مقابلات ولقاءات

لقاء صحيفة الجمهور مع الشيخ أبي الحسن السليماني

 

 

 

س7: يضم دار الحديث طلاباً من دول عربية وأجنبية و… ومن هؤلاء طلاب محتجزون داخل الأمن السياسي  ما هي التهمة ؟ 

ج7 : لا يوجد الآن أحد محتجز من طلاب دار الحديث ـ حسب علمي ـ وقد سلَّم بعضهم  أنفسهم عندما طُلِبُوا قبل عدة سنوات بحجة التأكد من صحة إقاماتهم النظامية ، وثبتت صحة ذلك ولله والحمد ، ولا أعلم أنهم اتهموا من قبل الأجهزة الأمنية بالإرهاب أصلاً ، ولو اتهموا بذلك فالواقع المشهور من حال هؤلاء الطلاب وأمثالهم يرد هذه التهم ويدفعها ، والسلفيون بصفة عامة  في اليمن وغيره يحافظون على أمن البلاد ، ويحذرون من الأفكار التي تهدد الاستقرار ، وتكون ذريعة للتدخل الأجنبي في بلاد الإسلام ، ويحذرون أيضاً من الغلو في تكفير المجتمعات والأفراد لاسيما ولاة الأمور ، لأن التكفير حكم شرعي ، لابد فيه من مراعاة ضوابطه على سبيل العموم ، وقواعد تنزيله على المعين والخصوص ، وأن هذا المقام ليس كلأً مباحاً لكل أحد ، بل هو راجع إلى كبار العلماء والقضاة  ، كما أنه ليس من المصلحة الشرعية الزج بالشباب في هذا المأزق الحرج ، والمضيق المظلم ، وإشغالهم بما ليس من أولويات مهامهم ، فالمجال مفتوح للدعوة والتربية في جوانب أخرى كثيرة جداً، والناس بحاجة إلى من يفقههم في أمور دينهم ودنياهم ، والمنكرات موجودة في كل مكان ، فإنكارها أو تقليلها أو تعطيلها من أولويات العمل الناضج الواعي ، وأما إشغال الشباب بالتكفير ، والتكتيل السري ، وعزلهم ـ ولو شعوريا ـ عن المجتمع  ، وتركهم الساحة تعج بالفساد : إما لكراهيتهم المجتمع ، وإياسهم من صلاحه، أو كراهة المجتمع لهم ؛ كل هذا من الزيغ عن السبيل ، وصدق الله عز و جل القائل: ( وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ) . 

 

س8: ساد في التفكير الإسلامي مسألة الفرقة الناجية .. الشاهد في الأمر أن كل فرقة ترى أنها على حق ، والأخرى على ضلال .. ما رأي أبي الحسن في ذلك ؟ 

ج8 :بيَّن النبي e ما سيكون من اختلاف الأمة ، وأن فيها فرقة ناجية ، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم  ” …. وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار، إلا واحدة “قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال :” الجماعة ” وفي بعض الروايات ـ وإن كان في سندها بحث ـ : ” إلا ما كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي ” وقد أشار القرآن الكريم إلى أصل هذا المعنى ، كما قال تعالى : ( ولا يزالون مختلفين إلامن رحم ربك ) وأحب أن أوضح في هذا الجواب بعض الأمور تكون معينة على الفهم السليم لهذا الحديث : 1- أن قوله صلى الله عليه وسلم  :  “كلها في النار” لا يلزم من ذلك أنها فرق كافرة مخلدة في النار ، فإن علما ء السنة يقولون : إن الثنتين والسبعين فرقة فرق مسلمة ، وداخلة في أمة الإجابة ، والكفار من أمة الدعوة لا أمة الإجابة , وليسوا من الثنتين  والسبعين فرقة ، والنار ناران : نار للكفار والمنافقين يخلدون فيها أبداً ، ونار لعصاة الموحدين يتطهرون فيها من ذنوبهم ـ إن دخلوها ـ ثم يخرجون منها إلى الجنة ، فلا يلزم من كون الفرقة الفلانية ليست من الفرقة الناجية أنها فرقة كافرة ، بل هي فرقة مسلمة ، لكنها خالفت الفرقة الناجية في أصل من أصولها الذي لا يخرج المخالف فيها من الإسلام ، وإن أخرجه من عداد أهل السنة والجماعة . 

