الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فإن الخطأ من صفات البشرية؛ فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : “كل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون” حَسَّنَه شيخنا الألباني – رحمه الله – في “صحيح الترمذي” برقم (2499) و “صحيح ابن ماجه” برقم (4251) من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه -.
وقد قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – في “الصواعق المرسلة” (2/519): “ووقوع الاختلاف بين الناس أَمْرٌ ضروري لا بُدَّ منه؛ لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقُوَى إدراكهم، ولكن المذموم بَغْيُ بعضهم على بعض وعدوانُهُ، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين قَصْدُه طاعة الله ورسوله؛ لم يضر ذلك الاختلاف؛ فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصل واحدا، والغاية المطلوبة واحدة، والطريق المسلوكة واحدة؛ لم يَكَدْ يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافا لا يضر، كما تقدم من اختلاف الصحابة، فإن الأصل الذي بَنَوْا عليه واحدٌ، وهو كتاب الله وسنة رسوله، والقَصْدَ واحدٌ، وهو طاعة الله ورسوله، والطريقَ واحدٌ، وهو النظر في أدلة القرآن والسنة، وتقديمها على كل قول ورَأْيٍ وقياس وذَوْقٍ وسياسة” اهـ.
وليس في الأمة أحد معصوم من الاستمرار على الخطأ إلا رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – الذي يأتيه الوحي من السماء، ويهديه ربه إلى سواء الصراط، وكذلك إجماع مجتهدي الأمة، الذي عصمه الله – عز وجل – من الضلالة، وجَعَله تَكْرُمَة لهذه الأمة الإسلامية دون الأمم السابقة، وما دون ذلك فيُؤخذ من قوله ويُرَدّ.
لكن المخطئين والمخالفين للحق ليسوا على درجة واحدة، فهم أقسام:
القسم الأول: من كانت أصوله ومرجعياته وقواعده التي يحتكم إليها هي أصول أهل السنة والجماعة، وكان من أهل العلم الأفاضل، وممن يؤثر الحق على الخلْق، واجتهد – فيما يسوغ فيه الاجتهاد – فأخطأ فيما يخطئ فيه العلماء، مع حُسْن قصْده، وشدة تحرِّيه واتباعه الحق، ونصرته بالأدلة النقلية والعقلية، وكثرة صوابه؛ فأهل هذا القسم لا يُتَّبَعون على أخطائهم، ويجب بيان الحق فيما خالفوا فيه، مع الإبقاء على حُرْمتهم، والحفاظ على حِشْمتهم، لما أوجب الله – عز وجل – لهم من حقوق على الأمة؛ فإنهم ورثة الأنبياء – عليهم السلام – ومصابيح الْهُدَى، وقناديل الدُّجى، وبقاؤهم أمان لأهل الأرض، ورحمة لهم من الفتن والمدلهمات، وإذا سقطتْ هيبتهم، وتجرأ السفهاء عليهم؛ فلن يوجد قائم لله بحُجَجِه على العباد، ولا خير في أمة ينال سفهاؤها من فضلائها، أو يتمرد عوامها على علمائها!!! وهذا القسم كاختلاف الصحابة – رضي الله عنهم – ومن تبعهم من أئمة السنة في مسائل الفروع الاجتهادية، وقد ذكر الإمام ابن القيم – رحمه الله – أمثلة كثيرة لذلك في “الصواعق المرسلة” (2/516-519).
وبهذا الموقف نحقق مصلحتين:
أ) إظهار الحق، والتحذير من اتباع الخطأ، وفي هذا صيانة للشريعة من الاندثار أو التحريف عبر التاريخ.
ب) الإبقاء على مكانة العلماء في الأمة، حتى لا تَسْقُطَ هيبتهم، ويزهد الناس فيهم، فيسقط العلم الذي يحملونه، فتندثر معالم الشريعة، ويترأَّس الجهلة، ويتصدّر الأصاغر، فتَخْطُب الدجاجلة من فوق المنابر، وعند ذاك فعلى الإسلام السلام، وما بقي إلا انتظار الساعة، وظهور الفتن العِظام، والساعة أَدْهَى وأَمَرُّ!!!
القسم الثاني: وهو المقابل للقسم الأول، وهو صُدور الخطأ ممن كان معرضًا عن منهج أهل السنة، محاربًا له، صادًّا عنه، ويسلك قواعد أهل الزيغ، وأصول الفرق الضالة، وينتمي لأهل البدع الكبار، ويُلقي الشبهات على عوام المسلمين، فيزعزع إيمانهم، ويلقي في قلوبهم الشكَّ والوهَن؛ فهذا يجب التحذير منه، ومن منهجه الذي يسلكه، ويتعين إسقاط هيبته ومكانته في الأمة، حتى لا يغتر أحد به، فيتبعه على ضلالته، وينافح عن شبهاته، وفي هذا المسلك صيانة للشريعة – أيضًا – من أن يفسدها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وفَرْق بين التحذير من أهل هذا القسم، والتشريد بهم مَنْ خَلْفَهُم، وبين قبول الحق – وإن قلَّ – إذا جاء منهم، وعدم ظلمهم، ورميهم بما ليس فيهم، فالأول واجب، والافتراء عليهم – بل على الكفار – بما ليس فيهم حرام يُغْضِبُ الله – عز وجل – وقد قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾.
القسم الثالث: وهو ما بين القسمين السابقين، ممن كانت أصوله – في الجملة- سُنّية، وينتمي لأهل السنة والجماعة في الجملة، ويجاهر ببراءته من البدعة وأهلها، لكنه في الواقع قد دَخَلَتْ عليه بعضُ شبهات أهل البدع، وتأثر بها: إما لأنه قد نشأ بين أهل البدع، وسلك مسلكهم من بداية أمره، وامتلأ بشبهاتهم، ثم تاب إلى الله – جلّ وعلا – لكنه لم يستطع أن يتخلص من كل ما عليه أهل البدع، أو لأنه جالَسَ بعض أهل البدع، أو نظر في كتبهم، فتأثر ببعض كلامهم، لقلّة علمه، أو لضعف تحقيقه، أو لأنه عاش في مجتمع تغلب عليه بعض مقالات أهل البدع، فتأثر بها، لكثرة سماعها منهم، أو لدخول بعض الأفاضل عنده فيها، فقلّدهم ثقةً فيهم … أو نحو ذلك.
