الأسئلة الحديثية

أقوال بعض العلماء في ذم الغريب من الحديث

أقوال بعض العلماء في ذم الغريب من الحديث

والكلام عن الغريب في عدة مسائل:

المسألة الأولى: الاعتراض على الناظم: يعترض على الناظم تأخيره الحديث الغريب، وعدم ضمِّه إلى قسيميه المشهور والعزيز، إذ ضم الشيء إلى نظائره أولى وأحسن.

المسألة الثانية: تعريف الحديث الغريب:

للعلماء في تعريف الحديث الغريب قولان، وهما:

القول الأول: عرفه ابن منده بقوله: الغريب كحديث الزهري وأشباهه ممن يُجْمَع حديثه، إذا انفرد عنهم بالحديث رجل سُمِّي غريبًا (1).

ومعنى قوله: ” يُجمع حديثه” أي: أن حديثه يُشتهى عالياً ونازلاً، ومسنداً ومرسلاً، وذلك لثقته، وعلو إسناده ونحو ذلك، فهو كثير الحديث ، والشيوخ ، والتلاميذ .

وهذا معناه: أن الراوي المشهور الذي يتنافس الناس في أخذ حديثه، وتتوافر الدواعي إلى التزاحم في الأخذ عنه، فمن انفرد عنه برواية عُدَّ غريبًا، وتلخص من هذا أن ابن منده يشترط في الغريب شرطين:

1- أن الراوي ينفرد بالرواية.

2- أن يكون شيخه الذي انفرد بروايته عنه ممن يُجْمَع حديثه.

ويرد على هذا التعريف: أن الغريب لا ينحصر في هذه الصورة، وأيضاً: فعندما ينفرد راو عن شيخ مكثر؛ ففي الغالب تكون روايته شاذة، أو منكرة، ولا شك أن الغريب منه الصحيح، والحسن، والضعيف، فلا نحصره في قسم الضعيف فقط.

القول الثاني: ما قاله ابن الصلاح: “بأنه الحديث الذي يتفرد به بعض الرواة، يوصَف بالغريب، وكذلك الحديث الذي يتفرد فيه بعضهم بأمر لا يذْكُره فيه غيره، إما في متنه، وإما في إسناده” (2) وبعبارة أخرى : سواء انفرد هذا الراوي بالحديث كله ، أو ببعضه سندًا ، أو متنًا .

فقد أطلق ابن الصلاح في تعريف الغريب، وراعى أمر التفرد، ولم يراع وَصْف شيخ المنفرد بكونه ممن يُجمع حديثه، وبنحو ذلك عَرَّفه الحافظ ابن حجر، فقال في تعريف الغريب: “وهو: ما يتفرد بروايته شخص واحد، في أي موضع وقع التفرد به من السند(1) ويقال أيضًا :” هو الحديث الذي يكون في أقل طبقة من طبقاته راو واحد”.

قد يقول قائل: يَرِدُ على هذا التعريف تَفَرُّدُ بعض البلدان ببعض الأحاديث.

والجواب: أن هذا ليس بوارد على تعريف الغريب اصطلاحًا، وقد قال ابن الصلاح بعد كلامه على الغريب: “وليس كل ما يُعَدُّ من أنواع الأفراد معدوداً من أنواع الغريب، كما في الأفراد المضافة إلى البلاد” (2) اهـ.

المسألة الثالثة : أقسام الحديث الغريب:

ينقسم الغريب من حيث الغرابة في السند والمتن إلى ثلاثة أقسام:

1- غريب سندًا ومتنًا، وهو: ما انفرد برواية متنه راوٍ واحد، وهذا ما يسميه بعضهم: بالفرد المطلق، وهذا القسم أكثر ما يُعَبَّر عنه بالفرد .

2- غريب سندًا لامتنًا، وهو: كالحديث الذي متنه معروف عن جماعة من الصحابة، إذا انفرد واحد بروايته عن صحابي آخر، كان غريبًا من ذلك الوجه، مع أن متنه غير غريب، ومن ذلك: غرائب الشيوخ في أسانيد المتون الصحيحة، وهو الذي يقول فيه الترمذي: غريب من هذا الوجه،قاله ابن الصلاح (3) : ” وهو الذي يسميه بعضهم بالفرد النسبي، وأكثر ما يُطْلَق اسم الغريب على هذا القسم، قاله الحافظ في “النـزهة” (4).

