مقابلات ولقاءات

لقاء مع الشيخ أبي الحسن السليماني وفقه الله حول الأوضاع الراهنة على الساحتين: العربية واليمنية

 لقاء مع الشيخ أبي الحسن السليماني وفقه الله حول الأوضاع الراهنة على الساحتين: العربية واليمنية

ـ فضيلة الشيخ أبي الحسن: كيف تقرأ ما يحدث على الساحة العربية حاليا من أحداث؟

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
ما يحدث على الساحة العربية هذه الأيام إنما هو نتيجة الإعراض عن تحكيم شرع الله – عز وجل- في جميع شؤون الحياة، وذلك كما قال تعالى: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى(126) ] وكما قال عز وجل: [ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] ولو أذاقنا كل ما عملناه ما ترك على ظهرها من دابة، وعدم تحكيم شرع الله قد أفرز الظلم، والاستبداد، وإذلال الشعوب المسلمة، فآل بهم الكبْت، وتكميم الأفواه، والإهمال لهم ولمصالح دينهم ودنياهم، وغير ذلك من أسباب إلى هذه الأحداث التي نشاهدها على

الساحة العربية – علمًا بأن درجات هذه الأسباب تختلف من بلد إلى آخر، ومن حاكم إلى آخر- ولو كان عند أكثر هؤلاء الحكام مشروع تربوي، ديني، عصْري، يجمع في تربية الأجيال بين التمسك بثوابت الدين، والاستفادة من كل المستجدات التقنية، والإدارية، والتنظيمية؛ لكان الوقت الذي قَضَوْه في الحكم كافيًا لهم في إخراج أجيال تعرف حق الله، وحقهم، وحق أمتهم في عاجلها وآجلها، لكننا نشكوا إلى الله هذا التفريط الذي أفضى إلى جعْل منطقتنا منطقة حروب وقلاقل، مما يؤثر تأثيرًا سيئًا على أمتنا في جميع شؤونها الدينية والدنيوية، والناس إذا لم تشْغلهم بالحق، شغلوك بالحق وبالباطل.
ولا يلزم من ذلك إقرار جميع مطالب الجماهير، والوسائل التي يتخذونها لذلك، فما كان من هذه المطالب والوسائل لرفع الظلم، أو إقامة عدل، أو محاربة فساد ومُفْسد… ونحو ذلك؛ فهو حق، يجب أن تُعان على الوصول إليه، وما كان منها لإبعاد الدين عن مناط الولاء والبراء، أو لرفض تحكيمٍ لشرع الله، أو لتمرير شيء يخالف الدين، أو كان بوسيلة فسادها أعظم من نفعها؛ فهو مردود، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ومع هذا كله: فإنني أتوقع لما حدث في مصر وتونس تحقيق كثير من الأهداف المحمودة، وتحسُّنًا في عدة نواح، واقترابًا في عدة مواضع من الخير الذي يأمر به ديننا، وما يؤول إلى تحسين أوضاعنا، ولابد أن يصاحب ذلك بعض المفاسد، والعبرة بالمجموع لا بآحاد المسائل، وأسأل الله عز وجل أن يتحقق رجاؤنا في أن يتبدل الحال من السيئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن، وأن يحفظ شعوب منطقتنا في حاضرها ومستقبلها من المؤامرات والمكايدات الدولية والمحلية.

ـ يذهب البعض إلى أن ما يحصل حاليا على الساحة نوع من التغيير الداخلي لطبيعة الحياة السياسية التي أسِنَتْ بعد طول ركود، فيما يرى آخرون أن هذه الأحداث مرتبطة بأجندات وإملاءات خارجية.. ما ذا ترى؟ وهل تعتبر ما يحدث الآن خروجا على الحاكم؟
جوابًا على الشق الأول من السؤال: لسْتُ مع من يُصنِّف كل من في هذه المسيرات، وجميع طوائفها بأنهم يُنفِّذون أجندات خارجية أو أجنبية، وإن كان بعضهم قد يكون كذلك، أو قد يصُبُّ هذا العمل في بعض الحالات في مصلحة أولئك، عَلِمَ المتظاهرون بذلك أم لم يعلموا، وقد يكون فيهم من له أغراض حزبية ضيّقة، إلا أن الشيء البارز والملموس أن أكثر هؤلاء ما أخرجهم إلا ما يعانون من ظلم، وتردٍّ في الأوضاع الاقتصادية، وتكميم لأفواههم، وتغطرس عليهم – على اختلاف مراتب هذه الأمور من بلد إلى بلد آخر- وقد يتظاهر بعضهم ببعض هذه الأسباب، ويُخفي مقاصد سياسية، ومماحكات حزبية، لكن أكثر الناس يندفعون مما سبق من أسباب.
ومن جهة تنفيذ الأجندات الخارجية: فإنني أرى بعض الناس قد يكون كذلك، لكن الحكام أكثر الناس تنفيذًا لها وإعجابًا بها – إلا من رحم الله- عبر عقود من الزمان، سواء كان ذلك بزعم التقدم والحضارة لشعوبهم، أو تحت ضغوط عالمية خفية، بخلاف الكثير من أبناء الشعوب: فإنهم أكثر إلتصاقًا بدينهم – على ما عندهم من جهل وتفريط واغترار بالغزو الفكري- فرَمْي جميع طبقات الشعب المعترضة على كثير أو قليل من الأوضاع السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية بذلك، دون تفصيل بين طوائفهم، ودون اتهام النفْس بالتقصير في حق الله وحق الشعوب؛ من باب المثل العربي القديم: رَمَتْني بدائها وانْسلَّتْ.
وجوابًا على الشق الثاني من السؤال: فإن المظاهرات والمسيرات السلمية مسألة موضع اجتهاد بين العلماء، فمنهم من يرى منعها مطلقًا، وهم جماعة من أكابر علماء العصر، ومنهم من يجعلها من الجهاد الذي قد يصل إلى درجة الواجبات الكبرى، ومنهم من يُفصِّل، ولي دراسة موسَّعة في ذلك سأوضح فيها لاحقًا رأيي بجلاء، وكل هذا يجعلها من المسائل الاجتهادية التي يُنظر فيها إلى المآل، وتوزن بميزان تزاحم المصالح والمفاسد، وهل روعيت ضوابطها وشروطها أم لا؟ لكن مع هذا كله فلا أراها خروجًا إذا روعيت ضوابطها الشرعية المفصلة في غير هذا الموضع، لاسيما ووليّ الأمر نفسه يسمح بها حسب الدستور الديمقراطي، الذي رضي به المتظاهِر والمتظاهَر عليه، فهذه شبهة مانعة من الحكم على فاعلها بالخروج على الولاة، فإذا لم تتوافر الضوابط الشرعية فهي مخالفة للشرع لا تجوز.