ففي حال هؤلاء كَثُرَ الاختلاف: فمن الناس من ينظر إلى أصل حالهم، وهو السنة، فيحسن الظن بهم وبما يذهبون إليه، ولا ينظر إلى أخطائهم ومخالفاتهم، وهذا فيه تفريط، ومنهم من ينظر إلى أخطائهم، ويسقطهم بسببها، فيطلق التشنيع عليهم، ويعاملهم معاملة القسم الثاني، وربما أشد، وهذا فيه إفراط، ومنهم من يقبل الحق منهم إذا لاحَتْ دلائله، ولا يغتر بهم فيما جانبوا فيه الصواب، فيرد خطأهم، ويبين السبب الذي زَلَّتْ به أقدامهم، وضلّت به أفهامهم، وهذا هو الوسط والعدل.
لكن يجب أن يُعْلَم: أن الذين يتمكنون من تمييز الصواب والخطأ في الناس قليل، لاسيما إذا كان الخطأ قد صَدَر من رجل له قدَمُ صِدْق في نصرة الإسلام، فَيَنْدُر جدًّا تمييز ما أخطأ فيه، إلا لعالم نحرير، ورجل متمرِّس بصير، فلا بأس – في حق هذا الصنف الذي يتمكن من التمييز – أن يجالس أصحاب هذا القسم، أو ينظر في كتبهم، إذا كان لذلك حاجة شرعية، كأخْذ عِلْم منهم، أو جهاد الكفار معهم، ونحو ذلك، وإلا فلا يَعْدِلُ بالسلامة شيئًا، وهذا كما قال الإمام سفيان بن سعيد الثوري لما سأله بعضهم عن الأخذ عن ثَوْر بن يزيد الكلاعي، وهو ثقة ثبت في الحديث، لكنه رُمي بالقَدَر، فقال مقالته التي تمثّل منهجًا في هذا المقام: “خُذُو عن ثَوْر، واتَّقُوا قَرْنَيْه”، أي: خُذُوا عنه العلم أو الحديث الذي هو متقن له، بما لا يؤيّد بدعته، لكن احذروا بدعته ومقالته في القَدَر، وشبّه البدعة بقرني الثور الذي ينطح بهما غيره، وهذا الصنف من ذوي التمييز بعد بلوغهم هذه الأهلية لا يُخشى عليهم اختلاطهم بغيرهم، كما لا يُخْشى على ضالة الإبل، لأن معها سِقاءها وحِذاءها، تَرِدُ الماء وتَرْعَى الشجر، فذَرْها حتى يلْقاها ربُّها – أي حتى يجدها صاحبها ومالكها إذْ لا خوف عليها من الهلكة – أما من لم يَبْلُغ هذه المنزلة التي تؤهله للتمييز، ولم يكن لاقترابه من هذا القسم حاجة شرعية؛ فإنه يجب عليه أن ينأى بنفسه عن مُجالستهم، أو مُناظرتهم، بل يفرّ منهم فراره من الأسد، فإن لم يبالِ بنصوص العلماء في التحذير من مخالطتهم؛ فإنه لا يكاد يَسْلَم، وحاله حينئذ كحال ضالّة الغنم: هي لَكَ، أو لأخيك، أو للذئب، أي هي هالكة هالكة، لا أمل في نجاتها، ورجوعها إلى مولاها، فخُذْها قبل أن يأكلها الذئب أو غيره.
لكن مع هذا كلّه: فالعارف بحالهم، أو المقلِّد لمن عَرَفَ حالهم – وقد أصبح المقلَّد المتبوع أهلاً لأن يقلِّده العامة في هذا – يَقْتَصِر على ردّ خطئهم، وكَشْف عَوَاره، وبيان كيف دخل الخطأ عليهم، والتحذير منه دون محاولة إسقاطهم بالكلية؛ لأن كثيرًا من علماء الأمة، ومن ذاع صيتهم في بلدانهم، وردُّوا على أهل البدع الكبار بالأدلة والبراهين، ولهم مكانة في قلوب الناس، وجرى على أيديهم النفع لطوائف من المسلمين، لا يكادون يَسْلمون من هذا الخطأ، وهم من أهل هذا القسم الثالث، فلو أسقطناهم بالكلية لوجود تلك الأخطاء والمخالفات عندهم؛ لضاع خير كثير على الأمة، ولذهبت كثير من العلوم والمعارف، والأمثلة على هذا كثيرة، والصفاء عزيز، والله المستعان.
وهذا تقسيم عام في الجملة، تجب مراعاته، لكن من كان في قلبه هوى، أو تقليد أعمى؛ فإنه سَيَحْشُر كل مخالفيه في القسم الثاني أهل البدع الكبار، ولو خجل من ذلك، وتنازل في حقهم – وعُدَّ مُفرِّطًا ومُميِّعا في نظر الغلاة من أصحابه – فإنه سيدخلهم في القسم الثالث، ويحتج بكلام من أسقطهم من العلماء – وإن كان إطلاق قوله مخالفًا للصواب – وبوابة لإسقاط جُلِّ العلماء من التابعين وأتباعهم في القرون المفضلة وما بعدها، وفي هذا جناية على الإسلام، لا يُغَطِّيها ذَيْل، ولا يَسْتُرها لَيْل، إلا أن الذي أوقعه في ذلك: أَخْذُ إطلاقات وظواهر كلام بعض العلماء دون مراعاة الأسباب التي حَمَلَتْ بعضهم على إطلاق التحذير من أهل هذا القسم، ودون الرجوع إلى السياق واللحاق لكلامهم، ودون الرجوع إلى كيفية السؤال الذي وُجِّه إليهم، فأجابوا عليه بالتحذير من المسؤول عنهم، ودون معرفة الفرق بين الفتاوى التي يُراد بها الإطلاق، والأخرى التي تُنَزّل على الأعيان، ودون مراعاة قاعدة استيفاء الشروط في الأعيان، وانتفاء الموانع عنهم، إلى غير ذلك مما يتعين على المنصف أن يراعيه، ويرجع إليه، فنسأل الله طهارة القلوب من سوء القصد والغِلّ على أحد من المؤمنين، وسلامة العقول من سوء الفهم.
وأصل المشكلة عند كثير ممن ينتسب إلى العلم؛ أنه لا يُفَرِّق بين التحذير من اتباع أحد العلماء على خطئه، وبين عدم إسقاطه وإهداره، لينتفع به الناس في جوانب أخرى أحْسن فيها وأجاد!!
