الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فإن منصب الإفتاء منصب عظيم القدر والخطر، ولذا فقد تولاه الله عز وجل بنفسه، فقال: [يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلَالَةِ] {النساء:176} وقد قام الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذا المنصب العظيم مدة حياته، مبلِّغًا عن الله تعالى، ومبيِّنًا لما أُنزل إليه، ثم قام به كبار الصحابة – رضي الله عنهم- ثم أئمة التابعين، والعلماء الربانيون، والأئمة الهداة المهتدون، فالمفتي مُوَقِّعٌ عن رب العالمين، وخليفة في هذا المنصب لرسوله الأمين.
ولا يشك أحد في حاجة المجتمعات المسلمة إلى العلماء الذين يعلمونهم دينهم، ويفتونهم فيما ينزل بهم، [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] {الأنفال:42} ولذا فقد أمر الله من لا يعلم بسؤال من يعلم، فقال تعالى: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {النحل:43} وأمر العلماء بإظهار الحق، وحَرَّم عليهم كتمانه، فقال تعالى: [وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ] {آل عمران:187} وقال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ] {البقرة:159} .
والإفتاء: هو “الإخبار بحكم الله تعالى باجتهاد عن دليل شرعي، لمن سأل عنه، في أمر نازل”، ويظهر من هذا التعريف أن الإفتاء لا يكون عن جهل، ولا عن تقليد أعمى، ولا عن هوى، ولا انتقام، أو تزلُّف.
وقد اشترط العلماء في المفتي شروطًا، منها: (الإسلام – والتكليف – والعدالة – وجودة القريحة – والاجتهاد) والثلاثة الأولى مُجْمَعٌ عليها، على خلاف يسير في الثالث، وبلوغ درجة الاجتهاد لا يكون إلا بالعلم بالكتاب والسنة وما يتعلق بهما من أحكام، أو بالتمكن من الوصول إلى ذلك، أي بالقدرة على البحث عن المسألة في مظانها، ويكون الاجتهاد أيضًا بالعلم باللغة، أي بالقدرة على معرفة وجوه استدلال العلماء باللغة ومفرداتها وأساليبها وقواعدها، مع القدرة على الترجيح عند الخلاف، وكذا يكون بالعلم بأصول الفقه وقواعده، ومعرفة استعمال كل قاعدة في موضعها، والعلم بمواضع الإجماع والنزاع، حتى لا يخالف إجماعًا ثابتًا، ولا يبلغ هذه المنزلة من كان غبيًّا بليدًا، بل لابد أن يكون جيد القريحة، وقَّاد الذِّهْن، كثير الإصابة.
وينبغي للمفتي أن تكون له نية صالحة في الدخول في هذا الباب، خبيرًا بأحوال الناس وواقعهم الذي ينزِّل عليه الفتيا، حليمًا متأنيًا غير متسرِّع في الحكم، ولا تستفزه أوائل الأمور وظواهرها، حتى يعلم أواخرها وحقيقتها، أي يكون ذا خبرة بالحال والمآل، وأن لا يكون جريئًا على الفتيا بما لا يعلم، أو بما هو متردد فيه، ويكل علم ما لا يعلمه إلى عالمه، فيقول: لا أدري، أو يحيل السائل إلى من هو أعلم منه، ورحم الله من قال:
فمن كان يَهْوَى أن يُـرى مُتَصَـدِّرًا **** ويـكْــرَهُ لا أدري أُصيـبــتْ مَقَاتِلُــهْ
والأسباب في اختلاف الفتيا كثيرة، منها ما يُعْذر فيه المفتي، ومنها ما لا يُعذر:
فمما يُعذر فيه:
أ- اعتماده على حديث ضعيف، وهو يظن صحته.
ب- اعتماده على قاعدة أو أصْل مرجوح، وهو يظن قوته، كأخذه ببعض صور القياس المرجوحة، أو توسعه في الاستحسان، والمصالح، والبراءة الأصلية.
ج- غياب دليل عنه بالكلية، ولو علمه لقال به، وعمل بمقتضاه.
د- وجود دليل أرجح مما اعتمد عليه من أدلة، وهو لا يدري به.
وقد أشار إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته اللطيفة “رفع الملام عن الأئمة الأعلام”.
ومما لا يُعذر فيه:
أ- تقحمه بالفتيا في مسائل مصيرية للأمة، تؤول إلى الخوض في الدماء، أو نزع الأمن والاستقرار، أو السلم والحرب، دون إحاطة بجميع الجوانب، أَوْ رد ذلك إلى كبار أهل العلم، كما قال تعالى: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ] {النساء:83} .
ب- انتصاره لقول ما لموافقته هواه، أو توجُّه حزبه، أو مذهبه، دون النظر في أدلة الآخرين.
ج- الرغبة في التصدُّر، وجذْب أنظار الناس إليه، والافتتان في ذلك بالفضائيات، ووسائل الإعلام الأخرى.
د- إرضاء مَنْ له يَدٌ عليه، أو مَنْ تُخْشَى سطوته بالفتيا.
أثر ذلك على الأمة: لاشك أن هذا الاضطراب في الفتيا إذا كان لأمور يُعذر فيها المفتون؛ فإنهم بين أجر وأجرين، ولا يضر ذلك الأمة إذا روعيتْ ضوابطه، ولازال تاريخ الأمة حافلاً بذلك، مع تماسك الأمة، ووجود قوتها وهيبتها، فإنه لا عيب في أصل الخلاف، نظرًا لتفاوت مدارك الناس، ومعارفهم، وقدراتهم، إنما العيب في عدم ترشيد الخلاف، أو التهارج والتراشق بالتُّهم والاستسلام لظن السوء.
لكن إذا كان هذا الاضطراب في الفتيا لأمور لا يُعذر فيها المفتون؛ فإنهم يُفْقدون بذلك الثقة في العلماء، ومكانتهم، وهذا يؤول إلى انقسام الناس إلى فرق وأحزاب، فمنهم من يقبل قول العالم الفلاني بعُجَرِه وبُجَرِه لأنه قد وافق هواه، ويبالغ في مدحه والثناء عليه، وفريق آخر يذمه، ويرميه بالبواقع، ويقبل من العالم الآخر كلامه كله، لموافقته هواه، وهذا سيفضي إلى إسقاط مكانة العلماء في النهاية، ومن ثم يعيش الناس حالة الفوضى الفكرية، والدينية، والسياسية، والاجتماعية، والأخلاقية، والاقتصادية، وهذه الفوضى الخلاقة التي يريدها أعداء الإسلام.
فالواجب على العلماء التحري، والتجرد، والحذر مما يدخل الناس في هذه المرحلة، وعليهم أن يسعوا إلى جمع كلمتهم، وأن يتجردوا من كل ما يؤول بهم إلى الولاءات الضيقة، والمسارات المقيَّدة، فإن المصاب في مكانتهم وجلالتهم مصابٌ جلل، والواجب على العامة حسن الظن بعلمائهم، وإن رأوا أن أحد العلماء أصاب والآخر أخطأ؛ فلا يتدخلوا في النيات والغيبيات، ويستغفروا الله لمن يرونه مخطئًا، ويسألونه سبحانه الهدى والسداد للجميع، وبهذا يلتئم الجُرح، ويُرْأبُ الصدع، والله أعلم.
(تنبيه): انظر كتاب “الفتيا ومناهج الإفتاء” د/ محمد بن سليمان الأشقر، فهو على صغر حجمه، عظيم الفائدة والقدر. وبالله التوفيق.
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
دار الحديث بمأرب
بتاريخ 9/4/1432هـ