ـ فيما بين حديث “اسمع وأطع” لولي الأمر وحديث “أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر” ضاعت بوصلة التوازن، فخرجت بعض الجماعات بلا ضوابط، وخنعت أخرى بلا حدود.. ما الذي تراه؟
لا تعارض من الجهة الشرعية – لا الواقعية- بين الحديثين، وكلاهما حق، ويُعمل به في موضعه، فالسمع والطاعة لا يكون إلا في المعروف فقط، وكلمة الحق والصدعُ بها أمام السلطان الجائر كل ذلك يكون عند الانحراف عن حُكْم شرعي قاطع صريح، وعلماء الأئمة الربانيون، والأئمة المصلحون عبر التاريخ كانوا قائمين بهذا وذاك، فالإمام منهم لا يدعو الأمة إلى خروج يُفضي إلى شر أكبر، وإذا أمكن خَلْعُ الأمير بدون مفسدة؛ أفتى الأئمة بخلعه، وكانوا في مقدمة الأمة قولاً وعملاً، وإذا انحرف الحاكم دخلوا عليه وناصحوه، أو راسلوه، وكاتبوه، وقد يتلطّفون معه في القول – وهو الأكثر- وقد يُغلظون القول عليه بما لا يُفضي إلى مفسدة أكبر من مفسدة الحاكم، فـ “بوصلة التوازن” عند العلماء الأفذاذ وأتباعهم عبر التاريخ منضبطة، أما الإفراط أو التفريط فلا يسْلم منه إلا من وفّقه الله وسدده.
والواجب أن يكون العلماء في مقدمة كل باب من أبواب الخير، ولا يُغَيِّبوا أنفسهم – لاسيما في البلاد التي لازالت مكانة العلماء فيها تحظى بالإجلال ولو في الجملة- فلا يُغَيِّبوا أنفسهم عن مسْرح الأحداث، لأنهم أولى الطوائف بأبناء الأمة، وإذا تركوا الساحة فارغة ملأها غيرهم ممن لا يُحسن إدارة الأمور – وإن كانت نيته حسنة فضلاً عن غيره- وإذا ملأ الساحة غيرهم ازداد الشباب انحرافًا، والأمة تجهيلاً وتغريبًا.
والخلاصة: أننا لا نحكم على جماعة بالخنوع بلا حدود، وعلى أخرى بالخروج بلا ضوابط – وإن وُجد ذلك- إلا بميزان الشرع الدقيق، لا ببوصلة التحليلات السياسية، أو بالإثارة الفضائية، أو الأهواء الصُّحُفية.

ـ يبرر بعض رجالات الشرطة الذين يواجهون المظاهرات والاعتصامات بالقتل والاعتداء بأوامر قياداتهم العليا، هل ترى أن هذه التوجيهات مبرر للقتل الذي لا يلحقه الإثم؟ أم أنهما في الإثم سواء؟
يجب على هؤلاء المتظاهرين أن يحذروا من أي مخالفات شرعية: من قتْل، أو جرح، أو حرق، أو تخريب، أو تدمير، لأي ممتلكات حكومية أو أهلية، أو إعاقة للطرقات، أو المحلات، أو المطالبة بما يخالف الكتاب والسنة، أو غير ذلك، من المطالب المتعنتة، والتي يصعب تحقيقها، فتزيد الطين بِلَّة، وتصب الزيت على النار، ويحرم على رجال الجيش، أو الأمن، أو غيرهم أن يمسّوا أحدًا من المتظاهرين – على ما سبق- بسوء، فإن “المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه” والله تعالى يقول: [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] والأدلة في تحريم قتْل المسلم لا يتسع لها هذا المقام، أضِفْ إلى ذلك أن الدستور الذي يحتكم إليه المتظاهِر والمتظاهَر عليه يقرُّ المسيرات السلمية، التي لا تعتدي على أحد، إنما هي وسيلة – عند الطرفين- للتعبير عن الرأي، على تفاصيل في ذلك عند العلماء، كل هذا يؤكد تحريم قتل أو إصابة المتظاهرين من قِبل رجال الأمن أو الجيش، أو المظاهرات المناوئة لهم، كما يحرم كل هذا من المتظاهرين تجاه رجال الأمن أو الجيش، أو مخالفيهم، ومن خالف ذلك فسيلقى الله بإثمه وإثم من اعتدى عليه.
ولا يُحِلُّ عقدة هذا الحرام كون الجندي يقول: جاءتني أوامر عُلْيا بذلك، أو المتظاهر يقول: أمرني أمين الحزب أو الناطق باسمه بذلك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والأمر بقتْل المسلم الذي لم يفعل ما يوجب قتْله معصية، والقاتل مباشر للقتل، وإثمه في قتْل هذه النفْس أعظم من آمره، سواء كان الآمر صاحب سلطة، أو قائد حزْب معارض.