وهذه أقوال بعض أهل العلم التي تدل على أنه لا يلزم من ردِّ الخطأ على صاحبه من أهل هذا القسم الثالث – فضلاً عن الأول – وتحذير الناس من اتّباعه عليه؛ إسقاطه بالكلية، وردّ ما عنده من الحق:
[1] قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كما في “مجموع الفتاوى” (11/15-16): “ثم الناس في الحب والبغض، والموالاة والمعاداة، هم أيضًا مجتهدون، يصيبون تارة، ويخطؤون تارة، وكثير من الناس إذا عَلِمَ من الرجل ما يحبه؛ أحب الرجل مطلقًا، وأعرض عن سيئاته، وإذا عَلِمَ منه ما يُبْغِضه؛ أبغضه مطلقًا، وأعرض عن حسناته، وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة، وأهل السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع…”.اهـ.
قلت: فهذا يدل على أن إهدار المخالف بالكلية، وعدم قبول الحق منه لوجود سيئات عنده؛ مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة، وموافق لمنهج أهل البدع والأهواء، ولا يلزم من ذلك وجوب ذِكْر حسنات المخالف دائمًا، إنما لذلك حالات معينة، ليس هذا موضع بسطها، والله أعلم. وانظر “مجموع الفتاوى” (10/366) و”الاستقامة” (1/221).
[2] وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في “مدارج السالكين” (2/39-40) – وقد أشار لشطحات بعض المخالفين-: “وهذه الشطحات أوجبتْ فتنةً على طائفتين من الناس:
إحداهما: حُجِبتْ بها عن محاسن هذه الطائفة، ولُطْف نفوسهم، وصِدْقِ معاملاتهم، فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساؤوا الظن بهم مطلقًا، وهذا عُدْوان وإِسْراف، فلو كان كل من أخطأ أو غَلِطَ، تُرك جملةً، وأُهْدِرَتْ محاسنه؛ لفسدتِ العلوم والصناعات والحِكَم، وتَعَطَّلَتْ معالِمُها…”.
ثم ذكر -رحمه الله- الطائفة المضادة لما سبق، وسماهم معتدين مُفَرِّطين، ثم قال:
والطائفة الثالثة: “وهم أهل العدل والإنصاف، والذين أَعْطَوْا كلَّ ذي حَقٍّ حقَّه، وأنزلوا كل ذي مَنْـزلة منـزلتَهُ، فلم يحكموا للصحيح بحُكْم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحُكْم الصحيح، بل قَبِلُوا ما يُقْبَلُ، وردُّوا ما يُرَدُّ” .اهـ.
وقال – أيضًا – في “مدارج السالكين” (1/198) في سياق ذِكر ما أُخِذَ على أبي إسماعيل الهروي – رحمه الله – حتى رماه بعضهم بقول الحلولية والاتحادية الضالين، فقال: “ولا تُوجِبُ هذه الزلةُ من شيخ الإسلام إِهْدارَ محاسنه، وإساءةَ الظن به، فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك؛ المحلُّ الذي لا يُجْهَل، وكل أحد فَمَأْخُوذ من قوله ومَتْرُوك، إلا المعصوم – صلوات الله وسلامه عليه – والكامل مَنْ عُدَّ خطؤه، ولا سيما في مثل هذا المجال الضَّنْك، والمعترك الصعْب، الذي زَلَّتْ فيه أقدام، وضَلَّتْ فيه أفهام، وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأَشْرَفُوا -إلا أقلهم- على أودية المهلكات، وكيف لا؛ وهو البحر الذي تجري سفينة راكبه في موج كالجبال، والمعترك الذي تضاءلت لِشُهُوده شجاعة الأبطال، وتحيرت فيه عقول ألبّاء الرجال، ووصلت الخليقة إلى ساحله يبغون رَكُوبه …” إلخ ما قال -رحمه الله- من كلام نفيس، فارجع إليه -إن شئت-.
هذا مع أن الهروي – رحمه الله – تكلم بكلام طمع فيه من أجله أهل الحلول والاتحاد، بل أقسموا بالله إنه لمنهم، وما هو منهم، فأين هذا من أخطاء من يفتري عليه اليوم غلاةُ الجرح والتعديل، والهجر والتضليل، مع أن بعض هؤلاء المفترى عليهم أغزر منهم علمًا، وأكثر منهم حلمًا ونفعًا وفهما؟!
وقال – رحمه الله – في “إعلام الموقعين” (3/283): “الثاني: معرفة فضل أئمة الإسلام، ومقاديرهم، وحقوقهم، ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله؛ لا يُوجِب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خَفِيَ عليهم فيها ما جاء به الرسول، فقالوا بِمَبْلَغ عِلْمِهم، والحقُّ في خلافها؛ لا يُوجِبُ اطِّراحَ أقوالهم جملة، وتنقُّصَهُمْ، والوقيعةَ فيهم، فهذان طرفان جائران عن القصْد، وقَصْدُ السبيل بينهما، فلا نُؤَثِّم ولا نُعَصِّم، ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في عليٍّ، ولا مسلكهم – أي الرافضة أيضًا – في الشيخَيْنِ، بل نسلك مسلكهم أنفسهم – يعني مسلك العلماء – فيمن قَبْلهم من الصحابة؛ فإنهم لا يُؤَثِّمونهم، ولا يُعَصِّمونهم، ولا يَقْبَلُون كل أقوالهم، ولا يُهْدِرونها، فكيف يُنكرون علينا في الأئمة الأربعة، مسلكًا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة، ولا منافاة بين هذين الأمرين، لمن شرح الله صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين: جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم، أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث الله بها رسوله، ومَنْ له عِلْم بالشرع والواقع؛ يَعْلَم قطعًا أن الرجل الجليل، الذي له في الإسلام قَدَمٌ صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان؛ قد تكون منه الهفوة والزلة، هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتَّبَعَ فيها، ولا يجوز أن تُهْدَرَ مكانته وإمامته ومنـزلته من قلوب المسلمين” .اهـ.
فتأمل أيها المنصف هذا الكلام الرائق الصافي، الذي يروي الغليل، ويشفي العليل، والذي قد حُرِمَهُ أهل الجهل والتجهيل!!!
