مقابلة موقع يمن تودي نت مع الشيخ أبي الحسن حول الاحداث الجارية في اليمن
نسمع من يقول: إن أوضاع اليمن لا يمكن أن تصلح إلا بمثل التجربة التونسية، من ثورة شعبية على النظام الحاكم، وطرْد المفسدين من البلاد، وأولهم الرئيس، فهل توافقونهم على ذلك؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإن الله عز وجل يقول: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ولم يقل لقد كان لكم في تونس أسوة حسنة!! ومع ذلك فنحن ندعوا الله عز وجل أن يتم الأمور بخير للشعب التونسي وجميع الشعوب المسلمة، وأن يجنبهم مكائد أعداء الداخل والخارج التي تزيد من التضحيات والخسائر، وإلا فتونس لازالت على أعراف العافية أو الهلكة، والله أعلم ماذا يُحاك لها، وكيف تنتهي الطبْخة، والطباخون قد ازْدحَمَوا في المطبخ؟ ومع أنني لا أعلم أشرَّ من ابن علي على تونس؛ إلا أن المستقبل لازال مجهولاً، ورجائي في الله لتونس وشعبها أن يهيئ لهم من يحفظ لهم دينهم ويصلح لهم دنياهم.
وليس رفضي لتجربة تونس من باب الرضا بالفساد وبقاء ظلم الحكام؛ ولكن ذلك من خلال نظرة شرعية مأخوذة من السنة النبوية، وتاريخ الأمة الإسلامية، وذلك خشية أن يتطور الفساد، وتؤول الأمور إلى ما هو أشرّ، فابن علي نفسه قد جاءوا به ليزيل فساد الحبيب بورقيبة الذي قبله، فأفسد أكثر مما أفسد بورقيبة، والشعوب لا تدري ماذا ينتظرها من مؤامرات عليها، فإذا جاءت بعض الأمور أو الثورات فَلْتة، وانتهت بخير؛ فليس معنى ذلك أننا يجب علينا أن نكرر هذه الفَلْتة في كل بلد، لأن الظروف تختلف من بلد إلى آخر، والمنهج الإسلامي هو المنهج الوحيد المأمون في الوسيلة والغاية، على امتداد الأزمنة والأمكنة، واختلاف الأشخاص والجماعات والدول، بخلاف المناهج الأرضية، فالغالب عليها أنها لا تؤول إلى خير راجح أو خالص، وبعضها قد ينفع في حالة دون أخرى، لكن لا يُقاس عليه، وفرق في الفتوى بين ما إذا وَقَعَتِ الفتنةُ وعَمَّتِ الفوضى، فيضطر المفتي إلى اختيار أقل الأمور الموجودة شرًّا، وإن كان شرًّا في نفسه، وبين الإفتاء بالنزول في الشوارع للفوضى من أول الأمر، ودعوة الناس لذلك، وهم في بيوتهم وأعمالهم مستمرون، ففرْق في الفتوى بين حالة السعة والاختيار، وبين حالة الضيق والاضطرار.
هذا جواب مجمل، وإلا فإن الفارق كبير بين اليمن وحاكمها، وبين تونس وحاكمها، والمساواة بين الأمرين تعسُّفٌ في الحكم، وجَوْرٌ في القضية، وذلك لما يلي:
1- أن الحكومة اليمنية لم تحارب فطرة شعبها، ودينه، وأصالته – إلى حد كبير مقارنة بحكام تونس- وأكثر ما يظهر من الفساد فيها إنما هو فساد مالي وإداري، ولو قارنا هذا بما فعلته حكومة بورقيبة وابن علي في الشعب التونسي الكريم؛ لرأينا بوْنًا شاسعًا، وفرقًا واسعًا، حتى طمستْ حكومتهما كثيرًا من معالم الدين وأصوله.
2- أن الشعب اليمني يمارس عباداته في المساجد، واللقاءات العامة، والحشود الجماهيرية في المناسبات الدينية دون مضايقة من النظام اليمني، بخلاف المضايقات الكبيرة التي تَعَرَّض لها الشعب التونسي من أنظمته المتعاقبة، وقد سمعنا عن مضايقة ابن علي لمن يصلي الفجر من الشباب في المساجد، وكذا مضايقته للنساء في حجابهن، وغير ذلك من مضايقات في شعائر دينية بما لم نسمع به من معاملة اليهود والنصارى في بلادهم مع المسلمين.
3- أن العلماء والدعاة في اليمن لا زالت لهم حريتهم في الدعوة، وأنشطتهم الدعوية والتربوية لا يعترضها أحد، ويصرخون على المنابر أمام ألوف المصلين والحاضرين بما يعتقدون، وإن كان كثير منهم قد يناهض الدولة في هذه الأنشطة، ويطعن فيها، بخلاف العلماء في تونس: فقد حاربتهم تلك الأنظمة حربًا ضروسًا، فقُتِل مَنْ قُتِل، وسُجِن مَنْ سُجِن، وطُرِد مَنْ طُرِد، وإن كان من ذوي الاعتدال، بل مجرد دعوته إلى الفضيلة والدفاع عن القضايا الإسلامية يُعَرِّض فاعل ذلك إلى انتهاك حرماته، والاعتداء عليه، وأقل ذلك الطرد، فأين هذا من ذاك؟!
4- اليمن مليء بطلاب العلم، والمراكز الدعوية، ومساجده مكتظة بالمصلين، ومنابره مليئة بالمواعظ والأمور الدعوية والتربوية، وربما يستغل بعضهم ذلك استغلالا خاطئا، ومع ذلك فما سمعنا بتكميم الحكومة أفواه العلماء وطلاب العلم، بخلاف ما نسمعه عن مضايقات لكثير من الشباب والدعاة إلى الله، بل حتى المحافظين على الصلاة في تونس، وإني أخشى من زوال هذه النعم، عندما نتجاوز الحد في التغيير، هذا مع علمي بأن هناك منظمات خارجية وداخلية تضغط لتقليص هذا الظل، والله من ورائهم محيط.
5- اليمن يستقبل دعاة العالم الإسلامي، فيعقدون فيه المؤتمرات الدعوية والتربوية على مرأى ومَسْمَع من الحكومة اليمنية، ويتجوّلون في جميع المحافظات اليمنية ومساجدها دون حظْر أو تضييق، وبعض هذه المؤتمرات تتبناها الحكومة اليمنية بنفسها، وتكون برعاية أهل الاختصاص فيها، فأين هذا مما علم القاصي والداني عن مضايقة الحكومة التونسية لأبناء تونس، ومنعهم من إدخال أي كتاب، أو مطوية، أو نشرة علمية عبر منافذها البرية والبحرية والجوية، فضلاً عن منعهم إقامة أي معرض من معارض الكتب الدولية، تلك المعارض التي تقام في اليمن كل عام في عدة محافظات، فهل يستويان مثلاً؟!