ـ يقال: إننا عرفنا دولة السلطان ولم نعرف سلطان الدولة منذ وقت مُبَكِّر من تاريخنا الإسلامي.. هل الأمة عصية على صنع حضارة تقوم على المؤسسات لا على الأشخاص؟
لا أُسَلِّم لمن يقول: إن الأمة لم تعرف سلطان الدولة منذ وقت مبكّر من تاريخنا الإسلامي!! فإن أمتنا حُكِمتْ بالشريعة الإسلامية من زمن الخلفاء الراشدين بعد النبوة، إلى وقت سقوط الخلافة العثمانية، وكانت الدولة لها سلطان وهيبة، ولها ذِمَارٌ وحِمَى، ولها رجال يذودون عن حياضها، نعم حصل مَدٌّ وجَزْر، وقوة وضعْف، وعز وذل، وصفاء وكَدَر، لكن هذا لا يلزم منه ضياع سلطان الدولة مطلقًا، ونحن على حرصنا على تحقيق الأكمل والأفضل، إلا أننا لا ننْفي الأصل عند غياب الكمال، فالمسلمون باقون على إسلامهم مع وجود التقصير والتفريط عند جمهورهم، فلو نظرنا إلى الإسلام الذي كان عليه رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وافترضنا أن أي إخلال بشيء من ذلك فهو زوال للإسلام؛ لقلنا بقول فرقة الخوارج المارقة، وكذلك لو اعتبرنا المقياس الوحيد لسلطان الدولة هو ما كان على منهاج النبوة؛ لقلنا بقول الخوارج الذين يحكمون بكفْر جميع حكام المسلمين، وأن ديارهم ديار حرب، ….الخ، فلابد من الحذر من اغترار البعض بالجناس اللغوي، وإن أفضى إلى أمور عقدية مظلمة.
والأمة ليست عاجزة عن صُنْع حضارة تقوم على المؤسسات لا على الأشخاص، كيف لا، وتاريخها أكبر دليل على هذا الرصيد الحضاري، فالإسلام حكم أكبر مساحة جغرافية في العالم، وسَعِد أهلها بعدل الإسلام، وعفته، وطهارته، وشموليته لكل مصالح العباد في الدين والدنيا، وفي الوقت الذي كان المسلمون – على اختلاف بلدانهم، وأعراقهم، وألسنتهم، وثقافتهم- ينعمون بعدْل الحكام، ويأمنون في عُقْر دار الإسلام بالمرابطين في الثغور، وفي الوقت الذي كان النصارى التابعون لدولة الإسلام ينعمون بعدل الإسلام ورحمته؛ كان إخوانهم النصارى في غياهب أوربا يخضعون لعقلية القساوسة البائدة، وانتهاك قادتهم لحرماتهم الفكرية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والتاريخ شاهدٌ على ذلك، فالأمة لو تمسَّكتْ بدينها استطاعت أن تعيد مجدها، لكن الغزو الفكري شوَّش بل أفسد كثيرًا من النخبة وذوي القرار في هذه الأمة، فأساءوا الظن بأمتهم وقدراتها، لكن الله على كل شيء قدير.

ـ ظل مفهوم المواطنة غائبا عن الذهنية العامة للأمة زمنا طويلا، رغم أن جذوره كامنة في أدبياتنا الإسلامية، وحين تبلور مدلوله في ثقافة الناس حاليا؛ إنما من الثقافة الغربية المستوردة، لماذا هذه القطيعة مع تراثنا وثقافتنا؟
نأسف من واقع كثير من المسلين، الذين لا يعرفون المقبول أو المردود إلا من خلال قبول أو ردِّ الغرب أو الشرق له، ومع أننا أمة غنيَّة بكتاب ربنا، وسنة نبينا – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وتاريخ أئمتنا وقادتنا؛ إلا أننا نعاني من انهزامية نفسية، وعقدية، وخُلقية، وفكرية، مما جعلنا نخجل من الصدع بانتمائنا إلى تراثنا، ولا يعني هذا استنكار كل جديد، والريْب والتخوُّف من كل اكتشاف عصْري، بل ديننا يأمرنا بعمارة الدنيا، ولا يكون ذلك إلا بالاستفادة من الاكتشافات والمستجدات، وإن أتتنا من قوم لا يدينون بديننا، فنحن لنا ميزان دقيق نزن به المستجدات: فإن كانت تصادم نصًّا صريحًا، أو إجماعًا متيقَّنًا؛ فلا خير فيها لنا، ونتقرب إلى الله بتركها، والتحذير منها، إلا إذا أُلْجِئْنا إليها، وإذا كانت المستجدات توافق ديننا؛ عملنا بها، ونشرناها في أبنائنا، وإن كانت مسكوتًا عنها، وفيها مصلحة عاجلة أو آجلة ألحقناها بالقسم الثاني، وهو المقبول والنافع، وإلا تركناها، والأمة الإسلامية استفادت من خبرات الأمم السابقة في السلم والحرب، فقد أخذ رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بمشورة سلمان الفارسي في حَفْر الخندق، ولم يكن معلومًا في حروب العرب من قبل – وإن كان في سند الحكاية كلام قد يُغتفر في قبول الوقائع التاريخية بما لا يخالف نصًّا- واتخذ خاتمًا نقشه: محمد رسول الله، لما كَتَبَ كتابًا، وأراد أن يرسله إلى أحد ملوك العجم، فقالوا له: إنهم لا يقرأون كتابًا إلا مختومًا متفق عليه، وهَمّ بالنهي عن الغيلة، وهو إرضاع الحامل ولدها، فلما وجد فارس والروم يفعلونه، ولا يضر أبناءهم سكت عن ذلك، كما رواه مسلم، وهكذا الخلفاء من بعده: اتخذوا الدواوين، والسجون، والشُّرَط، وغير ذلك، ولم يكن هذا معروفًا من قبل، ومبدأ الشورى لأهل الاختصاص في جميع المجالات، مع قاعدة المصالح المرسلة كفيلان بإجراء دراسة دقيقة على كل جديد، ومن ثم يُلْحَق بالقسم الذي يليق به، وهذا من أسباب مرونة شريعتنا، وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
وما دامت أمتنا مُغَرَّبة ومُغَيَّبة عن دينها وثقافتها المستمدة من دينها؛ فستبقى في ذيل القافلة، ولا يُرمى لها إلا فتات الموائد، وزُبالة الأفكار، ولن تخرج من ربقة التبعية، ولو تمسكت بقواعد دينها وأصالة تاريخها، ووقفت موقفًا معتدلاً من الثقافات الأخرى: فأخذت صفاءها، وانتفعت به، وطوّرتْه وتركت غثاءها؛ لكانت أمة كما أراد الله لها: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] وكما قال سبحانه: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] .
ويوجد فهم خاطئ عند كثير من الشباب المستقيم، فيظنون أن ذِكْر الوطنية، أو الدعوة إلى الحفاظ على الوطن دائمًا تكون من دعاوى الجاهلية، والذي حملهم على ذلك: أنهم لم يجدوا أحدًا يتكلم في هذا إلا دعاة القومية، أو من لا يبالي بأمر الولاء من أجل الدين، ولو نظرنا إلى الإسلام الذي جعل من قُتل دون ماله وعرضه ودينه فهو شهيد، والوطن – سواء كان أرضًا أو عقارًا- من المال والعرض، باعتبار أن الوطن أرض يقيم المرء دينه ومصالحه الدنيوية عليها، والمجتمع دار كبيرة يسكنها الجميع، فمن اعتدى عليها؛ وجب صدّه وزجره، وإن أدى ذلك إلى القتل في سبيل دفْعه، فهل بعد هذا من ترشيد للوطنية؟ ثم أليس علماء الإسلام قد أجمعوا على أن العدو إذا دهَم بلدًا مسلمًا؛ وجب على أهله الدفاع عن هذا البلد، فإن عجزوا؛ اتسعت دائرة الوجوب حتى تشمل مَنْ جاورهم، فإن عجزوا اتسعت دائرة الوجوب حتى تشمل مَنْ بعدهم، وهكذا حتى وإن شمل هذا الوجوب جميع المسلمين، وإلا أثموا جميعًا، أليس في هذا بيان لمكانة الوطن في الإسلام؟ نعم، إن ربط الولاء والبراء من أجل الأرض لا الدين من دعاوى الجاهلية، لكن دعاة الإسلام هم الذين يضعون للوطن مكانته الصحيحة، ولذلك فأعظم الناس وطنية – إلى درجة الاستشهاد- هم أهل الإيمان الصحيح، وإلا فكم من المتشدقين بالوطنية إذا خافوا على مصالحهم الشخصية باعوا الوطن، ومن فيه، ونهبوا أمواله وثرواته، واستوردوا النظريات والقوانين التي تفتك بدين المواطنين وأخلاقهم، والله المستعان.

