تصحيح المفاهيم

فلان أضرُّ على الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى

فائدة في فساد قول من قال في أحد أهل السنة – وإن أخطأ -: (فلان أضرُّ على الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى)

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

فمِمَّا ابْتُلِيَتْ به الدعوة السلفية في هذا العصر – وصُوَر الابتلاء لها كثيرة، عافانا الله وإياكم -: ما يتناقله بعض المنتسبين إليها من الجهلة، والمقلدة، المتمسحين زورًا وبهتانا بالعلم وأهله، الذين نشروا مقالات كاسدة، وأصَّلُوا أُصولاً فاسدة، ورمَوْا بها الصالحين الغيورين المعتدلين.

فمن ذلك رميهم من خالفهم في فهمهم المنحرف بأنَّه أضرُّ على الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى، بزعْم أن المسلمين مُحَصَّنون من الاغترار بشُبَه أهل الكتاب؛ لأن المسلمين يبغضونهم، ومن ثمَّ يحْذَرون منهم، بخلاف من ينتسب إلى السنة، وله مساعٍ مشكورة، وأيادٍ مبرورة، في خدمة الإسلام والدفاع عنه، لكنه ممن تلوّث ببدعة عقدية، أو عملية، أو دعوية، فإن المسلمين سيُحسنون به الظن، ومن ثَمَّ سيتَّبعونه في بدعته أو ضلالته، فمن هنا كان – في نظرهم – أضر على الإسلام وأهله من اليهود والنصارى!!

وهذا كلام فاسِدُ الاعتبار، أي فاسد في نفسه، وليس على إطلاقه لا مَبْنىً، ولا معْنىً!!! يوضِّح ذلك أمور:

الأول: أن القول بأن المسلمين مُحَصَّنون من شُبَه وتلبيسات أهل الكتاب قولُ من لا يعرف حقيقة كيدهم ومكْرهم وحقدهم – إلا القليل منهم – ولو كان الأمر كما قال هذا القائل لما أكثر الله من إيراد كثير من تلبيساتهم في سُور وآيات من كتاب الله عز وجل، وكشْف ذلك بجلاء.

والواقع في هذا الزمان يثبت أن لهم مكائد وخِططا على مدار عشرات السنين في إضلال المسلمين ، وصَرْفهم عن دينهم بما لا يكاد ينقضي منه العجب ، لكن الغلاة يرون عداوة من خالفهم من المسلمين أشد وآكد، فحسبنا الله ونعم الوكيل .

فهل غفل هؤلاء عن مكايد الصهيونية، واللبرالية، والعلمانية، وأثرها السيء في رجال الأمة حكاما ومحكومين؟ وهل تجاهل هؤلاء الشبهات التي يبثها أعداء المسلمين عبر وسائل الإعلام عربية وأعجمية من أجل إضلال الأمة وصرفها عن دينها، وهل خفي عليهم تشويههم للإسلام الصحيح ودعاته، وزعزعتهم لثوابته العقدية والأخلاقية؟ للأسف أن هذه الفرقة تنفّذ مخططات أعداء الأمة – وإن لم يشعروا بحقيقة ما هم عليه – ولا ترى عدوًّا لها أضر على الأمة من العاملين في مجال الدعوة، مهما كانوا أتقياء بررة، فهم عندهم أشقياء فجرة، إلا أن يقولوا بجميع قولهم الفاسد.

الثاني: أنه لا يكون أضر على الإسلام وأهله من أهل الكفر الظاهر إلا أهل النفاق الاعتقادي، الناقل في الحقيقة عن ملة الإسلام، فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار تحت كل الملل الكافرة، والحكمُ على المخالف المسلم بذلك اقتحامٌ لأمر غَيْبي، لا يسْلم المتقحِّم فيه من الافتراء على الله تعالى، وعلى الأبرياء من عباده.