6- مشايخ القبائل ووجهاء العشائر في اليمن لازالوا يتمتعون بالاحترام والدعم المادي والمعنوي من الحكومة اليمنية – ولو في الظاهر على الأقل- وأما حكومات تونس فقد أسقطت كل من يرفع رأسه: سواء كان عالمًا، أو ناشطًا سياسيًّا، أو كبيرًا في قومه، إلا من عافاه الله منها.
7- لازالت الحكومة في اليمن تسترضي القبائل، وتُحَكِّمهم وَفْق عاداتهم القبلية، مع كون بعضهم يفْسد في الأرض، من قطْع الطريق، والتخريب، والاختطاف، وقتْل الجنود وتحاول الحكومة حل هذه الأزمات في الغالب بوساطات قبلية، وإعطاء المفسدين طلباتهم في كثير من الحالات – وهذا التسامح الزائد عن الحد مما يُعاب على الحكومة في بعض الحالات- فأين من يُحَكِّم القبائل فيما أصيبوا به، ويسكت عما في الجنود من قتل وإصابات، بل يدفع المبالغ الطائلة للقبائل مع ذلك لإنهاء القضية، أين هذا ممن أباد وشرَّد كل من وقف أمام رأيه، وإن كان من زملائه في الدرْب؟ هل يستوون مثلاً؟
8- المعارضة الدينية والسياسية في تونس قابعة تحت أقبية السجون، أو لا ترى الشمس في زنازين تحت الأرض، أو قُتلوا ودُفنوا تحت التراب، ولا يَعرف أهلهم أين قبورهم!! أو هم هاربون في ظل اللجوء السياسي عند النصارى، أما المعارضة في اليمن فالكل يعلم كيف هي في مقراتها، وبرامجها، وصحفها، ومساجدها، حتى حصل من تجاوز الحد في ذلك ما لا يخفى، ويتكلمون بالصوت العالي الجهْوري، وقد يطالبون بما يرونه حقوقًا لهم بأسلوب قد يهدد بكارثة إنسانية في اليمن، عياذًا بالله من الفتن.
9- لقد سمعنا بمنع ابن علي حُجَّاج تونس جميعا من الحج في بعض الأعوام القريبة إمعانًا في حرب الدين، وإن كان ذلك تحت ستار صحي باسم انفلونزاء الخنازير، مع أنه لم يمنع الحشود الهادرة حول ملاعب الكرة، فأين هذا أو عُشْر معشاره في اليمن؟!
10- كما سمعنا أن الذين نزلوا في الشوارع، وطالبوا بإخراج ابن علي من البلاد قد قُتل منهم في بداية المسيرات 17 شخصًا فقط، لأنهم لا يملكون أسلحة نارية، ومع ذلك فقد أقاموا الدنيا ولم يُقْعِدوها بسبب قتْل هذا العدد اليسير بالنسبة لبلاد أخرى – وحُقَّ لهم هذا الاستنكار؛ فإن قَتْل المسلم من حاكم يحارب الله ودينه وشعبه جريمة كبرى- وإني لأسأل أي عاقل في اليمن: كم تتوقع عدد القتلى في اليمن لو وصلت هذه الفوضى إلى شوارعه، وطرقه، ومدنه، وانتشرت في القرى، والبوادي؟ لاسيما ونحن نعلم أن الشعب اليمني مُدَجَّجٌ بالأسلحة، وأن عند أفراد الشعب من الأسلحة ما يحارب الدولة سنوات، مما يزيد في أرقام الضحايا والخسائر، فهل من الدين والعقل: أن نجعل دماء الناس، وأنفسهم، وأموالهم، وأمنهم، وثروات البلاد، ومصالحها – على ما فيها من قصور وفساد- حقل تجارب؟ هل نحن بحاجة إلى أن نجرب الحروب والفوضى لنعرف هل هي نافعة أو ضارة؟ هل يكون عاقلاً من يقول: ننـزل إلى الشوارع، وكل ما يحصل من الفساد فهو أقل من الفساد الموجود؟ هل يعلم قائل هذا القول الغيب، ويدري بأن ما هو آت أقل مما هو حاصل؟ ليس معنى هذا أن اليمن لا فساد فيه، وأن الحكومة ليس فيها فساد، وليس معنى هذا أن الحاكم لم يتهاون في عقاب عدد من المفسدين، وليس هذا معناه: أن الحاكم قد أدى كل ما عليه أمام الله وأمام شعبه، وأن ذمته بريئة، كلا، فـ: “كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته” لكن ليس هكذا يكون العلاج للفساد، وليس هكذا يكون الدفاع عن مصالح الشعوب، وليست هكذا تكون الديمقراطية عند أهلها الذين أصبحوا قدوة لكثير من المسلمين!! فلماذا نقلدهم في الأمور السيئة، ولا نقلدهم في الأمور التي تحقن الدماء؟
فبأي عقل ودين نسوي بين الحكومتين، والنظامين، والحاكمين، من أجل أن ننقل التجربة التونسية – حتى لو نجحت هناك- إلى اليمن؟!
وإن هذا ليذكِّرني برجل سألني في بعض المحافظات عن هذا السؤال، فأجبتُ عليه بنحو من هذا الجواب، ثم سألته فقلت له: لو كان لك ابن من أبنائك لا يطيعك، فما ستفعل معه؟ قال: أنصحه، وآتي له بمن ينصحه، قلت: فإذا لم يستجب؟ قال: أطرده، قلت: فإذا طردته، فآوى إلى عصابة فساد وتخريب في الدين والأخلاق، وجَرَّ عليك من الشر مالا طاقة لك به، فهل أنت أحسنْت التصرف بطرده أم لا؟ قال: إذًا أقتله، قلت: ومع علمي بأنك لا تفعل، ولا يجوز لك أن تفعل؛ لأن فعله لا يستحق القتل، إلا أنني أقول: فرضْنا أنك أردت أن تقتله، فوجدته أقوى منك، فهو شاب، وأنت شيبة، ومعه أسلحة أقوى من سلاحك، فيُخشى أن يقتلك قبل أن تقتله، قال: أَجْمَعُ القبيلة لقتله، قلت: لو نادى هو فيمن هم على شاكلته من الأشرار، وكانوا مثل قبيلتك أو أكثر، واستعد الجميع للقتال، ماذا ستفعل؟ هل تصبر على فساد ابنك، وتسعى في إصلاحه مع الوقت، وتخلص في الدعاء له، أم سترضى بحرب القبيلتين، فيقع من الشر ما الله به عليم، ويكون هذا الشر أعظم من شر ابنك لو صبرت عليه، وإذا رضيت بخيار الحرب، فمع ما فيه من فساد، فهل انصلح ابنك بهذا، أم ازداد الشر؟! فسكت الرجل، ولم يستطع الجواب، وهذا إذا كان المخالف لك ابنك، فكيف إذا كان المخالف هو من يملك الجيوش والسلاح والمال؟ وهذا مثال لتقريب الفهم الصحيح إلى العقول التي عُبئت تعبئة خاطئة، حتى تعالج الأمور بأسلوب يعطل الشر أو يقلله ولا يزيده، وإلا فالفساد مرفوض من الراعي والرعية، والله المستعان.