س9: الفكر السلفي متهم بالجمود، مع أن لكل عصر مشاكله الخاصة به ،التي لابد أن تعالج بشروط العصر وظروفه .. حتى إن سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يفتي في مسألة ، وفي العام الآخر يفتي بغيرها  ،فيعاتب على ذلك ، فيرد قائلاً: ذلك على ما  علمنا ، وهذا على ما نعلم ؟ كيف ينظر أبو الحسن إلى ذلك ؟

 

ج 9 : اتهام السلفية بالجمود من التهم الباطلة أيضاً ، فالسلفية تعني العمل بما كان عليه السلف الصالح من كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله e ، وقواعد الأئمة المتفق عليها ، أو الراجحة نقلا أو عقلا ، وأول من يُقتدى به في هذه الأمة هو رسول الله e وصحابته الكرام رضي الله عنهم  جميعاً ، ثم من سلك مسلكهم من فقهاء الأمة وأئمة المذاهب والأمصار ، ولو كان منهج هؤلاء جامداً ما فتحوا الفتوحات ، ولا مصَّروا  الأمصار ، ولا خضعت لهم ممالك كسرى وقيصر ، ولا دخلت بهم الأمم في دين الله أفواجاً ، ولو كانوا جامدين ما قامت لهم قائمة ، ولا بقيت لهم بقية عبر القرون المليئة بالمتغيرات ، فإن المدنيَّة وَّلادة ، والحضارة متجددة ، والمستجدات لا يعدّها عادٌّ، والرسول e آخر الرسل ، فلا نبي بعده ، وشريعته آخر الشرائع ، وهي للناس كلهم  ، كما يقول تعالى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) ويقول تعالى : ( لأنذركم به ومن بلغ) ويقول e  كما في الحديث المتفق عليه : ” وكل نبي يُبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة ” فكيف يُخاطب بشريعته e من يأتي بعده وقد امتلأ عصره بأمور لم تكن موجودة في زمن النبوة إذا كانت الشريعة جامدة ؟! فلو كانت الشريعة غير صالحة لكل زمان ومكان ؛ لما خوطب بها من يأتي في زمن المستجدات والاكتشافات .

 

ومن أجل ذلك احتاج فقهاء الإٍسلام إلى العمل بالقياس ، وهو إلحاق مسكوت عنه ـ وهو من المستجدات ـ بمنصوص عليه لاشتراكهما في العلة ، فإن الشريعة منزهة عن الجمع بين المتناقضين ، والتفرقة بين المتماثلين ، وكذلك احتاج الفقهاء إلى العمل بالمصالح المرسلة ، وهي أمور مستجدة ، فيها مصلحة للأمة ، ولم يرد فيها نص بالمنع  ، وجاءت الشريعة بقواعد تحفظ لها مرونتها وصلاحيتها  لكل زمان ومكان ، فمن ذلك : المشقة تجلب التيسير ، وارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعظمهما ، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما ، والأمر إذا ضاق اتسع ، أو  الضرورات تبيح المحظورات ، والعمل بالعرف ما لم يخالف نصًّا ، والأصل في الأمور العادية أو الدنيوية الإباحة ، ….الخ .

 

فخلاصة النظرة الشرعية المنضَبطة للمستجدات : أن المستجدات لا تخرج عن أربع حالات :إما أن تندرج تحت نص بالقبول ؛ فهذه تُقبل وجوباً أو استحباباً ، وإما أن تندرج تحت نص بالمنع ؛ فهذه تُرد ، والله عز و جل لم يحرم شيئاً إلا إذا كانت مفسدته خالصة أو راجحة، وإما أن يكون الأمر المستجد خيراً من جهة ، وشراً من جهة أخرى ، فيعمل هنا بالموازنة بين المصالح والمفاسد بنظر علمي متجرد، فإن كانت المصلحة أرجح قُبِلَ ، وأُلْحِق بالحالة الأولى ، وإن كانت المفسدة أرجح رُدَّ ، وأُلْحِق بالحالة الثانية ، وأما الحالة الرابعة : إن كان مسكوتاً عنه ، ولم يرد فيه بعينه نص بالمنع أو القبول  ؛فالأصل فيه الإباحة ، لقوله تعالى : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) إلا إذا كان العمل به سيفضي إلى حرام ؛ فذاك أمر آخر، ويُحكم عليه باعتبار ما سيؤول الأمر إليه .

