الأسئلة الحديثية

ماهي أهمية الحديث المعلل ؟

ماهي أهمية الحديث المعلل ؟

هذا النوع من أغمض الأنواع وأدقها، ولهذا لم يتكلم فيه إلا الجهابذة، أهل الحفظ والخبرة، والفهم الثاقب .

قال محمد بن عبدالله بن نمير : قال عبدالرحمن بن مهدي : معرفة الحديث إلهام : قال ابن نمير: وصدق ، لو قلت له: من أين قلت ؟ لم يكن له جواب اهـ ” علل ابن أبي حاتم ” (2) .

وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي ، من أهل الفهم منهم ، ومعه دفتر، فعرضه عليَّ ، فقلت في بعضه: هذا حديث خطأ، قد دَخَل لصاحبه حديث في حديث ، وقلت في بعضه : هذا حديث باطل ، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر ، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب ، وسائر ذلك أحاديث صحاح، فقال لي : مِنْ أين علمتَ أن هذا خطأ ، وأن هذا باطل ، وأن هذا كذب ؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت ، وأني كذبت في حديث كذا ؟ فقلت:ُ لا، ما أدري هذا الجزء مِنْ رواية مَنْ هو ؟ غير أني أعلم أن هذا خطأ ، وأن هذا الحديث باطل ، وأن هذا الحديث كذب ، فقال تدعي الغيب ؟ قال : قلت : ما هذا ادعاء الغيب ، قال فما الدليل على ما تقول ؟ قلت:سَلْ عمّا قلتُ مَنْ يُحْسِن مثل ما أُحْسِن ، فإن اتفقنا ؛ علمتَ أنا لم نجازف ، ولم نَقُلْه إلا بفهم ، قال : من هو الذي يُحْسِن مثل ما تُحْسِن ؟ قلت : أبوزرعة ، قال : ويقول أبوزرعة مثل ما قلت ؟ نعم،قلت: قال : هذا عَجَبٌ، فأخذ فكتب في كاغدٍ ألفاظي في تلك الأحاديث ، ثم رجع إليَّ وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبوزرعة في تلك الأحاديث ، فما قلت ، إنه باطل، قال أبوزرعة : هو كذب، قلت : الكذب والباطل واحد ، وما قلتُ إنه باطل، قال أبوزرعة: هو كذب ، وما قلتُ : إنه منكر، قال : هو منكر كما قلتُ ، وما قلتُ: إنه صحاح : قال أبو زرعة : هو صحاح، فقال : ما أعْجب هذا ، تتفقان من غير مواطأةٍ فيما بينكما ؟ فقلت: أفعلمتَ أنا لم نجازف ، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا ؟ والدليل على ما نقوله: بأن دينارا بهرجًا يُحْمَل إلى الناقد، فيقول : هذا دينار نبهرج، ويقول لدينار: هو جيد، فإن قيل له: من أين قلت: إن هذا نبهرج ؟ هل كنت حاضرًا حين بهرج هذا الدينار ؟ قال: لا،فإن قيل: أَخْبَرَك الرجل الذي بهرج : أني بهرجتُ هذا الدينار ؟ قال : لا ، قيل :  فمن أين قلت: إن هذا نبهرج قال: علمًا رُزِقْتُ ، وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك، قلت له : فتحمل فص ياقوت إلى واحد من البصراء من الجوهريين، فيقول : هذا زجاج، ويقول لمثله : هذا ياقوت، فإن قيل له : من أين علمت أن هذا زجاج، وأن هذا ياقوت ؟ هل حضرت الموضع الذي صُنِع فيه هذا الزجاج ؟ قال: لا ، قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه، بأنه صاغ هذا زجاجًا؟ قال: لا، قال: فمن أين علمت ؟ قال : هذا عِلْم رُزِقْتُ، وكذلك نحن رزقنا علمًا لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأن هذا الحديث كَذِبٌ، وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه .

قال أبو محمد: تُعْرَف جودة الدينار بالقياس إلى غيره، فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء؛ علم أن مغشوش؛ ويُعْلَم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره، فإن خالفه في الماء والصلابة؛ عُلِم أنه زجاج، ويقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلامًا يصلح أن يكون من كلام النبوة، ويُعْلَم سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته، والله أعلم .اهـ ” تقدمة الجرح والتعديل ” (1) .

وقال ابن مهدي: لأن أعرف علة حديث – هو عندي – أحب إلي من أن أكتب عشرين حديثًا ليس عندي اهـ ” العلل ” لابن أبي حاتم (2) .