[3] وقد قال الشاطبي – رحمه الله – في “الموافقات” (4/170-171): “إن زلة العالم، لا يَصِحُّ اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليدًا له… كما أنه لا ينبغي أن يُنْسَب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يُشنَّع عليه بها، ولا يُنْتَقَص من أَجْلها، أو يُعْتَقَد فيه الإقدام على المخالفة بَحْتًا؛ فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين” .اهـ.
[4] الحافظ الذهبي -رحمه الله- فقد قرر هذا في عدة مواضع:
أ- ففي “النبلاء” (14/374-376) ترجمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، والذي يُلَقَّب بإمام الأئمة، قال -رحمه الله-: “ولابن خزيمة عَظَمَةٌ في النفوس، وجلالة في القلوب؛ لعلمه ودينه واتباعه السنة، وكتابُهُ في التوحيد مُجَلَّدٌ كبير، وقد تَأَوْل في ذلك حديث الصورة، فليُعْذرْ من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل، بل آمنوا وكَفُّوا، وفَوّضوا عِلْمَ ذلك إلى الله ورسوله([1])، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده، مع صحة إيمانه، وتوخِّيه لاتباع الحق؛ أَهْدَرْناه، وبَدَّعْناه؛ لَقَلّ مَنْ يَسْلَمُ مِنَ الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه” .اهـ. هذا مع أن هناك من الأئمة من جعل الكلام بذلك في حديث الصورة من قول الجهمية، وفَرْقٌ بين تخطئة ابن خزيمة فيما خالف فيه أهل السنة، وبين إسقاطه وإهداره، والحق وسَطٌ بين طرفيْن، وهُدًى بين ضلالتين.
قلت: وفي تعليقة على “التوحيد” لابن خزيمة، للدكتور الشهوان (1/90) تابع الحاشية [1]: قال الحافظ أبوموسى المديني فيما جمعه من مناقب الإمام قِوَام السنة أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن إسماعيل التيمي: «سمعته يقول: أخطأ محمد بن إسحاق بن خزيمة في حديث الصورة، ولا يُطْعَنُ عليه في ذلك، وقال أبو موسى: أشار بذلك إلى أنه قَلَّ مِنْ إمام إلا وله زَلّة، فإذا تُرِك الإمام لأجل زلته؛ تُرك كثير من الأئمة، وهذا لا ينبغي أن يُفْعَل” .اهـ.
ب- وفي “النبلاء” (14/39-40) ترجمة محمد بن نصر المروزي، ذكر الذهبي بعض المسائل التي خالف فيها أهل السنة -مع إمامته- وقد هجره بعض علماء وقته، فَرَدَّ ذلك الذهبي، ثم قال: “ولو أنَّه كلما أَخْطَأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل، خطأ مغفورًا له؛ قُمْنَا عليه، وبدَّعْناه، وهَجَرْناه؛ لما سَلِمَ معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة” .اهـ.
فتأمل قوله: “فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة”؛ ففيه إشارة إلى أن هذا المسلك المخالف من مسالك أهل الهوى والفظاظة، كيف لا، وهم بهذا سيهدرون الدين بإهدار علمائه؟!!
ج- وفي “النبلاء” (5/271) ترجمة قتادة بن دعامة السدوسي البصري، قال الذهبي -رحمه الله-: “ثم إن الكبير من أئمة العلم، إذا كثر صوابه، وعُلِم تحريه للحق، واتسع عِلْمه، وظَهَر ذكاؤه، وعُرف صلاحه، وورعه، واتباعه؛ يُغْفَرُ له زَلَلُهُ، ولا نضلّله ونطَّرحه، ونَنْسى محاسنه، نَعَمْ: ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك” .اهـ، هذا، وقتادة قد تكلم فيه بعضهم من أجل مقالة القدرية التي كانت مشهورة في البصرة، وتأثر بها بعض المشاهير.
[5] وفي “الدرر السَّنِيَّة” (10/57) قال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب النجدي – رحمه الله- في رسالته إلى عبدالله بن عيسى وابن عبدالوهاب: “…ومتى لم تتبيَّن لكم المسألة؛ لم يَحِلَّ لكم الإنكار على من أفتى أو عمل، حتى يتبين لكم خطؤه، بل الواجب السكوت والتوقف، فإذا تحققتم الخطأ؛ بَيَّنْتُمُوه، ولم تُهْدِروا جميع المحاسن لأجل مسألة، أو مائة، أو مائتين، أخطأتُ فيهن؛ فإني لا أَدَّعِي العصمة” .اهـ.
فماذا يقول الغلاة في التبديع، ودعاة الهجر والتشنيع في مثل هذه النصوص؟!
[6] وفي “مجموعة الرسائل والمسائل النجدية” (3/162) قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ -رحمهم الله جميعًا- في رسالته إلى زيد بن محمد آل سليمان: “… فيجب حماية عِرْض من قام لله، وسَعَى في نصر دينه الذي شرعه وارتضاه، وتَرْك الالتفات إلى زلاته، والاعتراض على عباراته، فمحبة الله، والغيرة لدينه، ونصرة كتابه ورسوله؛ مَرْتَبَةٌ عَليَّة، محبوبة لله مَرْضِيَّة، يُغْتَفَر فيها العظيم من الذنوب، ولا يُنْظَر معها إلى تلك الاعتراضات الواهية، والمناقشات التي تفتُّ في عضد الداعي إلى الله، والملتمس لرضاه، وهَبْهُ كما قيل؛ فالأمر سَهْلٌ في جنب تلك الحسنات، “وما يدريك: لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم”.
فلْيصْنَع الركبُ ما شاؤوا لأنفسهم هُمْ أهلُ بَدْرِ فلا يَخْشَوْنَ مِنْ حَرَجِ
ولما قال المتوكِّل لابن الزيات: يا ابن الفاعلة، وقذف أمه، قال الإمام أحمد – رحمه الله-: “أرجو أن الله يغفر له؛ نظرًا إلى حُسْن قَصْده في نَصْر السنة، وقَمْع البدعة” ولما قال عمر لحاطب ما قال، ونسبه إلى النفاق؛ لم يعنِّفه النبي r، وإنما أخبره أنَّ هناك مانعًا…”.اهـ.