 

 وقد تجلى العمل بهذه القواعد وبهذه النظرة العلمية المنضبطة في زمن أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ كما في تدوين الدواوين ، واتخاذ سجلات للجيوش ، وعمل السجون ، وغير ذلك مما لم يكن موجود ا من قبل ، وفي زمن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ اتخذ جهازاً للشرطة ، ولم يكن هذا الجهاز بهذه الصورة موجوداً من قبل ،وهكذا كلما جدّ جديد نظر إليه العلماء : هل هو مصادم للشرع ، أم لا ؟ فإن كان مصادماً للشرع فهو حرام مردود ، والله أعلم بمصلحة عباده من أنفسهم ، وإن كان موافقا لأصل شرعي ألحقوه به ، وحكموا عليه بالحكم الذي يليق به ، وعلى ذلك فكل جديد ـ بهذه النظرة المنضبطة ـ لا بد أن يُلْحَق بحكم من أحكام الشرع الخمسة : (الوجوب ـ أو الاستحباب ـ أو الإباحة ـ أو الكراهة ـ أو التحريم ) فأي جمود في ذلك ؟! بعض الناس ينظر إلى غيره إذا لم يكن منفلتا ضائعا مثله فهو جامد متحجر ، ونسي أن هناك مرحلة بين الجمود والجحود , وهي ماسبق تفصيله .    

 

ولازال علماء الإسلام ينظرون في كل جديد بهذه النظرة الشرعية المنضبطة : فلا جمود ولا انفلات وضياع للمرجعية ، ولذلك فالعلماء يؤسسون الجامعات ،والمعاهد، والمدارس ، أو يحثون الطلاب على الاستفادة منها ، والتدرج فيها إلى أعلى المراتب ، ولم يكن تحصيل العلم بهذه الصورة موجوداً من قبل ، وكذا يرون الأخذ بتنوع الخطاب الدعوي حسب فهم وإدراك المخاطب ، ويرون تعدد الوسائل الدعوية ما لم تكن الوسيلة محرمة ، فهم وسط بين الجامدين المشككين المتشائمين من كل جديد ، وبين المنفلتين المتبعين لأهوائهم ، الذين يرون أن الغاية تبرر الوسيلة , أو أنهم بلسان حالهم يرون أنهم أعلم من الله بما في عصرهم من مستجدات ، تعالى الله عما يظنون به و بشرعه  علوا كبيراً.

 

فالعلماء لهم مرجعية ربانية محفوظة ، كما قال تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له حافظون ) ويعلمون أن الله استخلف عباده في الأرض ليعمروها ، وأن ذلك لايكون بالجمود والانكماش والتشكيك  في كل جديد ، بل لا يكون ذلك إلا بالاستفادة من علم البر والفاجر والمسلم والكافر ما لم يخالف نصًّا شرعيا ، فإن صادم أمراً معلوما من الدين بالضرورة ؛ فإنهم يرمون به وراء النجم ، وإن احمّرت أنوف المميعين ، فالحق أحق أن يتبع ،فماذا بعد الحق إلا الضلال ؛ (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) وإن كان الأمر خليطاً من خير وشر ، ومصلحة  ومفسدة ؛ نظروا فيما هو الراجح من  الأمرين: فإن كان الخير أرجح؛عملوا به ، وإن كان الشر أرجح ؛ تركوه ، وليس الفقيه الذي يعرف الخير والشر فقط ، إنما الفقيه الذي يعرف خير الخيرين فيتبعه ، وشر الشرين فيجتنبه ، وهذه قاعدة نفيسة جدا ، لاسيما في زمن اشتباه الأمور وامتزاجها عند طول العهد بزمن النبوة ، وذهاب العلماء ، وتصدُّر الجهلة ، والله المستعان .

 

هذا ، وقد ورد في السؤال عن عمر الفاروق ـ رضي الله عنه ـ ما يدل على العمل بالحق بحسب ما ظهر من أدلة وإن خالف فتوى سابقة ، فأين الجمود إذاً ؟! وعمر نفسه هو الذي كتب لأبي موسى الأشعري في كتابه المشهور عند العلماء في مسائل في القضاء ، فقال :” ولا يمنعنك قضاء قضيت به ثم ظهر لك الحق ، أن تقضي بخلافه ، فإن الحق قديم “فالحق هو المقدم على غيره ، والحق ضالة المؤمن حيثما وجدها أخذها .