قال الحافظ ابن حجر :

” وهو من أغمض أنواع علوم الحديث، وأدقها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله تعالى فهمًا ثاقبًا، وحفظًا واسعًا، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، ومَلَكَةً قوية بالأسانيد والمتون، ولهذا لم يتكلم فيه إلا قليل من أهل هذا الشأن : كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة، وأبي حاتم، وأبي زرعة، والدارقطني، وقد تقصر عبارات المعلِّل عن إقامة الحجة على دعواه: كالصيرفي في نقد الدينار والدرهم” اهـ ” النزهة ” (1) .وقال الحافظ ابن حجر – أيضًا – :

“وهذا الفن أغمض أنواع علوم الحديث، وأدقها مسلكا، ولا يقوم به إلا من منحه الله تبارك وتعالى فهمًا غائصًا ، واطلاعًا حاويًا ، وإدراكًا لمراتب الرواة ، ومعرفة ثاقبة ، ولذلك لم يتكلم فيه إلا الأفراد من أئمة هذا الشأن وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك؛ لما جعله الله لهم من معرفة ذلك ، والاطلاع على غوامضه ، دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك ” اهـ ” النكت “(2) .

وعلى ذلك: فكلام أئمة الحديث على الروايات مقدم على غيرهم ، قال السخاوي :” وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي ، العاري عن الحديث بالأدلة ، هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح، كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فنٍّ غير فنَّه ؛ فهو متعنٍّ اهـ ” فتح المغيث ” (3) .

( تنبيه ) : قد يظن بعض الناس بعد وقوفهم على ما سبق من كلام الأئمة: أن الإمام من الأئمة يعلل الحديث، ولا يعرف دليلاً لذلك !! وهذا ليس على إطلاقه؛فالأصل أن الإمام منهم لا يعلل الحديث إلا وعنده الدليل الكافي على قوله ، وكُتُبُ العلل أكبر شاهد على ذلك، فأكثر الأحاديث يذكرون سبب علتها: إما مخالفة فلان لمن هو أوثق منه ، أو لدخول حديث في حديث، دون أن يتنبه لذلك راويه ، أو لغير ذلك من العلل التي طفحت بها أجوبة الأئمة على أسئلة طلابهم عن الأحاديث والعلل الواردة فيها .

وهناك عدد من الأحاديث يذكر الإمام منهم أنها معلَّة ، ولا يُرْدِفُ ذلك ببيان السبب ، ولا يلزم من ذلك عدم معرفة الإمام لسبب العلة .

نعم هناك بعض الأحاديث يقع في نفس الإمام منهم أنها منكرة ، وذلك لأنها خلاف المعروف عند أهل الحديث ، إلا أن الإمام لا يستطيع أن يحدد العلة بجلاء، وكذا لايتمكن من تحديد من يحتمل عهدة الخطأ أو النكارة ونحو ذلك ، وذلك في وقت دون وقت ، وهذا قليل جدًّا بالنسبة لما سبق ، وقد قال علي بن المديني : وربما أدركتُ على حديث بعد أربعين سنة اهـ (4) .

ولما كان العلماء لا ينطلقون في أحكامهم – في الأصل – من هوى أو جهل؛ فأحكامهم – في الجملة –  تكون مؤتلفة غير مختلفة، وهناك أشياء تنقدح في نفس الإمام منهم: باعتبار سعة إطلاعه، ومعرفته لمخارج الروايات، وطول الممارسة في خدمة الحديث النبوي، وكثرة مذاكرة أهل الفن بذلك، فهذا وغيره يُورِثُ العالم منهم أمورًا معينة ، فإذا وقف على حديث يخالف شيئًا من ذلك، أعله، فإن سئل عن تحديد العلة بدقة ، فقد لا يتهيأ له ذلك في وقت دون وقت ، أو قد لا يتهيأ لأحدهم دون الآخر، فيكتفي برد الحديث لمخالفته ما سبق أن انقدح في نفسه خلال حياته الحديثية ، ومثل هذا ليس بغريب على جميع الصناعات والفنون : أن يعرف المختصون فيها من كنه الأمور وحقائقها مالا يعرفه غيرهم، من الذين يقتصرون على ظاهر الأمور، وعلى هذا القسم يتنـزل قول من قال: معرفتنا بالعلل إلهام، أو كهانة عند الجاهل، أي الجاهل بهذا الفن، لا أنهم يتكلمون بجهل أو هوى، فالعلماء يرون أن العلة بادية واضحة، والعمدة في ذلك على العلماء ، لاعلى فهم الجهلة ، وغير المعتمد لا يعتمد ، والله أعلم .

ولذا قال السخاوي معلقًا على قول ابن مهدي: ” لو قُلْتَ للقيم بالعلل: من أين لك هذا؟ لم تكن له حجة ” قال السخاوي : ” يعني يعبِّر بها غالبًا، وإلا ففي نفسه حجج للقبول وللدفع ” اهـ من “فتح المغيث ” (1) .








(2) ( 1 / 124 ) .

(1) ( 1 / 350 – 351 ) .

(2) (1 / 123 ) .

(1) ( ص 123 – 124 ) .

(2) ( 2 / 711 ) .

(3) ( 1 / 289 ) .

(4) انظر ” الجامع ” للخطيب ( 2 / 257 ) .

(1) ( 1 / 288 ) .

للتواصل معنا