ـ يقال: إنكم لا تكترثون لعظائم المنكرات، وخاصة المنكرات السياسية، في حين تقيمون الدنيا وتقعدونها على منكرات قد تكون صغيرة.. الحقوق تنتهك.. الحريات العامة تستلب.. أموال الشعوب تنهب، وأنتم مشغولون بمنكرات الغناء، والدف، وحلق اللحية..؟
هذا الاتهام لا يكون بإطلاقه في جميع دعاة السنة إلا من جاهل بحالهم، أو متحامل عليهم، وهذا فرْع عن حَصْر كثير من القائلين بذلك المنكرات في المنكرات السياسية، وإلا فدعاة السنة يحذرون من صور الشرك الأكبر: سواء كان ذلك بعبادة القبور، والغلو في الصالحين، أو كان بإقصاء حكم الله عن سدة الحكم، واستبداله بقوانين بشرية ما أنزل الله بها من سلطان، أو غير ذلك من الصور، كما يحذرون من البدع التي هي بريد الشرك، ومن أعظم البدع سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتكفيرهم، ولعنهم، وإيغار الصدور عليهم، كما يحذرون من الفواحش والمنكرات: كالزنا والأبواب الموصلة إليه، والربا، والاختلاس، والسطو على المال العام، والفساد المالي والإداري والخُلُقي، واستغلال المنصب والنفوذ في ظلم عباد الله، والمضادة لحكم الله بالتدخل في شأن القضاء، وتجارة المخدرات والمحرمات، والثأر القبلي، والاستعمال الأهوج للسلاح، كما يحذرون من المنكرات التي هي دون ذلك من الغناء، وحلق اللحية، وغير ذلك.
فأي عيْب على من أنكر المنكرات حسب استطاعته؟ ثم ما الفائدة إذا كان المرء سيسكت عن إنكار المنكرات السياسية من إلزامه بالسكوت أيضًا عن المنكرات التي دون ذلك؟ أليس الله عز وجل يقول: [فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] نعم: عند بعض الناس من هذه الجهة ومن تلك الجهة إفراط وتفريط: فهناك من يرى أن الكلام على المنكرات السياسية – ولو بالإجمال- من التهييج على ولاة الأمور، وهناك من يجعل خصوم السياسة أعتى وأضر من خصوم العقيدة، ولذلك لا يبالي بأي خطر من معتقداتهم – التي هي خلايا نائمة- طالما أنهم يعينونه على أمر سياسي، وإن كان نفعه لا يكاد يُذْكَر أمام ضرر معتقد صاحبه، فلابد من الاعتدال من الجميع، ثم لماذا لم نسمع إلا بإنكار الفساد السياسي من الجهة المالية والإدارية فقط؟ أليس من المنكرات السياسية تحكيم غير شرع الله عز وجل؟ أليس منها الارتماء في أحضان الشرق أو الغرب عبر سفاراتهم، والتنافس في تنفيذ طلباتهم؟ أليس منها الدعوة إلى العلمنة؟ أليس منها إقرار بعض البرامج الحزبية وإن كانت مخالفة للدين؟ إلى غير ذلك من المنكرات، فلو خَلَعْنا جميعًا النظارات السوداء، وأنصفْنا من أنفسنا قبل أن نطالب غيرنا بذلك؛ لآل بنا جميعًا الأمر إلى الهدى والسداد.

ـ على إثر الأحداث الأخيرة برزت الفتوى والفتوى المضادة بين كثير من علماء الدين، وفي قضايا واضحة لا تحتمل الاختلاف كما يقال.. ما هذا الانقسام بين علماء الأمة الذي أساسه سياسي لا علمي؟!
ليس العيب في وجود الخلاف، فإن الخلاف سُنة الله في هذه الأمة، كما قال تعالى: [وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ (119) ] وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “إنه من يعش منكم؛ فسيرى اختلافًا كثيرًا….” وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “سألتُ ربي ثلاثًا، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة: سألتُ ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألتُ ربي: أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها” أخرجه مسلم، وقد اختلف الصحابة في فهم بعض الأوامر النبوية، كما في قصة خروجهم إلى بني قريظة، واختلف علماء الأمة وفقهاء الأمصار، والخلاف على ما فيه من مثالب؛ ففيه فوائد، ليس هذا موضع بسطها.
فليس العيب في وجود الخلاف، إنما العيب في عدم ترشيد الخلاف، ومراعاة أدب الخلاف، والحرص على بقاء سلامة القلوب وأُلفتها.
وما ورد في السؤال من كون المسائل التي اختلف فيها العلماء واضحة لا تحتمل الاختلاف؛ قول مجمل، وإلا فالأصل أن العلماء قديمًا وحديثًا لا يختلفون فيما كان من هذا النمط من المسائل، إنما يختلفون فيما يكون للاجتهاد فيه مجال، وإن كان المراد مسألة الانتخابات، أو المسيرات السلمية، أو الاعتصامات، وما كان من هذا الباب، فهذا من المسائل التي يُنظر فيها إلى تزاحم المصالح والمفاسد، وهذا ضرْب من الاجتهاد، وليس مما لا يسوغ فيه الخلاف، وإن كانت مسائل أخرى؛ فلكل حادثة حديث.