 

هذا هو المنهج السلفي الصحيح ، فإن وجد أفراد ـ كباراً كانوا أو صغارا ـ لا يفقهون هذا ، ويجعلون كل جديد بدعة وضلالة ، فهذا من قصور فهمهم للمنهج الصحيح ، لامن جمود ما يسمى بـ ” الفكر السلفي ” فالمنهج السلفي هو أصلح المناهج لحياة البشر ، لأن مرجعيته ما كان عليه رسول الله e والصحابة ، وما فهمه من ذلك أئمة المذاهب والأمصار ، وهو سبيل المؤمنين ، والله تعالى يقول  : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) ويقول :  ( فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق  فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) فهذا منهج منضبط : مرجعيته ربانية ، وقادته أئمة الدنيا من العلماء والعباد والمصلحين ، وثوابته لا تتغير عبر القرون المتطاولة ، إنما يقع التغير  في الأمور الاجتهادية ، وخَلَفُه ينصرون أصول سلفهم ، ويترحمون عليهم ، ويعرفون فضلهم وسبْقهم ، أما غيره من المناهج فهو مجموع استحسانات بشرية ، والخلف منهم  ينقضون ما كان عليه سلفهم ، ولايزال بهم تطوير مذهبهم حتى يخرجوا عن أصوله وثوابته ، بل ربما قالوا بعكس ما كان عليه سلفهم ، وربما كفّروهم ولعنوهم ، وكتب العقائد والتاريخ حافلة بذلك ، فما هو قول أوائل الخوارج وما هو قول خلفهم الآن ؟ وما هو قول أوائل الشيعة ، وماذا وصل إليه خلفهم في العصور المتأخرة؟ وكذلك بقية الفرق . وما كان عند هذه الفرق وغيرها من خير فهو موجود في المنهج السلفي الناضج الشامل ، فإن الحق لا يفوت أهل الحق بمجموعهم لا بأفرادهم .

 

فالأمر إذاً لا يخلو من إفراط وتفريط ، فهناك من يجمد حتى يُنَفِّر الناس عن الدين ، ويضيع مصالح عظيمة على الأمة في دينها ودنياها ، وقد أساء بعمله هذا إلى المنهج السلفي ، وهو يظن أنه قد  تمسك بالدين ، والحق أنه قد ضيع مثل أو أكثر مما تمسك به ، وهناك من يفر من الجمود ، ويدعي التطوير والمرونة ـ لكن بلا ضوابط ـ فيجعل الدين تبعاً لهواه أو لهوى غيره ، والحق وسط بين طرفين ، كما سبق تفصيله .

 

وليس من الإنصاف أن يحكم على المنهج السلفي كله بالجمود لجمود بعض من ينتسب إليه ، وجمهور السلفيين على عكس ذلك ، وعلماؤهم الكبار وكبار دعاتهم يحذرون من الجمود والانفلات جميعاً ، وواقعهم خير دليل على الدوران مع النص ، ومعاني الشريعة ، ومقاصدها،وكلياتها ، وليس الجمود على الظاهر ومجرد المباني ، ومن المعلوم أن الظاهرية ـ ومن شابههم ـ لا يمثلون في الأمر قديما وحديثا شيئا يُذْكَر بجانب بقية العلماء والمذاهب الذين فقهوا الشريعة حق الفقه ،  ودخلوا بها في جميع مناحي الحياة ، هذا موقفي من هذه القضية ، والله الهادي إلى سواء السبيل .

 

 

 

س10: الجماعات السلفية على مر التاريخ لم تُقْمَع إطلاقا ، أو تحارب ، بل على العكس ، تلقى كل الرعاية ، اللهم في فترة واحدة ، هي فترة شيوع الانعزال في خلافة المأمون والمعتصم والواثق فقط ، هل السبب في ذلك طاعتهم لولي الأمر ؟

 

