[ الجرح والتعديل بين المانعين منه والمسرفين فيه ]
الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد :
فلا شكَّ أن الجرح والتعديل عِلْمٌ قد استعمله علماء الأمة من السلف الصالح، في بيان حال رواة الحديث النبوي قوة وضعفًا، وقبولاً وردًّا، وجعلوه سيفا مسلولاً على أهل البدع والزندقة، الذين ينخرون في عقائد المسلمين، ويهدمون أصول أهل السنة والجماعة، زاعمين أن الحق معهم، وأن أهل السنة لا يعرفون العلوم العقلية، والأصول النظرية، وكان علماء السنة يتكلمون في الراوي من جهة العدالة والضبط، والمراد بالعدالة السلامة من أسباب الفسق – سواء كان عن شهوة أو شبهة – وخوارم المروءة، والمراد بالضبط الإتقان والحفظ لمروياته، وعدم المخالفة لمن هو أوثق منه، ولهم تفاصيل واسعة في هذا الأمر، يعرفها أهل الاختصاص والاشتغال بهذا الشأن.
والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: فمنهم المشنِّع على استعمال السلف لهذا العلم، ومنهم المتشبِّع بما لم يُعْطَ، الزاعم أنه على منهج السلف في التحذير من أهل البدع، والثالث من يسلك منهج السلف في استعمال هذا العلم بشروطه التي نصَّ عليها العلماء.
والعلماء قد وضعوا لذلك شروطًا، يجب مراعاتها فيمن اشتغل بالجرح والتعديل، كل ذلك حتى لا يُقْحم الجهلةُ أنفسهم في هذا الباب، ولا يتكلم فيه من لا يدري ما يخرج من رأسه.
وفي المقابل: فهناك من منع من استعمال هذا العلم مطلقًا، بحجة أنه غِيبة، ووقيعه في أعراض الناس، وأن أعراض الناس حُفْرة من حُفَر النار، وقَفَ عليها طائفتان: المحدِّثون، والقضاة.
ولا شك أن عِرْض المسلم محترم – حيًّا وميتًا – ولا يجوز النَّيْلُ منه، لكن إذا كان هذا المسلم قد قال قولاً خالف فيه الكتاب المحكم، والسنة المستفيضة، والإجماع المتيقَّن، وكان هناك من يتَّبعه على زلّته، ثقة منه بعلمه أو دينه؛ فهنا يتعيّن النصح لمن يأخذ بقوله المخالف، وتحذيره من مغبّة ذلك، وحُرْمة الشريعة والدين مقدّمة على حُرْمة العالم، وحق الأجيال في النصح والبيان لهم لازمٌ لمن عرف خطأ مَنْ أخطأ، ولا يلزم من نصح التابع وبيان خطأ المتبوع أن يُتَجاوز الحد في بيان خطأه، أو يُتَّخَذ عرضه غَرَضا للطعن، أو الحط عليه، أو يُرْمَى بما ليس فيه، بحجة أننا نكره من ليس من أهل السنة، فإن الله عز وجل يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) .
وما قيل هنا فيمن وقع في بدعة، يقال فيمن وهم في الرواية، أو ساء حِفْظه لما يرويه.
ويقال أيضا لمن منع أصلاً من استعمال علم الجرح والتعديل: إذا كان الشاهد يشهد على الرجل في خصومة ما بينه وبين آخر في شيء يسير من الدنيا، فيطلب القاضي من يزكّي الشاهد أو يطعن فيه، للحفاظ على حق خصمه، وإن كان درهمًا أو دينارًا، فكيف لا يجوز بيان حال من أخطأ على الشريعة، ونسب إليها ما ليس منها، أو أصَّل أصول الزيغ والضلال، أو زَهَّد في منهج أهل السنة والجماعة، لا للانتقام منه، ولكن للحفاظ على دين جيل وأجيال من المسلمين إلى آخر الزمان؟
إلا أنه لابد من مراعاة شروط الاشتغال بهذا الأمر، ومنها:
١ – ما ذكره الذهبي في “الموقظة” (صـ: 82) فقال: “والكلام في الرواة يحتاج إلى وَرَعٍ تام، وبراءة من الهوى والميل …” اهـ ، هذا في الكلام في الرواة ، وإن كانوا مغمورين غير مشاهير، فكيف الكلام في العلماء الذين خدموا الإسلام خدمة جليلة، ونافحوا عنه باليد وباللسان، وكشفوا عَوَار أهل البدع والزندقة، لكن زلّت أقدامهم في موضع أو مواضع.