هذا، ولا تفهم -أيها القارئ الكريم- من هذا النقل أنني أرى السكوت عن الخطأ – فضلاً عن الأخْذ به – وإن صَدَر من الكبار!! لكن المراد أنه يُنْكَر بالأسلوب الذي يحفظ حِشْمة المردود عليه، ولا يُهْدِرُ الخير الذي عند الداعية السني الذي قَصْده الحق، وأصولُهُ على السُّنة، وله بلاء حَسَنٌ في الدفاع عن السنة وأصولها وعلمائها، كما أن له قَدَمَ صِدْق في الحق ونصرته، ودَحْر شبهات المخالفين له، كما أنه يجب أن يُنْظَر – أيضًا – إلى عاقبة التصريح بالإنكار على من هذا حاله، وإشهار ذلك بين الناس، فقد يَشمت أهل البدع في الداعية السني بسبب إنكار إخوانه عليه، وقد يقع الشك والريب في صحة ما عليه هذا الرجل السني في قلوب حديثي العهد بالدعوة، وقد يفضي هذا التشنيع إلى ما لا تُحْمد عاقبته من ردود وانتصار للنفس، وتحزُّب لا يرضي الله – عز وجل – فلا بُدّ من مراعاة أسلوب الإنكار، وما له على الدعوة وأهلها وأعدائها من آثار.
[7] وقال صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين- رحمه الله- كما في “مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين” (1/120-121): “وأما موقفنا من العلماء المؤولين، فنقول: من عُرِفَ منهم بحُسْن النية، وكان لهم قَدَمُ صِدْق في الدين، واتباع السُّنة؛ فهو معذور بتأويله السائغ، ولكنَّ عُذْرَه في ذلك؛ لا يَمْنَع مِنْ تخطئة طريقته المخالفة لما كان عليه السلف الصالح، من إجراء النصوص على ظاهرها، واعتقاد ما دل عليه ذلك الظاهر، من غير تكييف ولا تمثيل، فإنه يجب التفريق بين حُكْمِ القول وقائله، والفعلِ وفاعله، فالقول الخطأ إذا كان صادرًا عن اجتهاد وحُسْن قَصْد؛ فلا يُذَم عليه قائله، بل يكون له أجر على اجتهاده، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “إذا حَكَمَ الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حَكَمَ، فاجتهد، ثم أخطأ؛ فله أجر” متفق عليه، وأما وَصْفُه بالضلال: فإنْ أُرِيَد بالضلال الضلالُ المطلقُ، الذي يُذَمُّ به الموصوف، ويُمْقَتُ عليه؛ فهذا لا يَتَوَجَّه في مثل هذا المجتهد، الذي عُلِمَ منه حُسْنُ النية، وكان له قَدَمُ صِدْق في الدين، واتباع السُّنة، وإن أريد بالضلال مخالفة قوله للصواب، من غير إشعار بِذَمِّ القائل؛ فلا بأس بذلك، لأن مثل هذا ليس ضلالاً مطلقا؛ لأنه من حيث الوسيلة صواب، حيث بَذَلَ جُهْده في الوصول إلى الحق، لكنه باعتبار النتيجة ضلال، حيث كان خلاف الحق، وبهذا التفصيل يزول الإشكال والتهويل، والله المستعان”.اﻫ وانظر “فتاوى أركان الإسلام” (ص72).
وهذا كلامه – رحمه الله – فيمن أوّل بعض الصفات، فما ظنك بما هو دون ذلك بدرجات ودرجات؟ بل يلزم منهج أهل السنة، ويفاخر به، وينقض ما خالفه بقدر استطاعته، بل يتبرأ مما خالفه جملة وتفصيلا، ولا يخرج عن منهج أئمة السلف في الأسماء والصفات، بل لا ينفرد بقول ليس له فيه إمام، فضلا عن عدم مخالفة الإجماع الثابت؟! إنما عَيْبه عند هؤلاء الغلاة: أنه لا يجاريهم في باطلهم، وظلمهم، وتجاوزهم، ولم يُبَدِّع مَنْ بَدَّعوه، ويَهْجُر من هجروه؟!
وقال – رحمه الله- في “كتاب العلم” (ص41-42) ط/دار الثريا: “الأمر التاسع: احترام العلماء وتقديرهم: إن على طلبة العلم احترامَ العلماء، وتقديَرهُمْ، وأن تتسع صدورهم لما يحصل من اختلاف بين العلماء وغيرهم، وأن يقابلوا هذا بالاعتذار عمن سلك سبيلاً خطأ في اعتقادهم، وهذه نقطة مهمة جدًا؛ لأن بعض الناس يتتبع أخطاء الآخرين؛ ليتخذ منها ما ليس لائقًا في حقهم، ويُشَوّش على الناس سُمْعَتَهُم، وهذا من أكبر الأخطاء، وإذا كان اغْتِيَابُ العامي من الناس من كبائر الذنوب؛ فإن اغْتِيَاب العالِم أكبر وأكبر؛ لأن اغْتِيَاب العالِم لا يقتصر ضرره على العالِم، بل عليه وعلى ما يَحْمِلُه من العِلْم الشرعي، والناس إذا زَهَدوا في العالِم، أو سَقَط من أعينهم؛ تَسْقُط كلمته أيضًا، (وإن) كان يقول الحق، ويهدى إليه؛ فإن غِيبَةَ هذا الرجل لهذا العالم، تكون حائلاً بين الناس وبين علمه الشرعي، وهذا خطره كبير وعظيم“.
قال: أقول: “إن على هؤلاء الشباب، أن يَحْمِلُوا ما يجرى بين العلماء من الاختلاف على حُسْن النية، وعلى الاجتهاد، وأن يعذروهم فيما أخطؤوا فيه، ولا مانع أن يتكلموا معهم فيما يعتقدون أنه خطأ، ليبينوا لهم؛ هل الخطأ منهم، أو من الذين قالوا: إنهم أخطؤوا؛ لأن الإنسان أحيانًا يتصور أن قول العالِم خطأ، ثم بعد المناقشة يتبين له صوابه، والإنسان بَشَرٌ، “كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون” أما أن يَفْرح بزلة العالم وخطئه، ليشيعها بين الناس، فتحصل الفُرْقة؛ فإن هذا ليس من طريق السلف”.اﻫ فتأمل كيف أن بعض الغلاة يوهم الناس: بأن الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – على منهجه فيما يسلكه من الهجْر والتشنيع، فأين كلامهم من هذا الكلام؟!