ج10 : هذه دعوى عريضة لا يسعفها البرهان و الدليل ، إنما هي مجرد دعاوى وأقاويل ، يراد من ورائها رمي الدعوة السلفية بالعمالة ، والسير في ركاب الحكام برهم وفاجرهم بالحق و الباطل ،ورمي الدعوة وأهلها بالخنوع والخضوع للظالمين ضعفا وجبنا ، وإيثارا للفاني على الباقي عبر التاريخ  !! وهذه كله بواقع و فواقر لا يغطيها ليل ، ولا يسترها ذيل ،  ولا تنفق إلا على من لا يعرف مواقف السلف تجاه المنكرات وأهلها عبر التاريخ ، وباستعراض سريع لحال حملة لواء الدعوة مع حكام زمانهم يتضح عكس هذا الإطلاق ، بل لو قيل : إن غير العلماء الراسخين ومن سلك سبيلهم في كثير من الحالات هم الذين داهنوا وجاملوا ، بل ربما تواطأوا مع الأعداء على الأمة ؛ لما كان ذلك بعيداً عن الصواب ،وسأذكر بعض المواقف ثم أعود ـ إن شاء الله تعالى ـ إلى الجواب على بقية السؤال :

 

فالعلماء عندما أنكروا على الحجاج بن يوسف الثقفي ظلمه وتعسفه زجَّ بهم في السجون ، وقَتَلَ مَنْ قَتَلَ منهم ، مع أنه يتظاهر بأنه من أهل السنة ـ على ما عنده من بلايا ـ فأين أصحاب هذه الشبهة من رافضة وغيرهم زمن الحجاج ، وزمن ظلم كثير من أمراء بني أمية وبني العباس لمن خالفهم من علماء السنة ؟! نعم هناك مجموعة من الخوارج خرجوا وسفكوا الدماء ، وحاربوا الحكام ، ولم يقفوا عند هذا الحد ؛ بل تجاوزوا : فبقروا بطون النساء ، وقتلوا الأطفال ، وكفروا جميع المسلمين الحكام والمحكومين ، وعَدُّوا ديارهم ديار حرب ، فهؤلاء لا يُصْلِحون مجتمعاً عبر التاريخ ، إنما يكون همهم إنكار جزئية ما من المنكر ، لكن بطريقة تزيد المنكر رسوخاً وانتشاراً،  وأما الرافضة فإن ضعفوا فالتقية شعارهم ودثارهم ، وإن تمكنوا أهلكوا الحرث والنسل ، ولم يجعلوا عداوتهم للحكام الظالمين إلا إذا كانوا في الأصل من أهل السنة  ، ويصبون كيدهم على العلماء المصلحين ، بحجة أنهم كفار وأعداء لأهل البيت ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم ، فإن أعرف الناس بحق  أهل البيت الصالحين هم أهل السنة والجماعة ، الذين يتقربون إلى الله تعالى بحب صالحي أهل البيت ، سواء الصحابة منهم أو من  بعدهم ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، حباً شرعياً ، لا غلو فيه  ولاجفاء ، ويقومون بذلك عملاً بالنصوص و الآثار، لا تزلفا لأحد ، ولا رهبة ولا رغبة إلى أحد ، إلا رضا وطاعة للأحد الصمد.

 

وكذلك اعْتُدِي على مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ وضُرِب ،حتى خُلِعَتْ يده من أمير المدينة، وما جرى للإمام أحمد وعلماء السنة من محنة الجهمية ـ وقد وردت الإشارة إلى  ذلك في السؤال ـ واستمرت المحنة على  أهل السنة زمن ثلاثة من الأمراء، نحو عشرين سنة ، ولم يكن لهم ذنب إلا أنهم قالوا : القرآن كلام  الله ، وكلام الله صفة من صفاته ، وصفات الله غير مخلوقة ،فالقرآن غير مخلوق ، والله تعالى يقول : ( الرحمن علم القرآن  خلق الإنسان علمه البيان ) فذكر خلق الإنسان بين قوله : (علم القرآن ) وقوله (علمه البيان ) فلو كان القرآن مخلوقا لقال 🙁 الرحمن خلق القرآن والإنسان ) والنبي e يقول : ” أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ” فلو كانت كلمات الله مخلوقة ؛ لكان هذا استعاذة بمخلوق ، وهذا محرم ومنكر عظيم ، وغير ذلك من أدلة ، فما كان هناك ذنب للسلف إلا أنهم نصروا التوحيد ، فتسلط عليهم الجهمية ،وأوشَوْا بهم إلى أمراء بني العباس، فصبوا عليهم البلاء صَبًّا ، لكن الأئمة صبروا على الابتلاء ، وخرج أحمد وغيره من هذه الفتنة كالذهب الصافي ، ورفع الله ذكرهم ، وقويت شوكتهم ، وكذلك ما حدث لأهل السنة من التتار في القرن السابع ، وذلك بدسيسة من الرافضة كابن العلقمي والطوسي ، وأعظم من تضرر من هذه الفتنة هم أهل السنة ، فَجُلُّ القتلى كانوا من علماء السنة وجيوشها و عوامها ، وحُرِّقت مكتبات علماء السنة ، وأما الرافضة فكانوا مقربين إليهم ، ومكنهم التتار في عدد من الجهات والقيادات .