إن الخروج على الحاكم والانقلاب عليه بما يُفضي إلى شر لا أول له ولا آخر ليس منهجا موافقا لمعتقد أهل السنة والجماعة، حتى وإن كان الحاكم جائرًا، ظالمًا، فاسدًا، مفسدًا، وإنما الواجب نصحه، ووعظه، وتخويفه بالله من عاقبة مخالفته للكتاب والسنة، وعدم محاربة الفساد والمفسدين، مع التعاون معه في الجوانب الصحيحة، التي تحافظ على ما بقي من أمن البلاد وإن كان قليلا، فالقليل أحسن من العدم،، وكذا التعاون معه على رد المظالم لأهلها، لأن الفوضى لا تقيم دينًا، ولا تُبْقي دنيا، ولأن أصحاب الفوضى لا الإسلام نصروا، ولا العدو كَسَروا، ومع ذلك يسعى المصلحون لإصلاح المجتمع، فأي مجتمع صالح يقظ لا يمتطي ظهره لإذلاله أحد، وعلينا أن نعتبر بالتاريخ، وأن نستمع الصوت العاقل، وأن نحذر من المماحكات الحزبية، وهذا كلام مُوَجَّهٌ إلى الحزب الحاكم، والمعارضة، والمستقلين، فالشعب كله في سفينة واحدة، فإن غرقت السفينة غرقت بالجميع، ولن يسلم أحد، وهناك متربصون يعكرون الماء ليصطادوا فيه، فإذا حصلت الفوضى؛
استطاعوا أن يمسكوا بزمام الأمور، ثم إن الفوضى في هذا الزمان تختلف عما كانت قبل:
– ففي زماننا قراصنةٌ وتُجَّار حروب عالميًّا وإقليميًّا ومحليًّا، فالشعب يتقاتل بينه البين، ويُهلك الحرث والنسل، ويدمِّر مصالحه بنفسه، والذين يشعلون فتيل الفتنة أو يطفئونه خارج البلاد، آمنون، مطمئنون، إن صلحت لهم الأمور دخلوا، وإلا فهم في منْأى عن لهيب الفتن، وغبار الطاحون.
فبأي عقل ودين نفسد ديننا ودنيانا لنقيم دنيا غيرنا؟ وبأي عقل ودين نكون مطايا الفتن والفوضى؟ وبأي حجة نلقى الله إذا كان عدد القتلى ملايين، وكان الجرحى والمعوقون أضعافهم، والنازحون والمهاجرون أضعاف أضعافهم، ونترك البلاد خرابًا يبابًا؟ وما هو جوابنا إذا لقينا رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقد خَلَفْناه في أمته بالشر والفتن؟
إن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قد صبر في محنته، وأمر الصحابة بعدم رفع السيوف في وَجْه المارقين؛ حتى لا يكون أول مَنْ خَلَف رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في أمته بالقتل، ونحن لا نبالي بحرمة الدماء والأموال والأعراض!!
إن علاج الفساد لا يكون بأفسد منه، وعلاج العَوَر لا يكون بالعَمَى، والسعيد مَنْ وعُظَ بغيره، وليس المقام الآن مقام قصائد شعرية تلهب المشاعر، ولا خُطب منبرية تخطف الألباب، أو بيانات سياسية تُغَلِّب النفاق على الصدق، أو لقاءات ومقالات صحفية تُرضي سفارة أو دولة أجنبية، وإنما المقام مقام أمانة في الأعناق، سيُسْأل عنها الراعي والرعية، وعلى كل أحد أن يُعِدَّ للسؤال بين يدي الله جوابًا، وللبلاء جلبابا، وأن يُدْرك أن التاريخ لن يرحم أحدًا، فَلْيُسَطِّر كل منا تاريخه اليوم بنفسه: هل هو مفتاح خير مغلاق شر أم العكس؟ وهل هو ممن يتبع الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ومنهجه في الفتن، ويحافظ على حرمة الدماء والأموال والأعراض، ويمسك يده ولسانه إلا من الخير والصلاح، ويصبر في نفسه على الأذى، أم يجعل مصلحته مقدمة على مقاصد الشريعة وثوابتها؟ وهل هو يعمل لصالح بلده، أم لتنفيذ مخططات خارجية؟ وهل هو ممن يعرف الفتن إذا أقبلت، فيسدَّ الذرائع أمامها، أم هو ممن لا يعرفها إلا إذا أكل فيها وشرب، وفاح نتنها، فعرفها كل الناس؟
لماذا لا يتبنى الشيخ أبو الحسن دعوة الشيخ الزنداني وغيره من العلماء لتهدئة الأمور في اليمن؟
العلماء قد أعدوا بيانًا ينادون فيه جميع الأطراف بتحكيم لجنة من العلماء وأهل الحل والعقد في البلاد في مسائل النزاع، وطالبوا الجميع بالتعقل، وعدم المخاطبة بلغة السلاح، وحثوا الآخرين بعدم التدخل في الشأن اليمني، وطالبوا بتنفيذ بعض الاتفاقيات بين الأطراف السياسية، حتى لا يَغْرقوا ولا يُغْرقوا المجتمع في بحر الدماء، وأن ذلك أخف الضررين، وإن كان في بعض الاتفاقيات ما لا يُرتضى، ونسأل الله أن ينفع بهذا، وأن يُصغي الجميع للصوت العاقل المشفق.