ـ برزت في الآونة الأخيرة الدعوة إلى الوسطية والتسامح مع الآخر، ومن الواضح أن ثمة تحفظا من قبل بعض التيارات داخل الجماعات الإسلامية من هذه الدعوة؟ ما مبرر هذا الدعوة؟ ثم ألا ترى أننا في حاجة إلى التسامح وانتهاج الوسطية مع الآخرين، وقد قدم البعض صورة مشوهة عن الدين؟
ديننا قائم على العدل مع الموافق والمخالف، كما قال تعالى: [وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] وقال سبحانه: [وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا] فإذا كان ديننا يأمرنا بعدم الاعتداء أو الظلم لمن حاربنا، فمن باب أولى من سالمنا، فضلاً عمن هو من أهل ديننا.
لكن لابد من الاعتدال، وعدم الهرولة إلى طرفي نقيض، فهناك من أعلن الحرب على كل من ليس مسلمًا، بل على كثير من المسلمين، وهناك من دعا للتسامح، وحرية الاعتقاد، إلى حد لا إنكار على من يترك الإسلام، ويدين بأي دين آخر، وهذان قولان مرفوضان، والمسلم مأمور بالعدل والمعاملة الحسنة لغير المسلم إذا كان مسالمًا له، تاركًا له على دينه: لا يضايقه، ولا يحاربه، ولا يعتدي عليه، لكن إذا اعتدى على المسلمين، وقتل رجالهم، واحتل أرضهم، وحارب عباد الله، واتهمهم بما يشوِّه جمال دعوتهم، ويكدِّر صفاء منهجهم، فلا يمكن في أي دين، أو شرع، أو قانون، أو دستور، أن يؤمر المظلوم بحب الظالم، والتسامح معه بعد هذا كله، وأن يُنهى عن الدفاع عن نفْسه، وصدِّ العدوان عنه، فضلاً عن كراهيته، فالله عز وجل قد فصَّل لنا الأمر تفصيلاً، فقال سبحانه: [لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ(8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(9) ] فلاشك أن من بدأ بإذلال المسلمين، ومحاربتهم، وانتهاك حرماتهم، أنه البادئ في صراع الحضارات، والبادئ أظلم، ولا يقال للمدافع عن نفسه، المضطر للذود عن دينه وماله وعرضه: أنت تدعو إلى صراع الحضارات، أو تغرس الكراهية بين أهل الأديان أو الشعوب، وما حصل من تشويه للإسلام بسبب تصرفات بعض أبنائه؛ لا يُسوِّغ هذه الهجمة الضارية على الدين وجميع أبنائه عند المنصفين، وإلا فما من أمة، أو طائفة، أو أهل ديانة، أو مذهب، إلا وفيهم من لا يُرتضى فعله عند أهل الطائفة نفسها، فضلاً عن غيرها.

ـ بدأ التيار الوهابي في الانتشار على استحياء خلال فترة الثمانينات والتسعينات في اليمن، وهاهو الآن يملأ الساحة اليمنية مدعوما بما أسماه البعض بالريال الحنبلي.. برأيك لماذا تتبنى المملكة المجاورة نشر هذا الفكر؟ ثم ألا ترى أنها قد تضررت منه مؤخرا بعد أحداث سبتمبر الشهيرة؟
دعْني أصحح للقارئ ما ورد في السؤال، فليس هناك في الواقع تيار يُسمى بالوهابي، أو دعوة تُسمى بالوهابية، فإن محمد بن عبد الوهاب النجدي إمام مجدِّد مصلح، كغيره من العلماء المجددين لقواعد الملة، لما انطمس كثير منها، وهو عالم من العلماء، قام في الجزيرة بدعوته إلى التوحيد، وحذَّر من الشرك، وأجابه إلى هذا كثير من أهل نجد، من الأمراء كالإمام محمد بن سعود – رحمه الله- ومن الرعية، وانتشرت دعوته، وتخرَّج بها علماء، واستفادت الدعوة الإسلامية في هذا العصر في جميع الأقطار من جهود علماء هذه الدعوة، فلله دَرُّهم، وعلى الله أجرهم، ومع ذلك فهم علماء كغيرهم، يُصيبون ويُخطئون، فالحق منهم – وهو الأكثر- مقبول، والخطأ – وهو الأقل- مردود، وهم أنفسهم لا يتسمَّوْن بهذا الاسم، ولا طلابهم يتسمَّوْن بذلك، وإنما سمَّاهم بذلك للتنفير عنهم الصوفية والرافضة وغيرهم، ولا يهمنا الاسم، إنما المهم المسمَّى، فدعوتهم امتداد لدعوة الأئمة، وليسوا محصورين على مذهب الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله- ولو اكتفوا بتقليده؛ لوسعهم ما وسع غيرهم من العلماء الذين قلّدوا أئمة المذاهب الأخرى، إلا أنهم حرصوا على اتباع الراجح من الأدلة، وكتبهم، وفتاويهم، ومناهج جامعاتهم تدل على هذا، فجزاهم الله خيرًا.
وهذه الدعوة القائمة على تحكيم الدليل على الأقاويل، والهدى على الهوى، موجودة في اليمن وغيره من بلاد المسلمين، ولم تنتشر على استحياء، بل انتشرت في وضَح النهار، وبالصوت العالي، والطرح المكثَّف، من خلال طلاب درسوا في الجامعات، وأُناس ذهبوا للعمل، فهداهم الله للسنة، ورَبَّوْا أولادهم وكثيرًا من أبناء المسلمين على ذلك، وليس هذا الانتشار من أجل الريال الحنبلي – كما ورد في السؤال- فهذه عقيدة يعتقدها المرء، ويسعى في نشرها بالنفْس والنفيس، فإن ساعده أحد؛ وإلا بذل قصارى جهده في نشرها والدعوة إليها، والسعودية كدولة لا يُعْرف لها مساعدات لمراكز الدعوة، ومساعدتها للجهات الرسمية في اليمن أشْهر من أن تُذْكر، ولا يجد الدعاة وطلابهم إلا القليل من مساعدات بعض أهل الخير، من زكواتهم وصدقاتهم في الداخل والخارج، وأما الذين يظفرون بالمليارات أو الملايين من المملكة فأشْهر من أن يُعرَّف بهم، وليس لهم مجال في الدعوة التي ورد السؤال عنها.
ولو تبنَّت السعودية دعْم هذه الدعوة المعتدلة الوسطية، التي تاريخها وتاريخ أهلها بعيد كل البعد عن كل إفراط أو تفريط؛ لكان أنفع لها في الدين والدنيا، لكن اختلط الحابل بالنابل، ولما وُجد من استعمل الدعم في أمور تضررت السعودية نفسها منها؛ كان هذا مسوِّغًا لها – في نظرها- على التجفيف، مع أن الواجب عليهم التمييز، ووضْع كل شيء في موضعه، فإن نصرة المسلم للمسلم في الحق واجبة، وهذه أمريكا نفسها تدعم الجماعات والجمعيات الداعية إلى التنصير، وإيران تدعم من يدعو إلى الرفض، والاشتراكيون، والقوميون، والليبراليون وغيرهم كل يدعم من هو على شاكلته، في جميع أنحاء العالم، وكثير من هؤلاء يستخدم هذا الدعم في إرهاب فكري ودموي، فلماذا يؤاخذ أهل الاعتدال من أهل السنة بجريرة غيرهم، ويُمنع عنهم الدعم، وهم أشهر طوائف المجتمع تحذيرًا من الغلو، ودعوةً إلى الوسطية والاعتدال؟! 