وقال الذهبي أيضا في “تذكرة الحفّاظ” ترجمة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه -: “حُقَّ على المحدِّث أن يتورّع فيما يُؤدِّيه، وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته، ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يُزكي نقلهَ الأخبار ويجرحهم جَهْبِذًا؛ إلا بإدمان الطلب، والفحص عن هذا الشأن، وكثرة المذاكرة، والسهر والتيقظ، والفهم مع التقوى والدين المتين، والإنصاف، والتردد إلى العلماء، والإتقان، وإلا تفْعل:
فدَعْ عنك الكتابة لسْتَ منها ******* ولو سَوَّدت وجْهك بالمداد
فإن آنسْت من نفسك فهمًا، وصِدْقًا، وورعًا؛ وإلا فلا تفعل، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأيٍ ولمذْهبٍ؛ فبالله لا تتْعَبْ، وإن عرفتَ أنك مُخَلِّط مُخَبِّط، مُهمل لحدود الله؛ فأرِحْنا منك” اهـ.
٢ – وما ذكره اللكنوي في “الرفع والتكميل” (صـ: 52) في شرط الجارح والمعدِّل: “يُشترط في الجارح والمعدِّل العلمُ، والتقوى، والورع، والصدق، والتجنّب عن التعصب، ومعرفة أسباب الجرح والتزكية، ومن ليس كذلك؛ لا يُقْبَل منه الجرح ولا التزكية” اهـ.
وقال التاج السبكي: “من لا يكون عالما بأسبابهما – أي الجرح والتعديل – لا يُقْبلان منه، لا بإطلاق ولا بتقييد” اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في “شرح النخبة”: “إن صَدَر الجرح من غير عارف بأسبابه؛ لم يُعتبر به”.
والجارح أو المعدّل إذا سُئل عن سبب حكمه فأجاب بما لا يُجَرِّح العلماء بمثله أو يُعدلون، نُسب إلى التشدد أو التساهل، ولا يُؤخذ بقوله إذا انفرد فكيف إذا خُولف؟
٣- معرفة الجارح أو المعدّل لدلالات عبارات الجرح والتعديل، حتى يستعمل العبارة الدالة على مراده، دون فضفضة واسعة، أو عكس ذلك.
وعبارات الأئمة في الجرح والتعديل أكثر من أن تُحصر، وهناك فروق كثيرة ودقيقة بين عبارات الأئمة في ذلك، فلا بد أن يكون عالما بدلالات الألفاظ، فالأئمة على سبيل المثال يفرِّقون بين من قيل فيه: “لا بأس به” ومن قيل فيه: “ليس به بأس” فيرون أن الأول أحسن حالاً من الثاني لأن كلمة “لا” أعرق وآصل في النفي من كلمة “ليس” فأين هذه الدقة من تهوّر كثير ممن يتكلمون في هذا الشأن بلا خطام ولا زمام؟!
وعلى كل حال: فهناك من يتكلم في الجرح والتعديل بلا ورع ولا معرفة بأسباب الجرح، فيجرِّح المخالف بزعم أنه ينزل في البلد الفلاني على فلان، أو رآه يمشي معه، أو فلان غير راضٍ عنه، أو زار المنطقة الفلانية، ولم يزُرْ فلانًا، وربما قال فيه: هو أخبث من اليهود والنصارى، أو أضرّ منهم، أو من إبليس وفرعون ، وغير ذلك من كلمات الظلم والظلمات.
ومعلوم أن الرواة عند السلف أقسام، فمنهم العدل المُزَكَّى، ومنهم المُضَعَّف المجروح، ومنهم المجهول الذي لا يعلم العالمُ عينه أو حاله، وبعض غلاة التجريح في زماننا يجرّح المجهول الذي لا يعرفه، بزعم أنه لو كان من أهل السنة لعرفه، فلما لم يعرفه دلّ على أنه مجروح عنده وعند أتباعه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، من جهل الجاهلين، وتسلّط الأفّاكين، وإذا أنكر أحد على هؤلاء صنيعهم؛ قالوا: هذا جرح وتعديل، وهؤلاء ما عندهم إلا جرح وتجريح، أما التعديل فهو خاص لمن قلّدهم، ولمدّة يسيرة، ثم ينقلبون عليه، ويقلبون له ظهْر المجَن، ويكيلون له التّهم كيْلا، فالحمد لله على العافية مما ابتُلي به كثير من العِباد.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه/ أبو الحسن السليماني
٣٠ رجب ١٤٣٩ هـ