هل تقولون بأن الرئيس طاغية من الطواغيت، أو هو رئيس للأبد ولا تخطئونه؟
لا يجوز الإسراف في القول ولا المجاملة فيه، فإن الحكم على المرء شهادة عليه، والله عز وجل يقول: [سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ] والرئيس علي عبدالله صالح رجل مسلم، وفيه صفات حميدة، يعترف بها العدو المنصف فضلاً عن الصديق، ومع ذلك فإن عنده أخطاء ومخالفات نطالبه بأن يصلحها ما أمكن، فإن الله سائله عن ذلك، ولا نبرئه من المسؤولية عن كثير من صور الفساد التي يمارسها كثير من المسؤولين في البلاد، مستغلين مناصبهم وغياب المحاسبة والمراقبة لهم في تجاوزاتهم، لقوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته” نعم هناك مفسدون أصبحوا خارج السيطرة، لكن لماذا أُهملوا حتى صاروا إلى هذا المستوى؟ وقد تكون هناك أمور نعذره فيها للضغوط العالمية والداخلية عليه وعلى غيره، وكذا الظروف الإقليمية، لكن في الجملة إذا ما قورنت أخطاؤه بأخطاء كثير من الحكام الآخرين من العالم الإسلامي فهو أحسن بكثير من هؤلاء، وأي منصف يقول هذا، وعلى أهل اليمن أن يحمدوا الله على ذلك، ولينظروا في أخبار كثير من الحكام، ويقارنوا ذلك بما عليه الرئيس؛ فالفارق واسع في عدة نواحٍ، ولا يجوز بخس الناس أشياءهم ولا المجاملة لهم بالباطل، وكلمة العدل والإنصاف تجد طريقها إلى قلب العدو والصديق، وهذا الأسلوب الاستفزازي يزيد الطين بِلَّةً، والمريض وهَنًا وعِلَّة، ويعطي الفرصة للشياطين من الإنس والجن فيحولوا بين الرجل وبين قبول النصيحة والتغيير إلى الأصلح، فالواجب على الناس أن يحاولوا علاج أمورهم بأسلوب غير الاستفزاز، أو الجحود والبهتان، أو الفوضى.
هل ما يشهده اليمن الآن نتاج الحزبية التي فتحت الباب للفوضى؟
كل الذي نعاني منه هو من آثار البُعْد عن تحكيم شرع الله عز وجل أوَّلاً في كل أمورنا الظاهرة والباطنة، والحزبيةُ المقيتةُ والولاءاتُ الضيقةُ صورة من صُور هذه المخالفات، وهي مما جَلَب إلى بلاد الإسلام الخراب، وكان الواجب على المسلمين أن يكونوا أمة واحدة كما أمرهم الله تعالى، والواقع أن الديمقراطية في بلاد المسلمين ما يُطَبَّق منها إلا الجانب السلبي: من البغضاء، والجحود للآخر، والمكايدات، وإقصاء حُكم الله عز وجل عن الساحة، وتنحية الأخيار، أو التقليل من وجودهم، وتقريب الأشرار، أو تكثيرهم، والاهتمام بالمصلحة الشخصية، لقِصر مدة البقاء في المسؤولية، والقتل والقتال، وفساد ذات البين…الخ، أما محاسبة المسؤول إذا أخطأ، ومثوله أمام القضاء كغيره، وتقديم المصلحة العامة على مصلحة الشخص أو الحزب، ونزاهة القضاء، واحترام العهود والمواثيق النافعة …الخ، فهذا كله في بلادنا الإسلامية عبارة عن شعارات جوفاء إلا النادر جدًّا، وهذه معان يقرها الإسلام، لكن له أسلوبه الشرعي الخاص في تحقيقها، فما الفائدة من جلْب أنظمة لا يؤخذ منها إلا ما هو شر خالص أو راجح؟ ونحن أغنياء بديننا وبمنهج نبينا – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولسنا بحاجة إلى أنظمة الشرق أو الغرب، ولكن إذا ابتلينا بها فلنتعامل معها تعامل العقلاء المدركين لما يُراد بهم، أو يُكَاد لهم، ونتعامل معها معاملة من يسعى إلى تقليل الشر وتكثير الخير ما أمكن، وهذا كله إذا ما ابتلينا بها وفُرضَتْ علينا، وإلا فالهداية والنجاة والسعادة في الدنيا والآخرة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال تعالى: [وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ] ويقول تعالى: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى(126) ].
ما هو دور العلماء الآن؟
دور العلماء التوعية قبل وقوع المحنة، أما إذا وقعت الواقعة فلكل حادثة حديث، دورهم الأساس في الإرشاد بمنهج أهل السنة والجماعة، الذي هو صمام أمان للمجتمعات، والتاريخ شاهد على ذلك، ومن شك فيه فقد شك في تاريخ أمته، وهذا المنهج قائم على تحذيرهم من الحزبية المقيتة والولاءات الضيقة، وحثهم على تقديم المصلحة العامة على المصلحة الحزبية، ووعظهم بما جرى في الدول المحيطة في هذه السنوات القريبة فضلا عما قبلها من التاريخ.
وعلى سبيل المثال كم كان ظلم صدام حسين في شعبه؟ وماذا حدث للعراق من بعده؟ فمع كثرة القتل والقتال، والتفجيرات والتدمير في المساجد والأسواق والطرقات، والعودة بالبلاد إلى الوراء: كم يتمنى كثير منهم اليوم ليلة واحدة من ليالي صدام حسين على ظلمه آنذاك؟ ولذلك فقد قال عامة السلف: إن ليلة واحدة بلا سلطان، أشد من ستين سنة مع سلطان جائر، وذلك لأن تلك الليلة التي أظلمت على الناس بالفوضى يحدث فيها من القتل، والانتقام، والتصفية، والنهب، والسطو على الحرمات في ليلة واحدة أكثر مما يحدث في ستين سنة مع إمام ظالم، والتجربة تبين ذلك، وانظروا ماذا يجري الآن في مصر منذ يومين بسبب الفراغ الأمني: أناس ينادون بالتغيير، وآخرون يعتدون على البيوت، والمحلات، والبنوك، وكأنهم جراد منتشر، ما يحطّون على الحقول اليانعة إلا وتركوها جرداء مظلمة!! فمن المستفيد من هذا الدمار؟ ومن يضمن لنا لو استمر الحال في الفوضى أن تَسْلَم البلاد من كارثة إنسانية، ومجاعة، وحروب أهلية، ثم في النهاية الاحتلال المباشر من المتربصين للإسلام وأهله من الشرق كانوا أو من الغرب؟ فأين العقول، وأين الأحلام والنُّهى؟ وليس في هذا عند كل عاقل تسويغ للظلم والفساد الموجوديْن، ولكن لا يعالج الزكام بالجذام، وقديمًا قال القائل:
إن اللبيب إذا بدى في جسمه
مرضان مختلفان داوى الأكبرا
فمن دعا إلى الفوضى، وقال: لا بأس بالخروج على الحاكم، وقتْل عشرة آلاف أو أكثر من أجل مصلحة الشعب؛ لم يتبع كتاب الله تعالى ولا سنة نبيه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا منهج السلف الصالح، ولا عمل بمقتضى العقل الصريح، ولا النقل الصحيح، وسيلقى الله إن مات على ذلك بهذه الدماء في عنقه، ومن العجب أن من يهوِّن من إراقة الدماء لتحقيق مكتسبات ديمقراطية، ويتصدى للفتيا بجسارة في هذا الأمر الخطير ليسوا من علماء الشريعة الذين قال الله فيهم: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ] وقد كان عمر يُسْأل عن المسألة دون هذه المسائل بآلاف المرات، فيجمع لها أهل بدر، وهو المحدَّث الملْهَم، وما ذاك إلا لأن أمر العامة لا يستقل به حزب من الأحزاب دون الرجوع إلى أهل الحل والعقد في البلاد جميعها، لأن الشر سيعمُّ الجميع إذا لم ينهض العقلاء لنـزْع الفتنة.