 

والفتن التي تعرض لها شيخ الإسلام ابن تيمية وطلابه وأنصاره من حكام زمانه المتأثرين بالجهمية ومقلدة المذاهب الجامدين ، فلما كشف علمُ ابن تيمية جهل هؤلاء بالكتاب والسنة ـ بل بمذاهبهم التي ينتسبون إليها ـ أوْشوْا به ، وسُجن وضُرب عدة مرات ، ومات في السجن ، وخرج من سجنه إلى قبره !! فهل  هذا من المحن التي تعرض لها أهل السنة لتمسكهم بها ،  أومن الرعاية التامة ، والحفاوة البالغة التي لقيها علماء السنة ؟!

 

وهذا تلميذه ابن القيم يُعتدى عليه ، ويُسجن مرات، ويُحمل على جمل ، ويُطاف به في البلدان ليُشَهَّر به ، كل هذا لمخالفته في بعض الفتاوى لما هو مشهور في المذاهب ، وتمسكه بما يعتقد أنه الحق .

 

وحِّدث ولا حرج عن علماء السنة في مصر والمغرب ، ماذا حدث لهم من  القرامطة الباطنية في دولة بني عبيد وغيرها ، وما جرى لعلماء السنة في اليمن كابن الوزير والصنعاني وغيرهما ، وما جرى لعلماء السنة في إيران والعراق ونحوهما ، ولا يزال أهل العلم في شموخ وصمود أمام الباطل ، يبتغون بذلك فضل الله ، ونصح الخلق ، وبراءة الذمة ، ثم يأتي بعد ذلك من لا يفقه ، أولا يدري ما يخرج من رأسه ، أو من لا ينصف فيقول : إن الجماعة السلفية على مر التاريخ لم تُقْمع ، إطلاقا ، أو تحارب ، بل على العكس تلقى كل الرعاية … ” ؟!! وهل هذا إلا جهل بالتاريخ أو تجاهل له ، أو هما معا ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .

 

وهل يُبتلى عبر التاريخ من أجل التمسك بالدين إلا أهل السنة ؟ وهل كان أحد يفر من مجالسة كثير من الأمراء الظلمة إلا مشاهير علماء السنة ، كابن سيرين ، والثوري ، وابن المبارك  ، وأحمد ، وغيرهم ، وذلك للحفاظ ـ في نظرهم ـ على الدين ؟ وإن كان في الأمر تفصيل ، ليس هذا موضعه .

 

فإن قيل : إن بعض ما ذكرت عبارة عن ابتلاء لعدد من علماء السنة لا لجماعة السنة بأسْرهم ، قلت : وهذا أيضاً دليل على ما عليه علماء السنة من تمسك بأصولهم ، إذ أنهم يصبرون على الأذى الذي يتعرضون له ، ولا يصيحون في أتباعهم بالخروج على من جار عليهم ، كما هو موقف أحمد بن حنبل مع من استفتاه في الخروج على الواثق ، وكما هو موقف أحمد بن تيمية  عندما استأذنه أصحابه في ضرب من ضربه ، وأما أهل البدع إذا تمكنوا لم يصبروا على الأذى في أشخاصهم ، وصرخوا في الناس بالخروج ، فسلُّوا السيوف ، وسفكوا الدماء ، وقطعوا السبل، وكانوا كمن أراد أن يُطبَّ زكاماً ؛ فأحدث جذاماً ، أومن أَراد أن يبني قصْراً ؛ فهدم مَصْراً !!    

 

وأضيف إلى ما سبق فأقول :

لو سلمنا بأن أهل السنة كانوا يتلقون الرعاية التامة من أمراء زمانهم ، فليس هذا عيبا من جميع الوجوه ، وذلك لأن غالب حكام المسلمين عبر دول الإسلام السابقة والخلافة العامة، كانت أصولهم أصول سنة ـ في الجملة ـ والمتوقع أن السني من الأمراء يكرم السني من العلماء والأنصار ، فلما تسلط بعض الأمراء الذين عُبِّئوا تعبئة فاسدة حاربوا علماء السنة ، فهذا دليل على أنه لا يحارب علماء السنة إلا أهل الأهواء أوالفجور ، وهذا مدح لهم وليس ذمًّا عند العقلاء المنصفين .