ـ فيما بين مُهَوِّل مما يسميه البعض الخطر الفارسي، أو الرافضي الإيراني، وما بين مُهَوِّن من ذلك.. ما الذي تراه؟ هل ترى أن ثمة خطرا بالفعل يهدد الأمة الإسلامية من إيران؟ أم أن الحال كما يقول البعض: أمريكا قالت لنا: إن إيران عدوكم؟!
أنا لا أشك في أن على دول السنة خطرًا كبيرًا من إيران وحملة أفكارها في العالم، وليس في ذلك تهويل أو مبالغة، والتهوين من هذا الخطر إما من جاهل بحقيقة إيران وتاريخ الفكر الذي تتبناه، وإما ماكر يوهم الناس بغير الحقيقة، فإذا أنشبت الفتن أظفارها في أمعاء الأمة طار طربًا وفرحًا، فاليمن نفسه قد عانى من هذا الفكر كثيرًا، وعندما نسمع أو نقرأ لحملة هذا الفكر؛ نجد أنهم صبُّوا جام غضبهم على الصحابة – رضي الله عنهم- وإذا كان الصحابة خيار الأمة بعد رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كفارًا، أو ملاعين، أو خونة، أو فجرة؛ فمن سيكون مؤمنًا منا؟ ومن ستكون عفيفة من نسائنا بعد عائشة أم المؤمنين؟
ومع ذلك فإنني أدعو إلى الحوار العلمي الهادئ مع إيران وأتباعها ، فإن لم يكن فالتعايش السلمي على شروط وضوابط، حتى لا نزجّ بالمجتمع إلى حرْب مذهبية، الأمة في غنى عنها مع جراحاتها الكثيرة التي تنزف، وأزماتها الداخلية والخارجية.
والذي حملنا على هذا التفسير لأحوال إيران: هو واقعها مع أهل السنة من مواطني إيران أنفسهم، وعنصريتهم في عدم جعْل مسجد جامع للسنة في طهران – حسب ما يُحكى- مع وجود مساجد للسنة في جميع عواصم العالم المسلمة وغير المسلمة، وما رأيناه من الإرهاب الذي مارسوه في الحرمين، مع قتْل للحجاج الآمنين، وما وجدناه في اليمن من حروب أكلت الأخضر واليابس، وما نسمعه ونقرأه من معتقدات، ومقالات، وغرس للبغضاء والعداوات، وتكفير كل من لم يكن جعفريًّا، وإن شمل هذا التكفير جميع طوائف المسلمين، ومن شاهد إعلامهم، أو قرأ كتبهم؛ علم صِدْق ما أقول، فالواجب على إيران وأتباعها إذا أرادوا من أهل السنة أن يحسنوا بهم الظن: أن يغيروا – حقيقة لا تقية- طرحهم العدائي، العنصري، الطائفي، ويصححوا ما ورد في تراثهم من عقائد فتاكة، وأن يثبتوا – عمليًّا- سلامة مواقفهم ونواياهم تجاه السنة ودولها.
إن هذا الموقف السني لم يكن من فراغ، وليس لأن أمريكا قالت: إيران عدوة للسنة فعادوها!! بل إنني على شك كبير من هذه العداوة المصطنعة بين أمريكا مع حلفاءها وإيران، وإلا فلماذا تقاسموا الكعكة في العراق؟ ولماذا قال مسؤول إيراني كبير: لولا إيران ما دخلت أمريكا العراق ولا أفغانستان؟ وأسئلة كثيرة سيكشفها الزمان لمن خُدِع بالإعلام، فلتحذر دول السنة، فإنهم شاة العيد التي تُسَمَّن لذئب جائع، وإنهم الضحية: المصالح لأمريكا، والعقائد لإيران، إذا لم يقرأوا التاريخ، ويتدبروه، ويستفيدوا من صفحاته، ويُدْركوا أبعاد التصريحات التي ملأت وسائل الإعلام.