– وفي “كتاب العلم” أيضًا (ص215-217) سؤال: ما قولكم فيمن يتخذ من أخطاء العلماء طريقًا للقدح فيهم، ورميهم بالبهتان، وما النصيحة التي توجهها لطلبة العلم في ذلك؟ فأجاب الشيخ- رحمه الله- قائلاً: “العلماء بلا شك يخطؤون ويصيبون، وليس أحد منهم معصومًا، ولا ينبغي لنا، بل ولا يجوز أن نتخذ من خطئهم سُلّمًا للقدح فيهم، فإن هذا طبيعة البشر كلهم، أن يخطؤوا إذا لم يُوفَّقوا للصواب، ولكن علينا إذا سمعنا عن عالم، أو عن داعية من الدعاة، أو عن إمام من أئمة المساجد، إذا سمعنا خطأ؛ أن نتصل به، حتى يتبيّن لنا، لأنه قد يحصل في ذلك خطأ في النقل عنه، أو خطأ في الفهم لما يقول، أو سوء قَصْد في تشويه سُمْعة الذي نُقِل عنه هذا الشيء، وعلى كل حال: فمن سمع منكم عن عالم، أو عن داعية، أو عن إمام مسجد، أو أي إنسان له ولاية، من سمع (عنه) مالا ينبغي أن يكون؛ فعليه أن يتصل به، وأن يسأله: هل وقع ذلك منه، أم لم يقع؟ ثم إذا كان قد وقع؛ فليبين له ما يرى أنه خطأ، فإما أن يكون قد أخطأ؛ فيرجع عن خطئه، وإما أن يكون هو المصيب؛ فيبين وجه قوله، حتى تزول الفوضى التي قد نراها أحيانًا، ولا سيما بين الشباب، وأن الواجب على الشباب وعلى غيرهم، إذا سمعوا مثل ذلك؛ أن يكفّوا ألسنتهم، وأن يسعوا بالنصح والاتصال بمن نُقِل عنه ما نُقل، حتى يتبين الأمر، أما الكلام في المجالس، ولا سيما في مجالس العامة، أن يُقال: ما تقول في فلان؟ ما تقول في فلان الآخر, الذي يتكلم ضد الآخرين؟ فهذا أمر لا ينبغي بَثُّهُ إطلاقًا، لأنه يثير الفتنة والفوضى، فيجب حفظ اللسان، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمعاذ بن جبل – رضي الله عنه -: “ألا أُخْبِرُك بِمَلاك ذلك كُلِّه؟” قلت: بلى، يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه، وقال: “كُفَّ عليك هذا”، قلت: يا رسول الله، إنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: “ثَكَلَتْكَ أُمُّك يا معاذ، وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم– إلا حصائد ألسنتهم؟”، وأنصح طلبة العلم وغيرهم أن يتقوا الله، وألا يجعلوا أعراض العلماء والأمراء مَطِيَّةً تركبونها كيفما شئتم، فإنه إذا كانت الغِيبَةُ في عامة الناس من كبائر الذنوب؛ فهي في العلماء والأمراء أشد وأشد، حمانا الله وإياكم عما يغضبه، وحمانا عما فيه العدوان على إخواننا، إنه جواد كريم”. اﻫ وانظر نحو ذلك في شريط (الحياة السعيدة) الوجه (ب) .
[8] وكذلك الشيخ صالح بن فوزان الفوزان – حفظه الله – فإن له كلامًا يؤيِّد ما نحن بصدده، وهو على خلاف ما عليه كثير من المتهوِّرين -أيضًا- ففي كتاب “محاضرات في العقيدة” (2/191) للشيخ صالح الفوزان، قال -حفظه الله-: “الطريقة الصحيحة للتعامل مع العلماء عند ظن خطئهم: نعم، أنا لا أقول عن العلماء: معصومون، وأنهم لا يخطؤون، العصمة لكتاب الله، وسنة رسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – والعلماء يخطؤون، ولكن ليس العلاج أننا نُشَهِّر بهم، وأننا نتخذهم أغراضًا في المجالس، أو ربما على بعض المنابر، أو بعض الدروس، لا يجوز هذا أبدًا، حتى لو حصلت من عالم زلة أو خطأ؛ فإن العلاج يكون بغير هذه الطريقة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾، نسأل الله العافية والسلامة، فالواجب أن نتنبه لهذا الأمر، وأن يحترم بعضنا بعضا، ولا سيما العلماء، فإن العلماء ورثة الأنبياء، ولو كان فيهم ما فيهم”. اﻫ .
فتأمل – هداك الله لما فيه رضاه – كلام العلماء، وحِرْصهم على بيان الحق مع إغلاق باب الفوضى الي يخُبُّ فيها ويضَعُ كثير من المنتسبين للعلم، والله المستعان!!!
[9] وقال شيخنا مقبل بن هادي الوادعي – رحمه الله – في “قمع المعاند” (ص475): “وشَخْصٌ سُنِّيٌّ، ولو أخطأ، لابد أن يُغَضَّ الطرف عنه، والحمد لله، وأما الرجوع إلى الحق، ففضيلة، والحمد لله الذي وفقني لذلك” .اهـ.
ويقال في هذا أيضًا: ما قيل في كلام الشيخ عبداللطيف- رحمه الله- وانظر “فضائح ونصائح” (ص146) فليس المراد أن نقبل الخطأ منه، لمكانته الرفيعة بين أهل السنة، ولكن ليس كل إنكار، ومن أي شخص، وبأي أسلوب، وفي أي وقت، ومع كل ظَرْف يكون نافعًا، أو مأمون العاقبة!!
[10] وقال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ – حفظه الله تعالى- في شريط “الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء” الوجه (ب): “أيضًا، إذا كانت المسألة متعلقة بالعقائد، أو كانت المسألة متعلقة بعالم من أهل العلم في الفتوى في شأنه، في أمر من الأمور؛ فإنه هنا يجب النظر فيما يَؤُولُ إليه الأمر من المصالح ودفع المفاسد؛ ولهذا ترى أئمة الدعوة – رحمهم الله تعالى- من وقت الشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف بن حسن – أحد الأئمة المشهورين- والشيخ محمد بن إبراهيم، إذا كان الأمر متعلقًا بعالم، أو بإمام، أو بمن له أثر في السنة؛ فإنهم يتورَّعُون، ويَبْتَعِدُون عن الدخول في ذلك:
الشيخ صِدِّيق حسن خان القِنَّوْجيّ الهندي: المعروف، عند علمائنا له شأن، ويقدِّرون كتابه “الدين الخالص”، مع أنه نَقَدَ الدعوة في أكثر من كتاب له، لكن يغضّون النظر عن ذلك، ولا يُصَعِّدون هذا، لأجل الانتفاع بأصل الشيء، وهو تحقيق التوحيد، ودرء الشرك.