إن أهل السنة قد حذروا من الحزبية المقيتة من أول يوم، لأنهم ينظرون إلى الأمور من خلال توجيهات قرآنية، وتعاليم نبوية، والإسلام يُحَرِّم هذا التفرق، فكان هناك من يقول: أهل السنة مغفَّلون، أو سطحيون، أو يعيشون في عالم آخر، أو لا يدركون ما يدور حولهم، لكن أثبتت الأيام والليالي أن الحزبية الضيقة والولاءات المتناحرة قد فَرَّقت كلمة الشعب اليمني، وأوغرت صدورهم على بعضهم البعض، وجعلتهم كما يُقال: كل فتاة بأبيها معجبة، فكل واحد همه أن يتعصب لحزبه بعُجَره وبُجَرِه، وينكر ما عند الآخرين وإن كان حقا، ويحرص على هدم ما يفعله الآخر وإن كان إنجازًا وخيرًا، وسيئات كل حزب هي حسنات الحزب الآخر، يطير بها كل مطار، ويدندن بها في المحافل العامة والخاصة، وبين أتباعه والمعجبين ببرامجه، وربما لم يكن مع بعض الأحزاب برنامج عملي لصالح المجتمع، إلا مجرد الوقوع على سقطات الآخرين، وهاهم اليوم قد زحف بعضهم على بعض، وأيقن الكثير منهم بالهلكة، والعقلاء يصرخون فيهم بتحكيم كتاب الله تعالى وسنة نبيه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في مسائل النزاع، وتحكيم العقل المجرد من الهوى، وقد أيقن أكثر الناس – إلا من بقي ملبَّسًا عليه- بأن الحزبية بهذه الصورة الموجودة في البلاد الإسلامية ما هي إلا دمار للبلاد وهلاك لها، فهل من عاقل؟ وهل من مُصْلِح؟ وهل من مُسْتَدْرِك للأمر قبل فوات الأوان؟
هل غيرت رأيك في الانتخابات؟
رأيي في الانتخابات لم يتغير من أول الأمر إلى الآن؛ لأنني أنظر إليها من جهة شرعية واقعية، وأنظر إليها من جهة إمكانية تحقيق المصالح وتعطيل الشر أو تقليله أم لا، وإلا فهي أسلوب غير إسلامي، ومفاسدها كثيرة، ولا أرى جوازها بوضعها الحالي إلا في بعض حالات نضطر إليها، فنحن نفرق بين حالة الاختيار وحالة الاضطرار، وقد أصبح هذا الأسلوب بلاءً على الجميع، وما بقي إلا النظر في إمكانية تحصيل الخير أو تقليل الشر من خلاله، وهو من هذه الناحية أمر اجتهادي، يسع المختلفين الخلافُ فيه، فحيثما أمكن تقليل الشر به فالقول بجوازه راجح أو متعين، وحيثما تعذَّر ذلك، فالقول بعدم جوازه متعين.
وتقدير هذا أو ذاك يكون بدراسة أهل الحل والعقد من العلماء والعقلاء والخبراء، فإذا ترجح أن مفسدة الانتخابات أكبر؛ كان الترك متعينًا، وإلا فلا، فموقفنا ليس الابتعاد التام، ولا الهرولة وراء هذا الأسلوب، وإنما لكل أمر حكمه ونظره .
هل هناك من يستطيع حُكْم اليمن غير علي عبدالله صالح؟
اليمن ليست عقيمة، وفيها من هو مثل الرئيس، ومن هو فوقه، ومن هو دونه، وحتى البديل الذي سيكون خلفًا للرئيس؛ ففي الشعب من هو مثله، ومن هو فوقه، ومن هو دونه، وليس هناك عاقل مُنْصف يقول: الذي أختاره لا يوجد أفضل منه، لكن من أصبح وليّ أمر البلاد، فيجب السمع والطاعة له في المعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وليس كلما وجدنا أفضل منه قلنا له: انْزِلْ أو ارحل فقد وجدنا أفضل منك!! لأنه سيأتي آخرون، ويقولون لمن اختاره غيرهم: انزل أو ارحل فقد وجدنا أفضل منك، ونحن لم نرض بك من البداية!! وهكذا تكون الفوضى، فالمطلوب من المعارضة أن تسلك السُبل الشرعية في العلاج والتغيير، فإن الواقع الموجود الآن من جميع الأحزاب لا هو عمل بالكتاب والسنة، ولا هو عمل بالديمقراطية، فليس في الديمقراطية – عند أهلها- أن تكون الفوضى العارمة التي تعم البلاد هي البديل إذا لم يقبل الحاكم النصحية، أو إذا بدَّل أو غيَّر في بعض صورها.
هذا، والمطلوب من الرئيس وحزبه أن ينصاعوا لأي مطلب من مطالب الحق، فيه الحفاظ على مكاسب الأمة، وتجنيب البلاد الفتن، وإن تنازلوا عن شيء لذلك فإنه سيُكتب لهم في ميزانهم، ويرتفع شأنهم بذلك عند الله ثم عند خلْقه، بل عند خصومهم، أما المكايدات الحزبية، وإصرار كل من الطرفين على الوقوف في مربع إغفال المصلحة العامة، والعواقب الوخيمة، وتصفية الحسابات الحزبية؛ فكل هذا سيُفضي إلى كارثة لا يرحم التاريخ أطرافها.
