سؤال: فضيلة الشيخ كثرت عندنا المساجد حتى إن المسافة بين بعض المساجد لا تتجاوز 200 متر، بل مكبرات الصوت تؤذي المصلين وتسمع صوت إمام المسجد أثناء الصلاة وأنت في مسجد آخر، وسبب بناء المساجد جنب بعضها عدة أمور منها: الخلافات التي صارت بين المشائخ ومنها الخلافات الأسرية ومنها مشاكل الأولاد في المساجد مما يضطر أهلهم وقبيلتهم لبناء مسجد آخر تجنبا للمشاكل، فما حكم ذلك أفيدونا جزاكم الله خيرا.
الجواب: تعدد المساجد إذا كان لحاجة شرعية مثل كثرة الناس وازدحامهم في مسجد واحد، أو ضيق المواقف لسيارات المصلين، أو نحو ذلك؛ فلا بأس به، بشرط أن يبتعد المسجد الجديد عن المسجد القديم مسافة كافية في عُرْف الناس إذا لم تكن التوسعة للمسجد الأول كافية في إزالة المشكلة، أما إذا كانت التوسعة كافية، فالأصل عدم التعدد، وكلما اجتمع الناس في مسجد واحد دون مشقة أو حرج عليهم في الذهاب والإياب، كان ذلك موافقًا لمقاصد الشريعة من بناء المساجد، فإن كان المسجد كافيًا لأهل القرية أو الحي، وبُني بجواره أو قريبًا منه جدًّا مسجد آخر دون حاجة له، وترتب على ذلك وقوع مفسدة: من فُرْقة، واختلاف، وسوء ظن بين الناس البين …الخ، فالمسجد الجديد في هذه الحالة فيه شَبَهٌ من مسجد الضرار الذي بناه المنافقون للإضرار بالمسلمين زمن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإن لم يكن مثله من جميع الوجوه، وقد قال الله عز وجل: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) والحكم الشرعي في ذلك أن يترك الناس الصلاة في المسجد الجديد الذي أَفْضَى إلى فُرْقة دون حاجة شرعية لبنائه، وإن لم يكن من بناه قصد بذلك الكفر والإرصاد للمؤمنين، لكن ترتّب على فعله إضرار بالمؤمنين، وتفرقة لكلمتهم، ولذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا).
ومعلوم أن بناء المساجد إنما هو لإقامة ذِكْر الله، وإحياء شعائر هذا الدين، وحسب ما ورد في السؤال، فالمساجد أصبحت تُستخدم في غير ما شُرعت له: فتستخدم لتعميق الحزبية، والخلافات، وإيغار الصدور، وانطلاق الألسنة في الغِيبة والنميمة وغير ذلك من الموبقات، والواجب على من يقوم بذلك سواء كانوا من الأفراد الذين يَسْعَوْن في جَمْع الأموال لبناء المسجد، أو كانوا من أهل الخير الذين يُموّلون من يسعى لبناء مسجد بهذا الوصف، أو كان من المسؤولين عن بناء المساجد، أو نحو ذلك، الواجب عليهم أن يتقوا الله، وأن يسعوا في جَمْع الكلمة، وتأليف القلوب، لا في تعميق الفوضى والشقاق بين المسلمين.
فإن قيل: إننا نخالف إمام أو خطيب هذا المسجد، ونريد لأنفسنا مسجدا خاصا بنا نُحيي فيه السنة الصافية!!
فالجواب: لو فتحنا هذا الباب وأجزنا تعدد المساجد كلما حصل خلاف لترتب على ذلك أننا نبني مساجد لا حصر لها، ومن يقولون بهذا القول مجتمعون اليوم على فكرة واحدة، ويُخالفون إخوانهم الذين هم في المسجد الآخر، فمن يضمن لكم أن تستمروا على ذلك سنة أو سنتين؟ والواقع يثبت أن أصحاب هذه الأفكار افترقوا بعدما كانوا مجتمعين، فكل فرقة أصبحت فرقتين، والفرقتان أصبحتا أربعًا، وهكذا، فهل كلما تعددتم تتعدد المساجد بتعددكم؟ أصحاب هذا الحال يُذكّروننا بحال متعصبة المذاهب الذين كان الواحد من الحنفية مثلا يمرُّ على مسجد شافعي، فيقول: متى تُهْدم هذه الكنيسة، ويمنع الصلاة في مساجد الشافعية، فنعوذ بالله ممن يفرّقون كلمة المسلمين بسبب الخلافات بينهم، وإلا فأهل السنة كانوا يُصَلّون وراء إمام واحد، حتى وإن كانوا مختلفين معه ما دام مسلمًا، لم يقع في الشرك، أو لم تقم عليه الحجة التي تزيل الشبهة، وتقطع العذر، وفتاوى العلماء في هذا مذكورة في كتب الفقه، في حكم الصلاة وراء الإمام الفاسق، هذا إذا سلّمنا بأنه فاسق، وأن مخالفيه أصابوا في تفسيقه أو تبديعه، أما إذا كان الخطأ في جانبهم فهذه ظلمات بعضها فوق بعض.
وكذلك تعدد المساجد بسبب المشاكل الأُسريّة؛ فهو أمْر لا حَدَّ له، والواجب أن الخلاف في الدنيا لا يُسبب اختلافًا وفُرقة في الدين، فمجرد كراهية القلب للشخص الفلاني أو أبنائه غير كافٍ في جواز تعدد المساجد، بل الواجب حلّ النزاع الأُسري بالطرق الشرعية، وعدم الاستسلام للهوى، وإلا فالقبيلة الواحدة تختلف مع قبيلة أخرى، ثم يدُبُّ الخلاف بين عوائل القبيلة الواحدة، وهكذا، أفكلما اختلف الناس بسبب أطفالهم، أو نسائهم، أو شهواتهم؛ فرّقوا دينهم، وكانوا شيعًا وأحزابا؟!
لماذا لا يؤدب كل رجل ابنه وأخاه ومن يعول، ويعلمهم حق الله، وحق المساجد، وحق المسلمين المصلين، وغيرهم؟ وإلا انتقلوا لمسجد جديد، وانتقل الداء والشياطين معهم، وأعادوا الخلافات، وأحْيَوها جذعة فيما بينهم!! والتفرق في الدين من صفات المشركين، كما قال تعالى: (وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ من الذين فرّقوا دِينَهُم وكانُوا شيَعا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
أما مسألة اضطراب الأصوات، بسبب مكبرات الصوت، فإذا كان المختلفون في المساجد مصرّين على عدم الاجتماع في مسجد واحد، فلا أقلَّ من أن يغلقوا مكبرات الأصوات الخارجية أثناء الصلاة، حتى لا يشوش أحد منهم على الآخر، وحتى لا يُساء الظن بالإسلام والمسلمين أجمعين، ولا يُفتح الباب للشامتين في الإسلام، ولا الحاقدين على الدعوة بأن ينفثوا سمومهم لحرب الإسلام وأهله، والله أعلم.