المثال الثاني: الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني: المعروف، صاحب كتاب “سبل السلام” وغيره، له كتاب “تطهير الاعتقاد”، وله جهود كبيرة في رد الناس إلى السنة، والبُعْدِ عن التقليد المذموم، والتعصب، وعن البدع، لكنْ زَلَّ في بعض المسائل، ومنها ما يُنْسَبُ إليه في قصيدته المشهورة، لما أثنى على الدعوة، قيل: إنه رجع عن قصيدته تلك بأخرى، يقول فيها: “رجعت عن القول الذي قلتُ في النجدي” يعني: محمد بن عبدالوهاب النجدي، ويأخذ هذه القصيدة أرباب البدع، وهي تُنسب له، وتُنسب لابنه إبراهيم، وينشرونها على أن الصنعاني كان مؤيدًا للدعوة، لكنه رجع.
والشوكاني أيضًا – رحمه الله تعالى-: مقامه أيضًا معروف، ومع ذلك كان علماؤنا الشوكاني[2] له اجتهاد خاطئ في التوسل، وله اجتهاد خاطئ في الصفات، وتفسيره في بعض الآيات له تأويل، وله كلام في عمر -رضي الله عنه- ليس بالجيد، و له كلام -أيضًا- في معاوية – رضي الله عنه- ليس بالجيد، لكن العلماء لا يَذْكُرون ذلك، وألَّف الشيخ سليمان بن سحمان -رحمه الله- كتاب “تبرئة الشيخين الإمامين”، يعني: بهما الإمام الصنعاني والإمام الشوكاني، وهذا لماذا؟ لماذا فعل ذلك؟ لأن الأصل الذي يَبْنِي عليه هؤلاء العلماء هو السنة، فهؤلاء ما خالفونا في أصل الاعتقاد، وما خالفونا في التوحيد، ولا خالفونا في نصرة السنة، ولا خالفونا في رد البدع، وإنما اجتهدوا، فأخطؤوا في مسائل، والعالم لا يتبع بزلته -كذا، ولعله لا يُتَتَبَّع بزلته: أي: يفضح بزلته- كما أنه لا يُتَّبَع في زلته- أي: لا يُقتدى به فيها – فهذه تُتْرَك ويُسْكَت عنها، ويُنشَر الحق، ويُنْشَر من كلامه مما يُؤَيَّد به.
وعلماء السنة لما زلّ ابن خزيمة -رحمه الله- في مسألة الصورة، كما هو معلوم، ونفى صفة الصورة لله – جل وعلا – ردّ عليه ابن تيمية -رحمه الله- في أكثر من مائة صفحة، مع ذلك؛ علماء السنة يقولون عن ابن خزيمة: إنه إمام الأئمة، ولا يرضون أن أحدًا يطعن في ابن خزيمة؛ لأن كتاب “التوحيد”، الذي ملأه بالدفاع عن التوحيد لله رب العالمين، وبإثبات أنواع الكمالات لله – جل وعلا – في أسمائه ونعوته، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، والذهبي -رحمه الله- في “سير أعلام النبلاء” قال: “وزل ابن خزيمة في هذه المسألة”.
فإذنْ: هنا إذا وقع زلل في مثل هذه المسائل، فما الموقف منها؟ الموقف: أنه يُنظر إلى موافقته لنا في أصل الدين، وموافقته للسنة، ونصرته للتوحيد، ونصرته لنشر العلم النافع، ودعوته إلى الهدى، ونحو ذلك من الأصول العامة، ويُنْصَح في ذلك، وربما رُدَّ عليه على حِدَةٍ، لكن لا يُقْدَحُ فيه قَدْحًا –كذا – يلقيه تمامًا – أي يسْقطه – وعلى هذا كان منهج أئمة الدعوة في هذه المسائل، كما هو معروف.
وقد حدثني فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان – حفظه الله تعالى- حينما ذكر قصيدة الصنعاني الأخيرة : “رجعتُ عن القول الذي قُلْتُ في النجدي” التي يقال: إنه رجع فيها، أو أنه كتبها، قال: سألت شيخنا محمد بن إبراهيم -رحمه الله- عنها، هل هي له، أم ليست له؟ قال: فقال لي: الظاهر أنها له، والمشايخ مشايخنا يرجحون أنها له، ولكن لا يريدون أنه يقال ذلك؛ لأنه نَصَرَ السنة، ورَدَّ البدعة، مع أنه هجم على الدعوة، وتكلَّم في هذه القصيدة عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ثم الشوكاني له قصيدة أرسلها إلى الإمام سعود، ينهاه فيها عن كثير من الأفعال، من القتال، ومن التوسُّع في البلاد، ونحو ذلك في أشياء، لكنَّ مقامه محفوظ، لكن ما زلُّوا فيه؛ لا يُتَابَعُون عليه، ويُنْهَى عن متابعته …”.
إلى أن قال حفظه الله: “لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، وهذه القاعدة المتفق عليها، لها أثر كبير، بل يجب أن يكون لها أثر كبير في الفتوى…”.اهـ.
فتأمل نسبة هذا المنهج إلى أئمة الدعوة النجدية، وأن كلام الشيخ صالح – أيَّده الله – عام في كل من له أثر في السنة، فمن أين أتى كثير من الغلاة بهذه الطريقة التي ينافحون عنها، ويزعمون أنها منهج السلف، والتي خالفوا بها السلف والخلف؟!