المُشْتَرك يقول: إنه قادر على حُكْم اليمن، ما تعليقك؟
لاشك أنه يوجد في المشترك رجال يستطيعون أن يحكموا اليمن، وكذا في المستقلين، وفي الشعب من يستطيع أن يحكم اليمن أيضًا، وليس هو في حزب من الأحزاب أصلاً، بل ربما ما دخل في العملية السياسية لا من قريب ولا من بعيد، لكن البحث ليس في إمكانية وجود من هو قادر على حُكم البلاد أم لا، إنما البحث في كيفية تمكين هذا القادر في إدارة الأمور، في ظل هذه الظروف المتوترة: فالشريعة الإسلامية لها طرقها المشهورة في ذلك، لكن أهل زماننا – إلا من رحم الله- أصبحوا لا يرفعون بذلك رأسًا، وهم ما يضرون بذلك إلا أنفسهم، وإني لأخشى أن يستبدلنا الله بقوم آخرين [وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] وأما الديمقراطية فقائمة على التداول السلمي للسلطة، وسبيلهم الوحيد في ذلك هو: الاحتكام إلى الصناديق، والتداول السلمي لا يُعرف له حقيقة في البلاد الإسلامية، إلا النادر جدًّا، ولذا فدائمًا نسمع الأحزاب التي بيدها الحكم تصف الانتخابات بالنزاهة والشفافية، وإن بلغت نسبة النجاح 99.9% !! والمعارضة تتهمها بالتزوير والخروقات، ومع أن التلاعب قد يقع من الجميع إلا أن أكثر النتائج – حسب علمي- لا تعبِّر تعبيرًا صادقًا عن واقع المشاركين في هذا الشأن.
والذي يظهر لكثير من الناس: أن المشترك عبارة عن مجموع عدة أحزاب مختلفة في برامجها، وكثير من الناس يرى أن أكبر أسباب اتحاد المشترك هو وجود الرئيس علي عبدالله صالح، فهذه الأحزاب برامجها مختلفة، وقد اتفقت كلمتها ومطالبها على إبعاد الرئيس علي عبدالله صالح، وتَحَالُفٌ يقوم على هذا الأساس لا تُؤْمَن عواقبه ونتائجه، فليس اجتماع هذه الأحزاب لائتلاف برامجها، ولكن لاتفاقها في بعض من الأمور، من أهمها معارضة الحزب الحاكم، فمن يضمن لنا إذا تمكنت عدم انقسامها على نفسها، وتناحرها ومكايداتها لبعضها، والاستعانة بالأجنبي على بعضها إذا ذهب من اجتمعوا بسبب وجوده؟ وفي النهاية نحن نتمنى للبلاد السلامة من الفتن، وإلا فالجميع الحاكم والمحكوم – للأسف- يصرح بأنهم لا يريدون إلا ترسيخ الديمقراطية، لا ترسيخ الحكم الشرعي، وهذه آبدة الأوابد، ومع علمي بالضغوط المحلية والعالمية، لكن التقهقر عن أمر عظيم في الدين بهذا الحجم والقدر إلى هذا الحد نوع من الحَوْر بعد الكور، والتنازل اللامعقول.
أنتم السلفيون تتمنون أن يحكم المنهج الذي تَدْعُون إليه؟
نعم، ومن أصول الدعوة السلفية أن تُحْكَم البلاد والعالم كله بكتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال تعالى: [أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ] وقال سبحانه: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ] وقال عز وجل: [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] فتحكيم منهج الله هو الذي يهمنا، ولا يهمنا أن نكون نحن الحكام، إنما يهمنا أن يُحْكم عباد الله بمنهج الله خالقهم ومولاهم، فنحن لا يهمنا من يحْكم، ولكن يهمنا بماذا يحكم؟!
ما هو برنامجكم العملي في ذلك؟
برنامجنا مأخوذ من الكتاب والسنة ومنهج الأئمة، ويقوم على عدة ركائز:
أولاً: إصلاح النفس أولاً، ثم إصلاح الآخرين والمجتمع، وهذا معناه: تربية النفس والمجتمع على الإخلاص لله عز وجل، والمتابعة لرسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- والتجرد من الهوى، والأطماع العاجلة الفانية، والعادات الجاهلية، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة، والسير على قواعد الدين وثوابته.
ثانيا: بناء مجتمع الدولة قبل إيجاد دولة المجتمع، وهذا هو المناسب لظروفنا التي تمر بها أمتنا اليوم، وإلا فقد يكون السعي في الأمرين جميعًا هو المتعين، وقد يكون بناء المجتمع بعد وجود الدولة لا قبلها، كما حصل في الفتوحات الإسلامية، فقد كانوا يفتحون البلد، ويحكمونها بالمنهج الإسلامي، وأهلها غالبهم ليسوا مسلمين، ثم يدخلون في الدين بعد ذلك شيئًا فشيئًا، أما ظروف أمتنا اليوم فالمناسب لها الأمر الأول، ولأن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قد عُرِض عليه في بداية الدعوة أن يكون الحاكم في قريش، ويعقدوا له ألويتهم، فلا يقطعوا في أمر دونه، لكنه أبى ذلك، لأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعلم أن المجتمع غير مهيأ لقبول تعليماته، ولأنه سيختلف مع أقرب الناس إليه إذا أمرهم بخلاف عاداتهم، ولأن أتباعه ستتنازعهم أهواؤهم والجاهلية فيفتك بعضهم ببعض، كل هذا جعل النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يصبر على الدعوة والتربية، حتى هيأ مجتمعًا يقبل دعوته، فلما نزل الأمر بالحجاب في آخر الليل؛ جاء النساء الفجر وهن محجبات، دون تلعثم أو حنين لجاهلية، ولما نزل تحريم الخمر؛ ردَّ بعضهم كأس الخمر من على فيه، ورمى بالجرار والأواني التي ينتبذون فيها الخمر في الشوارع، ولما شُرِعت الهجرة، تركوا أوطانهم، ورضوا بالغُرْبة في الحبشة والمدينة من أجل الدين، ولما شُرع الجهاد لم يكن همهم جمع الغنائم، أو الانتقام لقبائلهم، بل كانوا يوالون أهل دينهم، وإن كانوا من أعدائهم في الجاهلية، ويتبرأون ممن صدّ عن دين الله، وإن كانوا آباءهم، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم، فالواجب أولاً تربية المجتمع على الامتثال لحكم الله ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قبل أن تُفرض عليهم هذه الأحكام بالسيف، فينشأ فيهم النفاق، والعياذ بالله، هذا، مع عدم إغفال كل ما يصلح للعباد في دنياهم، فإن ديننا منهج لعمارة الدنيا، والسعادة في الدارين.