 

والذي يقلِّب صفحات التاريخ يجد أن الذين آذوا علماء السنة أصناف :

1- الكفار إذا استولوا على بلاد الإسلام ، سلَّطوا جُلَّ محنتهم على أهل السنة ، لأنهم يعلمون أثرهم في الناس ، وأنهم لا يساومون على عقيدتهم ، وأنهم يمثلون الإسلام الصحيح ، وأن الولاء و البراء من أصول دينهم .

2- أهل الأهواء والبدع إذا استولوا على جهة من الجهات ؛ لا يكادون يعرفون عدوا إلا أهل السنة ، لأنهم هم الذين يكشفون باطلهم ، ويهتكون أستارهم بالحجج القاهرة ، والمحجة الظاهرة.

3- أهل الشهوات  والفجور وإن كانوا في الجملة من أمراء السنة ، الذين تتعارض فتاوى علماء السنة مع شهواتهم ، ولا تلين للعلماء قناة ، ولايسيل لهم لعاب أمام العطايا ، ولا تحملهم موافقتهم للأمير في شيء من الحق أن يوافقوه على المنكر في جهة أخرى .

 

وهذا وحده دليل فخر وشرف ، ووسام صِدْقٍ وثبات على الحق عند علماء السنة ، فلم يجاروا الحكام ـ وإن كانوا على مذهبهم في الجملة ـ إذا خالفوا الحق ، وأما عدوهم الأكبر أو من دونه فماذا ينتظرون منه إلا الأذى ؟!

وأما غيرهم من أهل البدع فإن أمراء العدل وذوي الخلافة الراشدة يطارءونهم ، ويعزرونهم ، كما فعل عمر مع صُبَيْغ بن عِسْل ، وكما فعل علي مع ابن سبأ وأصحابه، والخوارج وأتباعهم ، فأي الفريقين أحق بالفخر : من يطارده الخلفاء الراشدون ، أومن يطارده الحكام الجائرون ؟!

      وأما تمسكهم بأصل السمع والطاعة في المعروف لولي الأمر وإن جار ؛ فهذا ليس من عند أنفسهم ، ولا من كيسهم ، وليس ذلك جبنا منهم أمام الحكام ، فإنهم يحملون أرواحهم على أكفهم في مقدمة جيوش الفتوحات ، وهم أهل الثغور ،وهم الثابتون أمام الشهوات والشبهات، والحياة في سبيل الله ، أشد من الموت في سبيل الله ، وهم ينطلقون في مبدأ السمع والطاعة في المعروف امتثالاً منهم لأمر الله ورسوله e ، والأدلة في ذلك كثيرة ، كما قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) والنبي e يقول لمن سأله عن حكام يظلمونهم : ” اسمع وأطع ، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلْتم ” ويقول أيضا : ” أدُّوا الذي عليكم ، وسَلُوا الله الذي لكم ” ويقول أيضا في حديث آخر : “اسمع وأطع ، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ” فهذا أصل أصيل في الدين ، نعتقده وندعو إليه بلا خجل ،  ومن خالفه فقد جرّ على  الأمة مفاسد لا تُحصى، والتاريخ شاهد بذلك.

      وأهل السنة في هذا الأمر ـ كعادتهم ـ وسط بين الغلاة والجفاة ، فهناك من يجعل دينه تبعا لهوى الحكام ، فيطمس معالم الدين ، ويحل الحرام ،ويحرم الحلال طمعا في عَرَض فان ٍ، وهناك من لا يصبر على وجود المنكر ، فيكفر الحكام ، ويخرج عليهم ، فيريق الدماء ، ويفرق الصفوف ، ويُضعف الشوكة ، وأهل السنة وسط بين هؤلاء وأولئك ، فإنهم يشترطون في السمع والطاعة أن يكون ذلك في الحق ، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وإنما الطاعة في المعروف ، والطاعة المطلقة لاتكون إلا لرسول الله e وليست لآحاد الناس وإن كانوا قد بلغوا مراتب الفضل والعلم ، فضلاً عن حاكم ظالم يتبع هواه ، لكن التعاون مع ولي الأمر في نصرة المظلوم ، وردّ الحقوق ، ونشر الخير ، ومحاربة المنكر ـ ولو في جزء دون آخر عند العجز ـ خير من عدمه ، فإن تقليل الشر من مقاصد الشرع ، وهذا انطلاق من قوله تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) ومن قول رسول الله e :” لقد شهدت مع عمومتي حلفا في الجاهلية ، لو دعيت إليه في الإسلام لأجبْت ” وفي رواية : :” ما أحب أن لي به كذا وكذا وأنّي أنكثه ” فإذا كان الرسول e يقول هذا في التعاون مع مشركين قبل الإسلام في نصرة المظلوم ـ وإن كان مشركا ـ فكيف لا يكون الحال كذلك وزيادة مع أمير مسلم لكن شهوته تغلبه ؟!