فالزم يا طالب النجاة منهج العلماء الأفاضل، والأئمة الأماثل، ولا تتبع انحرافات المنحرفين عن الجادة، وإن قالوا – تشَبُّعًا وافتراء – نحن على منهج السلف الصافي، ويرمون من خالفهم، وكشف تجاوزاتهم بأنه يحارب أهل الحديث!!! فيا لله العجب، وهل من زاغ عن منهج أهل الحديث، ونسَب إليهم ما هم براءٌ منه، وزَيَّف دعوى المنتسبين لهم قولا لا عملا ولا حالا؛ يكون محاربًا لأهل الحديث؟
ومما يدلُّ على فساد هذه الافتراءات: أن أئمة السنة لما رأوْا من ينتسب إلى أهل الحديث بالقول، ولكنه وقع في حزبيّة جاهلية، وتعصّب ممقوت؛ ذمّوه، وحذّروا منه، ولذلك لما رأى الأئمة المتقدمون والمتأخرون من انتحل الحديث، وهو ليس له بأهل؛ أنكروا عليهم، فقد قال الذهبي مُحَذِّرًا بعض منتحلي الحديث في زمانه:
فَدَعْ عنك الكتابةَ لستَ منها ***** ولو سَوَّدْتَ وجْهَكَ بالمداد
وقال أيضًا كاشِفًا زَيْفَهم:
وللحروب رجالٌ يُعْرفون بها ***** وللدواوين كُتّابٌ وحُسّابُ
وانظر كلام الذهبي في “النبلاء” (17/41) وفي “تذكرة الحفاظ” (1/10) ترجمة الصديق – رضي الله عنه – حيث قال في معرض كلامه على المتسلّقين زورًا على الحديث وأهله: “…وإن غَلَبَ عليك الهوى والعصبية لِرَأْي أو لمذهب؛ فبالله لا تَتْعَبْ، وإن عَرَفْتَ أنك مُخَلِّط مُخَبِّط مُهْمِل لحدود الله؛ فأَرِحْنا منك، فبعد قليل ينكشف البهرج، ويَنْكَبُّ الزغَل، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فقد نصحتك، فعِلم الحديث صَلْفٌ، فأين عِلْمُ الحديث؟ وأين أهله؟ كِدْتُ أن لا أراهم إلا في كتابٍ، أو تحت تراب). اﻫ، وفي “النبلاء” (17/481) قال -رحمه الله-: (وكان -أي يحيى بن عمار السجستاني- مُتَحَرِّقًا على المبتدعة والجهمية – أي شديد الإنكار عليهم – بحيث يؤول به ذلك إلى تجاوز طريقة السلف، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، إلا أنه كان له جلالة عجيبة بهراة، وأتباع وأنصار). اﻫ.
وانظر ما جاء في “النبلاء” (17/459-460) فقد قال الذهبي – رحمه الله -: (قال أبوطاهر السلفي: سمعت أبا العلاء محمد بن عبدالجبار الفرساني يقول: حضرت مجلس أبي بكر بن أبي علي الذكواني المعَدِّل -في صِغَري -مع أبي، فلما فرغ من إملائه، قال إنسان: من أراد أن يحضر مجلس أبي نعيم؛ فَلْيَقُمْ – أي للذهاب إليه، والأخذ عنه – وكان أبو نعيم في ذلك الوقت مهجورًا، بسبب المذهب، وكان بين الأشعرية والحنابلة تَعَصُّب زائد، يؤدي إلى فتنة، وقيلٍ وقالٍ، وصُداعٍ طويلٍ، فقام إليه أصحاب الحديث بسكاكين الأقلام، وكاد الرجلُ يُقْتَلُ!!
قال الذهبي: قلت: ما هؤلاء بأصحاب الحديث، بل فَجَرَةٌ جَهَلَةٌ، أَبْعَدَ الله شَرَّهُم).اﻫ
وانظر القصة في “تذكرة الحفاظ” أيضًا (3/1095) فها هو الذهبي يُسَمِّي من ينتحل الحديث، وآل به الأمر إلى ما ذُكر، أنهم فَجَرَةٌ جهلة، فهل قال أحد: إن الذهبي يسب أهل الحديث وأئمة الجرح والتعديل، فصار مبتدعًا مميِّعًا، أو مُنْدَسًّا مُضَيِّعًا؟!
ومن ذلك أيضًا ما قاله العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- كما في “مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم” (1/200) في سياق ذمه لمن انتسب للأئمة قولاً، وخالفهم حالاً، فقال: (والذين ينتسبون إلى الحديث في هذا الزمن تَعَدَّوا الجَادَّة، وتكلموا في الأئمة، ووقعوا في جَهْلٍ وهوى).اﻫ وأضيف هنا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كما في “مجموع الفتاوى” (4/23) حيث ذكر أن من المنتسبين لأهل الحديث أقوامًا عندهم جهل وجُرأة وفظاظة، فقال – رحمه الله – بعد اعترافه بما عند بعض أهل الحديث من أخطاء في النظر والاستدلال وغير ذلك، وأن أهل الكلام يعيبونهم بذلك: ثم قال: “ولا ريب أنَّ هذا موجودٌ في بعضهم: يحتجون بأحاديث موضوعةٍ في مسائل الأصول والفروع، وآثارٍ مُفْتَعَلَةٍ، وحكاياتٍ غير صحيحة، ويَذْكُرون من القرآن والحديث ما لا يَفْهَمُون معناه، وربَّما تأوَّلوه على غير تأويله، وَوَضَعُوه على غير موضعه.
ثم إنهم بهذا المنقول الضعيف ، والمعقول السخيف: قد يكفِّرون، ويُضَلِّلون، ويبدِّعون أقوامًا من أعيان الأمة، ففي بعضهم من التفريط في الحق، والتعِّدي على الخلق: ما قد يكون بعضه خطأً مغفورًا، وقد يكونُ منكرًا من القول وزورًا، وقد يكون من البدع والضلالات، التي توجب غليظ العقوبات، فهذا لا يُنْكرُهُ إلا جاهل أو ظالم، وقد رأيتُ من هذا عجائب». اهـ. ثم ذكر فضل أهل السنة على غيرهم مع وجود هذه الأشياء في بعضهم، فليست العبرة بمن انحرف عن الجادة ممن ينتسب إلى السنة، إنما العبرة بما عليه أئمة السنة من العلم والعمل، وبما يرجعون إليه من أصول وقواعد، وبمنهجهم الذي يسْلكونه في التقرير والاستدلال، أما الأخطاء فالمعصوم من عَصَمه الله، والموفَّق المسدَّد من بصَّره الله وأيَّده، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم الدين.
كتبه/
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
6/رمضان/1439هـ
([1]) أي: فوّضوا عِلْمَ الكيفية لا المعنى الذي تدل عليه اللغة العربية، التي نزل بها القرآن الكريم.