وليس معنى ذلك: أن نقول: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فلله عز وجل الأمر كله من قبل ومن بعد، بل نسعى بقدر استطاعتنا إلى تحكيم شرع الله وترسيخه، ونسلك كل طريق يوصلنا إلى ذلك، وما عجزنا عنه فلن يطالبنا الله به، لكن هذا الأمر يحتاج إلى وقت طويل، وجهاد تربوي شاق، أما أن يقال: نحن ندعوا إلى الدولة المدنية لا الإسلامية، أو ندعوا إلى ترسيخ الديمقراطية لا الشريعة الإسلامية، أو أن الولاء والبراء من أجل العقيدة وأحكامها المفصّلة أصبح نسيًا منسيًّا، وإنما كان هذا في فترة من الفترات من القرون الخالية …..إلى غير ذلك من التنازلات؛ فهذا مما يصادم الدين، وإن كانت نوايا بعض من يقول ذلك حسنة، وسرائرهم منطوية على حب الإسلام وعقيدته، إلا أن هذا الطرْح المجرد من القيود والضوابط، سيربِّي رجالاً ونساءً يسيرون بلا قيود.
ثالثًا: لا يهمنا أن نحكم نحن، وإنما يهمنا أن يكون الحكم بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ونطيع من يحكمنا بذلك، وإن كان عبدا حبشيًّا، كأن رأسه زبيبة، فإن كان عدلاً؛ كنا معه على كل حال، وإن خلط عملا صالحًا وآخر سيئًا؛ أطعناه في الصالح دون الفاسد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، مع نصحه بالتي هي أحسن.
رابعًا: نعلم أننا في زمن لا نستطيع أن نحقق فيه – بوضعنا الحالي- كل ما نعلمه من ديننا، وإذا كان كذلك فعند تزاحم المصالح والمفاسد: ننظر إلى خير الخيرين فنتبعه، وإلى شر الشرين فنجتنبه، ونقيم علاقاتنا مع الدول والشعوب المسلمة وغيرها على هذا الأساس، مع السعي لنشر التوحيد والاتباع، وتربية الأجيال على ذلك، ونشْر قواعد الدين، وثوابته، وأحكامه، ونفرّق بين الأصول والفروع، والثوابت والمتغيرات، وندرك أن التعامل مع العالم يقوم على المصالح المشتركة، ولنا نظرتنا في المتغيرات والمستجدات، فلسنا ممن يشكك في كل جديد، ولا ممن ينخدع وينبهر بكل جديد، بل نُرْجع ذلك إلى قواعد علمية أصيلة، فكل ما خالف نصًّا شرعيًّا محكمًا؛ فمردود وإن تشدق به المتشدقون، وكل ما سكت عنه الشرع، وكان فيه مصلحة – بتقدير أهل العلم والخبرة- فمقبول، فضلاً عما وافق الشرع.
فنحن بهذا البرنامج نستطيع أن نقول: السياسة الشرعية أصل أصيل في ديننا، وقد حُكم بها كل ما طلعت عليه الشمس وغربت، وقد كانت دولة الإسلام لا تغيب عنها الشمس، وكانت لا تُحكم إلا بالكتاب والسنة في الجملة، على قصور في بعض الحكام، ونحن نسعى إلى أن يُحكم العالم كله بهذا المنهج، ونسلك في سبيل ذلك منهج الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، فلا نرى ظُلم كافر فضلاً عن مسلم، وندعوا إلى الحفاظ على ما بقي من خير في المجتمعات، ونور فيه ظُلْمة؛ خيرٌ من ظُلْمة لا نور فيها، ونتصدى للأفكار المنحرفة إفراطًا وتفريطًا، ونفنِّد الشبهات التي يُشغِّب بها الحاقدون من غيرنا والجاهلون من أبناء ملتنا بالأسلوب العلمي الهادئ، والحوارات القائمة على العقل الصريح والنقل الصحيح، ونحذِّر من المنكرات والمعاصي والجرائم التي حرمها ديننا، كل شيء حسب رتبته الشرعية، لا حسب ما تريده المنظمات الدولية، ونقبل من النظم والهيئات العالمية ما لا يتعارض مع ديننا وثوابتنا، ونضبط منهج الولاء والبراء، فلا طيش ولا ذوبان، ونربط الخلف بقواعد وأصول السلف، ونؤكد بأن الجهاد الشرعي من ديننا، لكن له ضوابط وقيود قد بينها العلماء، وهي بخلاف ما عليه كثير من تصرفات الشباب الشاذة، وأعظم جهاد في هذا العصر جهاد البيان والكلمة، والذب عن الدين وأحكامه وأهله، أما السياسة القائمة على الكذب والخداع، والمكايدات، والنفاق فنبرأ إلى الله منها، وإذا ابتلينا بشيء منها حاولنا من خلالها أن نقلل الشر ما أمكن، والله أعلم.
هناك من يرى أن موقفكم هذا لا يستفيد منه إلا الحكام الظلمة، فما هو تعليقكم؟
هذا موقف شرعي، مأخوذ من أدلة شرعية، وقواعد علمية، ووقائع تاريخية، وليس همنا في نشر هذا الموقف أن ينتفع به حاكم بعينه وإن كان عادلاً، فضلاً عما إذا كان ظالمًا، إنما همنا من وراء ذلك: الحفاظ على أصول أهل السنة وثوابتهم، والحفاظ على ما بقي من خير في المجتمعات، وتفويت الفرصة على الحاقدين والمتربصين، والحفاظ على مقاصد الشريعة: من اجتماع الكلمة، وسلامة الدماء، والأموال، والأعراض، ولا يخفى أثر تفرق الأمة على وهنها وفشلها، ثم إن هذا موقفنا مع الحاكم الحالي، وأي حاكم مسلم يتولى الأمر، ويخضع الناس له، فموقفنا شرعي، وليس موقفًا حزبيًّا، فلسنا في أي حزب من هذه الأحزاب، وليس موقفًا شخصيًّا؛ لأننا لا نأخذ من أي شخص لا كثيرًا ولا قليلاً، فموقفنا عن قناعة علمية، ووازع ديني، لا رغبة ولا رهبة، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أما من لم يعجبه هذا الموقف الشرعي لإتباعه هواه، أو لتأويله الخاطئ، فإنه لاشك سيرمي مخالفه بكل حَجَرٍ ومَدَر، لكن الحق أحق أن يُتَّبع، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!