ـ كل الحركات الإسلامية على الساحة في نظر التيار الوهابي مخالفة ومبتدعة ومارقة، ما هذه الرؤية التي تحملونها على الآخرين؟ ولما ذا ترون في أنفسكم لوحدكم سفينة نوح؟
هذه فرية بلا مرية، بل إن أهل السنة – الذين تسمونهم أنتم: وهابية- هم أعدل الطوائف في الحُكم على المخالف، ولا يحكمون على معين بكفر، أو بدعة، أو فسوق، أو عصيان، إلا بعد استيفائه شروط هذا الحكم، وانتفاء جميع الموانع المانعة من إطلاق هذا الحكم عليه، فلو تخلّف شرط واحد، أو وُجد مانع واحد؛ لم يحكموا على الفاعل أو القائل، وإن حكموا على الفعل أو القول بما يليق شرعًا، ولو فرضنا أن عالمًا أخطأ في حكم صدر منه، أو طالب صغير أطلق حكمًا ما: فأين هذا من حكم الطوائف الأخرى بكفر أهل السنة، وأنهم أنجس من الكلاب والخنازير، أو الحكم بضلالهم، وابتداعهم، وعمالتهم، وخيانتهم، …الخ، ثم أين هذه الطوائف، وهؤلاء الأفراد الذين حكمنا عليهم بما ورد في السؤال؟ سَمُّوا لنا الحاكم بذلك والمحكوم عليه حتى يعرف الناس صدق هذه الادعاءات من كذبها!!
ألسْنا نقول: إن جماعة الإخوان المسلمين، وجماعة التبليغ التي نعرفها جماعات من أهل السنة والجماعة، ومن خالف ذلك من أفرادهم، فيُحكم عليه بما يستحق؟ ألسنا نحكم على الصوفية بأنها فرقة مُصَنَّفة عند أئمة السنة بأنها من فرق السنة بالمعنى العام، وإنما تُنْكَر أفعالهم أو أفعال بعضهم المخالفة للدين، ولا يُحْكم على المعين إلا بالقيود السابقة؟ ألسْنا نتكلم على ضرر العلمانية والليبرالية، دون الطعن في إسلام أحد الدعاة إلى ذلك – فضلا عن الأتباع-؟ بل من هو الاشتراكي أو البعثي الذي كفَّرناه بعينه، وإن كنا نفنِّد المقالات ونحذَّر منها؟
وأما أننا نرى أنفسنا كسفينة نوح؛ فهو من القول المائل عن الصواب أيضًا، لأننا نفرق بين المنهج الذي ندعوا إليه، وبين الأفراد الذين ينتمون إلى هذا المنهج، فمنهج السنة منهج معصوم، لأنه المنهج الإسلامي قبل أن يدخله الدخيل، ولأنه إجماع العلماء، والأمة لا تجتمع على ضلالة، أما نحن فأفراد غير معصومين، نصيب ونخطئ، ونعلم ونجهل، ولا يجوز تقليدنا، ولسنا ميزانًا ومعيارًا على الحق والخلْق: من كان منا فهو الناجي جزمًا، وإلا فهو الهالك بلا تردد!! بل لا نقطع لأنفسنا بالنجاة، إنما نرجوا للمحسن من المسلمين، ونخاف على المسيء منهم، ونعلم أن أهل السنة فِرَقٌ متعددة، فمنهجهم معصوم، وأفرادهم غير معصومين، والحق لا يفوت إجماعهم، وما فيهم من شر أو جهل أو ظلم فهو في غيرهم أكثر، وما عند غيرهم من خير، أو علم، أو عدل، أو فضل؛ فهو فيهم أكثر.

ـ لا تزال بعض التيارات السلفية مغتربة عن واقعها ومجتمعها من خلال تحريم بعض وسائل العصر وآلياته كبعض التقنيات، كالانتخابات وغيرهما، ما هذا الاغتراب عن المجتمع؟
سبق الكلام عن موقفنا من وسائل العصر وآلياته، وأن الأمر فيه تفصيل، ولا نُطلق المنع أو القبول، وإن وُجد بعض السلفيين كذلك – كما ورد في السؤال، وإلا فأنا لا أعلم من هو كذلك مطلقًا- فإنما هذا لقصور فهمهم، وليسوا حجة على غيرهم، والانتخابات من المسائل الاجتهادية من جهة تقدير المصالح والمفاسد عند تزاحمها، والخلاف فيها يسع المختلفين.

ـ على الدوام التيار السلفي في تَشَظٍّ، وانشطار عنقودي متواصل، ما أن تتشكل جماعة حتى تنشطر على بعضها، حتى غدا الأمر وكأنه ظاهرة أو سلوك من نهج الحركة.. ما هذه الصورة المتكررة على الدوام؟
سبق أن العيب ليس في مجرد الاختلاف، إنما العيب أن يتطور الأمر فيؤدي إلى الفرقة بين أهل المنهج الواحد، ولا يكون هذا إلا مع وجود نوع من الجهل، والهوى، والظلم، وإلا فأهل السنة حقًّا هم الذين يعتصمون بالكتاب والسنة، ويدعون إلى السنة والجماعة، أو الاتِّبَاع والاجتماع، ولكل من الواجبين حق عليهم وأثر في سلوكهم، وقد يُقدَّم أحدهما على الآخر، أو العكس حسب حاجة الدعوة، فليس عند أهل السنة تهارج وتفرق لوجود أي خلاف، بل هذا منهج أهل البدع، الذين يُحْدثون مقالات، ويوالون ويعادون عليها، وما يوجد في زماننا من تشظٍّ، وتهارج فسببه الجهل من البعض بمنهج الأئمة، أو وجود شيء من الهوى، والله تعالى يقول في الإنسان: [إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا] والظلم علاجه في العدل، والجهل علاجه في العلم، والله الهادي إلى سواء الصراط.
وعلى كل حال: فهذا الحال الذي ورد في السؤال حال فَصِيل واحد من أهل السنة، وإلا فجمهور أهل السنة أعمق فهمًا، وأوسع صدرًا، وأبعد نظرًا من هذه الأمور، ولا يلزمهم حتى يرضى عنهم المبالغون في الانفتاح أن يكونوا مثلهم في كل شيء، فالانفتاح عندنا منضبط، غير منفلت.