الثالث: أنه يلزم من هذه القواعد الفاسدة، والتأصيلات الباردة: أنه كلما كان للمرء قَدَمُ صِدْق في نصرة الإسلام وأهله، وفي نقض تلبيسات خصومه وأعدائه، لكنه زلّتْ قدمُه في أمور، فخالف فيها أهل السنة المحْضة، أنه يكون بذلك أضرّ على الإسلام وأهله من اليهود والنصارى، ومن ثمَّ بقية الملل الكافرة، بزعم أن هناك من المسلمين من يحب هذا الرجل، ويثق فيه، ومن ثَمَّ سيتّبعه على مقالته الفاسدة، فلو طردْنا هذا اللازم؛ لكان كلما كان المرء للإسلام أنْصر، وعلى أهله وحرماته أغْير؛ كان على الإسلام وأهله أضرَّ من اليهود والنصارى والمشركين واللادينيين، بزعم أن هؤلاء المارقين من الإسلام أمرهم مكشوف، وضلالهم معروف، والأمة محصّنة من شبهاتهم وشهواتهم، وآمنة من مكرهم وكيدهم، فلا خشية على أحد من المسلمين منهم، إنما البلاء الحقيقي، والضلال المبين – في نظر هؤلاء الغلاة – محصور في ذاك العالم الذي ينتمي إلى السنة، ويثق فيه كثير من المسلمين ، ويعملون بفتواه، ويقتدون بسيرته، وإن لم يوفَّق في موضع أو أكثر.

ولاشك أن قولاً يصل بصاحبه إلى قلْب الحقائق، وجعْل الحسن قبيحًا، والممدوح مذمومًا، وكلما كان القُبْح أغلظ، كان ضرره وضرر القائل به أقلَّ وأخف، وكلما كان للمرء قدم راسخة في الإسلام وعلومه، كان نقض الإسلام وتدميره من جهته أسرع وأقرب، فقول يصل بصاحبه إلى هذا الحد قولٌ ساقط، لا يغترُّ به إلا الساقطون، لأنه يقلب الدين رأسًا على عقِب!!!

الرابع: استعمال بعض العلماء لهذه العبارة نادر جدًّا، بخلاف استعمال هؤلاء لهذا القول، الذين توسعوا في إشاعته وإطلاقه، على من هم أهدى منهم سبيلا وأقوم قِيلا، فالذي وقفت عليه من إطلاق بعض العلماء الأوائل لهذا القول – على قلّة استعمالهم إياه – إنما كان في قول بعضهم في بعض الوضاعين للحديث، من جهلة العُباد، وضُلاَّل الزهاد، الذين يتقربون بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حِسْبةً، ظنًّا منهم أنهم يُرغِّبون الناس فيما زهدوا فيه من دينهم، فقال بعض العلماء في هذه الطائفة : هؤلاء شر الوضاعين، أي لأنهم يجذبون الناس بزهدهم إلى الإفتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإطلاق من بعض العلماء محمول على من علموا منه تعمّد المخالفة، وإصرارهم على هذا الفعل القبيح بعد نصحهم، وبيان فساد طريقتهم، لكنهم أصروا على وضع الحديث إما لجهلهم بالإسلام، وتقحمهم فيما لا يحسنون، أو لطمعهم في نوالٍ أو عطاء، من أمير أو غيره، مع تظاهرهم بالعبادة والزهد، فهم يتأكلون بدينهم، أو يتقربون إلى الله بما نهاهم عنه نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فلو سلّمنا جدلاً بصحة إطلاق هذا القول وقبوله ممن قاله من الأوائل؛ فهو محمول على أنه أراد التحذير من السقوط في وَحْل هذا الفهم الفاسد، وهو ترغيب الناس في الدين بما ليس من الدين، بل بما يفسد الدين، أو أن قائل هذا القول أطلقه تهويلاً وتخويفًا، وزجرًا أو ردعًا، وحقيقة القول غير مراده، مع أنه إنما قال: هؤلاء شرُّ الوضاعين، ولم يقل: هؤلاء أضر على الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين، واللادينيين، ومع ذلك فقلَّ أن يُطلَق هذا الحكم في معيَّن، وفَرْق بين الإطلاق في الأحكام أو الذم والتعيين، بخلاف حمقى زماننا الذين ينزِّلون هذه الأحكام على أُناس بأعيانهم ويرتبون على هذه الأحكام الضالة، معاملات من الذم والتشنيع، والهجر، والعداوة، بل والسعي في إلحاق الأذى والفتن والوشاية بالمخالف ما الله به عليم، ويتقربون إلى الله بذلك، مع إكثارهم من إطلاق هذه المقولة في أناس بأعيانهم، لا لشيء إلا لأنهم خالفوا طريقتهم البائدة، وكلماتهم الفاسدة، وقد ضل بسببهم أقوام كثيرون، ولو كنا مثلهم في الضلال؛ لأعدنا عليهم مقالتهم الزائغة، وعاملناهم بأصولهم، وقلنا: هم أضر على الإسلام وأهله من اليهود والنصارى، فإن هناك كثيرين ممن اغتروا بفسادهم، وزهدوا في الدعوة السلفية الصافية بسبب أعمالهم، لكن الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني.

٢٠ رجب ١٤٣٩ هـ