الحوار، هذا مع علمي بجواز وربما استحباب أو وجوب الرد الشديد على بعض المنحرفين؛ لكن ليس ذلك هو الأصل، وليس هذا الأنسب لأحوال الكثير من أهل زماننا، ونحن تهمنا الفائدة لا مجرد إطلاق الأحكام.
2- أن غالب هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيمن أساء إليه: إظهار الحق له، وإزالة شبهته، وبيان مغبة أمره إن بقي على إعراضه وعناده، مع حرصه على هدايته: [فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا] {الكهف:6} لا مجرد إطلاق الأحكام عليه، وسبه، وتعييره، وقد قال تعالى: [وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] {العنكبوت:46} ومعلوم كيف كان قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحاور أهل مكة – على كفرهم وشركهم- وكيف كان يتلطف في دعوتهم، حتى لا يكون سببًا في هلاكهم ودخولهم النار، ولا يخفى كيف ناظر ابن عباس الخوارج، وكيف كان هذا المنهج سببًا في رجوع عدد كبير منهم، فحقنوا دماءهم ودماء غيرهم، وبعد ذلك فلا يهلك على الله إلا هالك، والله عز وجل يقول: [رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا] {الممتحنة:5} فكيف نكون فتنة لمن ينتسب إلى الإسلام وإن قال أو فعل أو اعتقد ما يناقضه؟ ولسنا في مقام الحكم على المعين، فلهذا موضع آخر، إنما يهمنا بيان حُكم القول الفلاني أو غيره، مع تقرير أدلة هذا الحكم نقلاً وعقلاً.
3- أننا في زمن يغلب فيه على كثير من الناس أنهم لا يعرفون حقيقة دعوة الرافضة، ولا يدركون موطأتهم مع اليهود والنصارى على أهل السنة، ومحاولة المجتمع الدولي إظهار أمرهم على أنه الإسلام الوسط، فالتبس أمرهم على الناس، وربما اغتروا بأساليبهم الدبلوماسية، وشعاراتهم السياسية البراقة، حتى أصبح كثير من أهل السنة يرى أنهم الذين يدافعون عن الإسلام وقضاياه دون غيرهم، فلا شك أن بسْط اللسان والقلم فيهم – ونحن في مقام الحوار وإظهار الحق والدفاع عنه فقط- يكون سبب فتنة لهؤلاء، وأيضًا فهناك قطاع كبير من الناس ينفرهم أسلوب إطلاق الأحكام على عواهنها، وانتقاء عبارات التجديع والتقريع، وإذا كنا نريد لهؤلاء الثبات على السنة، فلابد من لزوم الحوار العلمي القائم على مقابلة المقالة الفارغة بالحجة الدامغة، ومواجهة الأقاويل بالدليل، مع البسط في الأدلة النقلية والعقلية التي تنصر الحق وتدعمه.
4- هناك عدد كبير من أتباع هذه الطائفة لما ظهر لهم الحق أعلنوا عودتهم إليه، وبقي أمثالهم كثير وكثير، وإن لم يرجع كثير منهم عن كل شيء؛ فحنانيك بعض الشر أهون من بعض، ولاشك أن الأسلوب العلمي سيجد سبيله إلى قلوب هؤلاء، مما يجعلهم يدركون الفرق بين الحق والباطل، وإذا كان البحث العلمي القائم على الإنصاف في البحث، والتحقيق والتوثيق، أي المرجعية فيه إلى حِسٍّ ظاهر، أو نقل صحيح، أو عقل صريح، أو كما يقال: المرجعية فيه إلى نقْل مُصَدَّق، أو عِلْمٍ مُوَثَّق، ونَظَر مُحقَّق، وإلا فباطل مُزَوَّق، فإذا كان هذا الأسلوب العلمي لا يجد سبيلاً إلى قلوب هؤلاء؛ فما علينا أن تبرأ به ذمتنا، ونقول بعد ذلك: [فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ] {الجاثية:6}؟ إلا أن المجرَّب أن ذاك الأسلوب هو أقرب الطرق إلى القلوب، وإن كَابَرَ من كَابَرَ!!
5- أن الرافضة يُشنِّعون على أهل السنة عبر وسائل إعلامهم المدعومة عالميًّا بأن أهل السنة تكفيريون، ……الخ، ومعلوم أن أهل السنة أبعد الطوائف عن الغلو في التكفير، ولسنا في مقام بيان مذهب الاثنى عشرية في التكفير، الذين يكفِّرون الأمة بأسرها إلا من كان جعفريًّا!! إلا أنهم يستغلون كلمات عامة أو مطلقة لعالم ما، وأخرى غير محررة من طالب علم، ويطيرون بها في الآفاق، فيصدون بذلك الناس عن الاستماع والتدبر لما ينشره أهل السنة من براهين ساطعة، وأدلة قاطعة، فالمصلحة أيضًا تقتضي الحوار العلمي الذي تبرأ به الذمة، ومع ذلك فلن يقطع شغب المشغِّبين، إلا أن يشاء ربي شيئًا، ولكن [مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] {الأعراف:164} .
هذا، وأسأل الله للجميع التوفيق والسداد والعون والتأييد والله حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه/ أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
مـدير دار الحـديث بمـأرب
17/شوال/1431هـ