ـ يرى البعض أن انضمام علماء الدين إلى الأحزاب السياسية عيب في حق رجل الدين الذي ينبغي أن ينأى بنفسه عن الحزبية ودهاليزها، إذ يفقد ثقته عند العامة، لاسيما وقد تسابقت بعض الأحزاب على استقطاب بعض علماء الدين إلى صفوفها، حتى أصبح يقال: عالم الحزب الفلاني وعالم الحزب الفلاني.. ما الذي تراه؟
العالم عالم أمة أو شعب، وليس عالم كتلة أو حزب، وانخراط العالم في حزب معين له فوائد، ومفاسد، والترجيح بينهما راجع إلى أمور، منها: طبيعة برامج الأحزاب الأخرى، فالحال يختلف من كون الحزب الذي فيه العالم يدعو إلى الإسلام، وغيره يحاربه، فانضمام العالم إلى الحزب الإسلامي في بعض البلدان التي هي كذلك من الواجبات، بخلاف البلد الذي كل الأحزاب فيه إسلامية، لكنها تختلف في بعض الوسائل والآليات، فحصْر العالم نفسه على حزب دون الآخرين والحال كذلك؛ يؤدي إلى مفاسد أكثر، وهكذا فالأمر فيه تفصيل.

ـ هل ترى الوضع في اليمن كغيره من البلاد الأخرى؟ وأنه لا يصلح إلا بما صلحت به البلاد الأخرى؟
إذا كانت المسيرات سلمية لإصلاح فساد، أو تقويم اعوجاج، وتقيدت المظاهرات بالضوابط السابقة، ولم يكن بُدٌّ منها، أي استنفذت كل الوسائل المتاحة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويغلب على الظن أنه بدون المسيرات هذه سيزداد الشر ويستفحل؛ فأرجو أن تُصْلِحَ كثيرًا من صور الفساد، كما حصل في مصر وتونس، أما إذا كانت غير منضبطة بما سبق من ضوابط، أو رفعت سقف المطالب المتعنتة بما هو بعيد الإجابة، فإنني أخشى من وقوع اليمن في أمور كارثية، واندلاع حرب أهلية، وطائفية في كل مدينة، وقرية، وبادية، ومعلوم أن الثورات لا تُسْتَنْسَخ، وأن ما يصلح أو قد صلح في بلد لا يلزم من ذلك نقْله ونسْخه إلى بلد أخرى، تختلف في ظروفها عن غيرها، فاليمن حسب بعض الدراسات فيه أكثر من سبعين مليون قطعة سلاح، وهذا ما ظهر، وما خفي أعظم، وهذه الأسلحة التي يملكها الشعب إذا فُتح باب الفتنة كفيلة بأن تجعل اليمن رمادًا، وتجعل عوامره خرابًا يبابًا، ففرْق بين من يسير حاملاً لخرقة أو ورقة تحمل بعض الكلمات، وبين من يسكت لتنطق البنادق والبوازيك والمدافع لا الخرق والأوراق، ولذلك فيجب على عقلاء اليمن وحكمائه أن ينظروا للمآل، والحروب الأهلية التي تُخَلِّف ثأرًا طويل الذيل، لا ينتهي خلال أجيال لاحقة، فيجب على كل من يعقل في دينه ودنياه أن يسدّ الباب أمام كل ما يفضي إلى ذلك، لاسيما وحال اليمن وحاكمها يختلف عن حال الدول الأخرى التي أسقطت النظام فيها وحكامها، فمبارك وابن علي يختلفان مع شعبيهما عن علي مع شعبه، وإن كانت هناك أمور لا يُقرها الشرع أو القانون من الفساد المالي والإداري وغيرهما، إلا أن الإنصاف مطلوب، وقد جَعَل الله لكل شيء قدرا، فلابد من تنازل كل طرف عن بعض ما يتمسك به من أجل مصلحة اليمن العامة، واللهُ سائلٌ الجميع عن حصاد التسلط في المواقف أو تقديم الأغراض النفسية أو الحزبية على المصلحة العامة.

ـ نرى لك بعض الأجوبة في عدة لقاءات؛ فيفرح بها طوائف من الناس سواء من حزب الحاكم أو المعارضة، ونرى في لقاءات أخرى، ما يُغضب من فرح بالأجوبة الأولى، فهل هذا تناقض وتضارب بين الأجوبة، أم بماذا يُفَسَّر؟
هذا الاضطراب راجع إلى فهم الغير لكلامي لا إلى موقفي، فإن موقفي واحد، وأنا في هذا أنطلق من معتقد أهل السنة والجماعة في عدم الخروج على وليّ الأمر بما يُفضي إلى مفسدة أكبر من ظلمه، مع عدم إقراره على أي مخالفة لدين الله، واتخاذ الأسلوب النافع في العلاج، وهذا الموقف هو الموافق للأدلة، والمراعي لمصالح الأمة وقوتها وبقائها، لكن إذا تكلمتُ على حق ولي الأمر في الطاعة في المعروف دون المعصية غضب أقوام وفرح آخرون، وإذا تكلمت على الفساد الموجود، وحذَّرْتُ من مغبته في الدين والدنيا؛ فرح من غضب أولا، وغضب من فرح، وهذا من آثار التحزب الذي يريد من الآخرين أن يكونوا على ما يريد حذو القُذَّة بالقُذَّة، وهذا من غير العدل والإنصاف، وإذا كانت هذه الأحزاب تقول: نؤمن بالرأي والرأي الآخر، ونرى أن حرية التعبير مكفولة لأهلها؛ فلماذا يغضبون ويحنقون علينا من مخالفتنا لهم في بعض الأمور، وإن كنا نوافقهم في أشياء أكثر منها؟ فلاشك أن عند الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة إيجابيات وسلبيات، ومزايا وعيوبًا، ونحن دعاة إلى الوسطية، ولسنا دعاة حزب معين بجميع أفكاره وآرائه، والوسطية تفرض علينا أن نقبل الحق من كل أحد، ولا نجحده، ولا نشوِّهه، وتفرض علينا أن نرد الباطل على كل أحد، ولا نجامله، أو نتكلف أو نتعسف في تأويله، وتفرض علينا قول كلمة الحق، وتقديم المصلحة العامة على المكايدات والمزايدات الحزبية، ورحم الله من قال: حُبُّ الحق ما أبقى لي صاحبًا، والله الموفق، وعليه التكلان.

حُرر بتاريخ
الجمعة: 22/ ربيع أول/1432هـ
الموافق: 25/2/2011م

للتواصل معنا