هل من رسائل توجهونها؟
نعم، رسالتي إلى الأخ الرئيس: أن يسعى – كما اشْتُهِر به- ما استطاع إلى تجنيب البلاد ويلات الفتن، وأن يفوِّت الفرصة على الحاقدين والمتربصين في الداخل والخارج، فيقبل من الآراء ما يضمن مسيرة البلاد نحو الأمن والاستقرار، وأن يُحَكِّم شرع الله ظاهرًا وباطنًا في هذه الأزمة وغيرها، وجميع شؤون البلاد، فما أصاب البلاد ما أصابها إلا بسبب غياب وتغييب شريعة الله، وأنصحه بزيادة مرتبات القوات المسلحة، والأمن، والموظفين المدنيين في جميع أنحاء الجمهورية، زيادة سخيَّة، يخفف بها المعاناة عن الشعب، وما يُنفق في هذا الباب أنفع وأفضل مما سيُنفق في مكافحة الفوضى وأعمال الشغب.
ورسالتي إلى حزب المؤتمر: أن يدركوا أن العزة بالله عز وجل، والاتباع لرسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فعليهم أن يحافظوا أولاً في أنفسهم، ثم في الشعب على الدين، وثوابته، وأحكامه، وأن يُصَفُّوا صفوفهم من كُسَيْر، وعُوَيْر، وثالثٍ ما فيه خير، وأن يصححوا من مسيرتهم السابقة، وأن يعلموا أن الفساد قد شوَّه سمعتهم حتى عند من يدافعون عنهم، ومع علمي بوجود كثيرين من الصالحين وذوي الخير والشهامة بينهم، وكثيرين ممن يعملون لمصلحة البلاد؛ إلا أن الفساد شوَّه الصورة إلى حد كبير، فيجب عليهم أن يقفوا في وجْه من يسعى لتشويههم، ومن تاب تاب الله عليه.
ورسالتي إلى المعارضة: أن يتقوا الله بتحكيم شرعه في هذه الأزمة وغيرها، وأن يحرصوا على تجنيب البلاد الكوارث الإنسانية، والحروب الأهلية، وأن لا يجعلوا حرصهم على الوصول إلى الحكم غاية، إنما الوصول إلى الحكم وسيلة، وهو وسيلة لحفظ الأمن، وأرواح الناس، وسلامة دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، فإذا كان الوصول إليه لا يكون إلا بهدم مقاصد الشريعة وهذه الغايات العظمى، وكذا لا يكون إلا بانتشار الفوضى والنهب والسطو؛ فلا يجوز استمرارهم في تأجيج الشارع، وهم والحزب الحاكم مسؤولون أمام الله، ثم أمام الشعب، والتاريخ، وهل يجوز لهم دعوة الناس للزحف لما يُسمى بانتـزاع الحقوق، من أجل أن يحكموا بالديمقراطية كما يصرحون؟! أين المنهج النبوي في الصبر على الجور إذا عجزنا عن التغيير بالنصح، مع تربية المجتمع على الجادة، والله عز وجل يقول: [إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] ولم يقل: حتى يغيروا حكامهم!!
ورسالتي إلى الشعب اليمني: أن يتذكر حديث رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفقه يمان” وإذا لم يتعاملوا مع هذه الأحداث الموجودة بالحكمة اليمانية؛ فمتى سيتعاملون بها؟ ومن صور الحكمة عدم قبول أي دعوة تدعوكم إلى الفوضى، وإراقة بعضكم دماء بعض، فكلها دماء مسلمة، وأنفس معصومة، وعليكم أن تحافظوا على الهامش الأمني الموجود، وقليل من الأمن خير من الفوضى، وشعب بلا حكومة – بسبب الحروب الطائفية- شعب بلا كرامة، واعتبروا بما يجري الآن في مصر، فأنتم الذين ستُقتلون، وأنتم الذين ستُنهب محلاتكم، وأنتم الذين سيعتدي البلطجية على محارمكم، وأنتم الذين ستتـركون مساكنكم وتهاجرون إلى البوادي والصحاري، فتعانون ويعاني أولادكم من المجاعة، والوباء، وأنتم الذين ستتوقف مصالحكم وخدماتكم المدنية، وأنتم الذين ستجف مزارعكم، وتخرب أسواقكم، وتقطع طرقكم، وأنتم الذين ستدفعون الثمن أضعافًا مضاعفة في إعادة ما خربتموه بأيديكم، أو خربه المتربصون بكم، إذا انفلت الزمام، وربما يكون المستفيدون في النهاية سالمين من كل هذه المحن والفتن.
فأنتم يا أهل اليمن أحسن حالاً من شعوب أخرى، وحكامكم – على ما عندهم- أخف شرًّا من حكام آخرين، فحافظوا على هذه النعم، وطالبوا بباقي حقوقكم دون فوضى وانفلات أمني عام.
ورسالتي إلى وسائل الإعلام: أن يقوموا بمهمتهم، مراعين مصلحة وسلامة المجتمع، وأن يكونوا مرآة صادقة للمجتمع، وأن يحذروا في تحليلاتهم وبرامجهم ومقالاتهم من أي أسلوب يُشعل الفتنة، وأن يُدركوا أن كل إنسان مسؤول بين يدي الله عن أقواله، وأفعاله، وأحواله.
ورسالتي إلى العلماء والدعاة: أن يقوموا بواجبهم مقامًا يبرئ ذمتهم أمام الله، ثم أمام الشعب والتاريخ، وأن يتداعوا للاجتماع، والكلام مع أطراف الأزمة، وأن ينادوا في المخلصين من الشعب ليقفوا ورائهم؛ يحجزوا الناس عن الفتنة، وأن يتخلى كل منهم عن أي ولاء ضيق لحزب حاكم أو معارضة، فالعلماء علماء الأمة والشعب، لا مجرد علماء حزب، ولا يجوز اختصار الأمة في حزب أو أكثر، وعليهم أن ينـزلوا هم والدعاة وطلاب العلم إلى المساجد، لبيان الحكم الشرعي للناس في هذه الأزمة التي خيّمت على البلاد بظلامها، وليأخذوا بنواصيهم نحو السلامة من الكوارث، وألا ييأسوا من العلاج والعافية، فنحن لو صدقنا الله عز وجل؛ ذلَّل الله القلوب والنواصي لنا، وإلا فـ: [مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ].
هذا: وأسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يدفع عن بلادهم كل سوء ومكروه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
22/ صفر / 1432هـ