      ثم إني لستُ أدري أي الفريقين أولى باتهامه بالجبن والعمالة ـ إن كان لهذه التهمة وجه ـ : الفريق الذي يعتقد الخروج على الحاكم الظالم ، ثم لا يخرج عليه ، بل  يصرح بمدحه في عدة كلمات عامة ، ويدعو إلى مشاركته ومجالسته ، أم الفريق الذي يعتقد السمع والطاعة في المعروف ، والنصح بالتي هي أحسن إذا خالف الحاكم ، ولا يخرج على الحاكم ، لأن هذا خلاف أصله وعقيدته ، فهذا عامل بأصله ، وذاك مخالف له ، فأي الفريقين أولى بالتهمة؟! ولكن الأمر كما قيل:رمتني بدائها وانسلّت !!!   

 

فأهل السنة يصبرون إذا ظُلِموا ، أوضاعت عليهم مصالحهم الشخصية حفاظاً على المصلحة العامة ,وسلامة البلاد من الفتن والفوضى ، وغيرهم إذا تقلصت صلاحياته أو مصالحه الخاصة ؛ هاج كالليث الهصور ، وأثار الفتن في البلاد ، فأي الفريقين أحرص على السنة والأمة؟!

      وهؤلاء الذين يرمون أهل السنة بالعمالة ، الواقع يدل على أن كثيرا منهم هم أقرب إلى الحكام من أهل السنة ، وأكثر دخولا عليهم ، وأعظم وجاهة عندهم من كثير من أهل السنة ، فأهل السنة يتمسكون بأصولهم وإن لم يظفروا بشيء من دنيا الحكام ، وأما غيرهم فيتلوّن ،ويتخلى عن أصوله وفتاويه بالتكفير والجهاد ضد الحكام إذا ظفروا بشيء من حطامهم الفاني ـ إلا من رحم الله ـ فهذا الإمام أحمد مع ظلم المعتصم والواثق له ، ومع ضربه وجلْده في السجن ، استُفتي في الخروج على الواثق فأبى ، وقال : أخشى الفتنة ،فلما قيل له : ألسنا في فتنة ؟ ـ يعنون السجن ، والامتحان ، والتعذيب لأهل السنة ـ  قال : هذه فتنة الخاصة ، وتلك فتنة العامة ، ولو كان صاحب هوى لأفتى بالخروج ، وحوله من الأنصار المطيعين له ما يملأ الأفق،  فنعوذ بالله من عدم الإنصاف ومن الجور والاعتساف .

       ومع أن الجماعة السلفية تؤمن بالسمع والطاعة للأمير في المعروف ؛ فإنها تتعرض لظلم الحكام كما سبقت الإشارة إليه ، لأنهم لا يرون الطاعة المطلقة العمياء للحاكم، إنما يرون طاعته في المعروف ، فإذا حكم بخلاف ذلك : أنكروا عليه ، لكنهم يراعون ضوابط وآداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : من النصيحة السرية ، والتلطف في الخطاب ، والنظر في الحال والمآل ، فإن كان تغيير المنكر يترتب عليه منكر أكبر؛ تركوا الإنكار حتى تتهيأ ظروفه ، وهم في هذا كله يسيرون مع النصوص الشرعية ، ولا يتبعون أهواءهم ، فكانوا حقاً أنفع الناس للناس .

فالقول بأنهم لم يُعذّبوا لأخذهم بأصل السمع والطاعة ليس على إطلاقه ، وإن كان بعض عقلاء الأمراء عرف لهم ذلك ، وقليل ما هم .