3 – غريب متنًا لا سندًا، وهذا القسم يقول فيه ابن الصلاح:” إنه لا يوجد إلا إذا اشتهر الحديث الفرد،فرواه عمن تفرد به جماعة كثيرة، فإنه يصير غريبًا مشهورًا، وغريبًا متنًا غير غريب إسنادًا، لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد: فإن إسناده مُتَّصِفٌ بالغرابة في الطرف الأول، مُتَّصِفٌ بالشهرة في طرفه الآخر، كحديث:” إنما الأعمال بالنيات ” ونظائره ” (5)اهـ.

قال العراقي:” استبعد المصنف – يعني ابن الصلاح – وجود حديث غريب متنًا لا إسنادًا؛ إلا بالنسبة إلى طرفي الإسناد، وأثبت أبو الفتح اليعمري هذا القسم مطلقًا من غير حَمْلٍ له على ما ذكره المصنف . اهـ (6) .

وما قاله ابن الصلاح أظهر ، ولعله لذلك قال العراقي في ” شرح الألفية ” (1) : ” القسم الثاني – يعني الغريب متنًا لا سندًا – هو الذي أطلقه أبوالفتح ، ولم يذكر له مثالاً ” اهـ .

إلا أنه يُحمل كلام أبي الفتح اليعمري على ما قاله العراقي في ” التقييد ” (2) حيث قال : ” ويُحتمل أنه يريد بكونه غريب المتن لا الإسناد : أن يَكون ذلك الإسناد مشهورًا جادَّةً لعدة من الأحاديث ، بأن يكونوا مشهورين برواية بعضهم عن بعض ، ويكون المتن غريبًا لانفرادهم به ، والله أعلم . اهـ

ومع كون ما احتمله العراقي محتملاً ؛ إلا أن الأظهر الأشهر كلام ابن الصلاح : ” والشهرة على كلام العراقي لاتكون شهرة اصطلاحية ، والله أعلم .

بل قال زكريا الأنصاري في ” فتح الباقي ” (3) : ” ولم يمثل – يعني اليعمري – الثاني لعدم وجوده ” اهـ .

4- غريب بعض السند فقط.

5 – غريب بعض المتن فقط، زاده ابن سيد الناس في شرحه على الترمذي، انظر” فتح المغيث” (4)

والغريب من حيث الصحة والضعف ينقسم إلى أقسام :

ينقسم الحديث الغريب من حيث الصحة وعدمها إلى ثلاثة أقسام:

غريب صحيح ، كالأفراد المخرجة في ” الصحيحين ” .

غريب حسن .

غريب ضعيف، وهذا الغالب على الغرائب.

ولما كان غالبها الضعف والنكارة ؛ كانت غير مرغوب فيها عند الأئمة، وأما جهلة المحدثين، فإنهم يفرحون بالغريب، وإن كان مُطَّرحَّا ،(5) والله أعلم.

المسألة الرابعة : هل هناك فَرْقٌ بين الغريب والفرد؟

قال الحافظ ابن حجر:”ويقل إطلاق الفردية عليه – أي على الغريب – لأن الغريب والفرد مترادفان لغة واصطلاحًا؛ إلا أن أهل الاصطلاح غايروا بينهما من حيث كثرة الاستعمال وقِلَّته، فالفرد أكثر ما يطلقونه على الفرد المطلق، والغريب أكثر ما يطلقونه على الفرد النسبي، وهذا من حيث اطلاق الاسم عليهما، وأما من حيث استعمالهم الفعل المشتق؛ فلا يُفَرِّقون، فيقولون في المطلق والنسبي: تفرد به فلان، أو أغرب به فلان….” (1) اهـ.

المسألة الخامسة: أقوال بعض العلماء في ذم الغريب:

قال مالك: “شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس”.

وقال ابن المبارك: ” العلم الذي يجيئك من هاهنا ومن هاهنا ” .

وقال عبد الرزاق: ” كنا نرى أن غريب الحديث خير، فإذا هو شر”.

وقال أحمد بن حنبل: “لا تكتبوا هذه الغرائب، فإنها مناكير، وغالبها عن الضعفاء”.

وقال: ” شَرُّ الحديث الغرائب: التي لا يُعْمَل بها، ولا يعتمد عليها” .

وقال إبراهيم بن أبي عبلة: ” مَنْ حَمَلَ شاذ العلماء حَمَلَ شرًّا كثيرًا “.

وقال إبراهيم: “كانوا يكرهون غريب الكلام وغريب الحديث”.

وقال يعقوب بن إبراهيم القاضي: ” من اتبع غريب الأحاديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق”.

وقال أبو نعيم: ” كان عندنا رجل يصلي كل يوم خمسمائة ركعة، سقط حديثه في الغرائب”.

وقال زهير بن معاوية: “ينبغي للرجل أن يتوقى رواية غريب الحديث، فإني أعرف رجلاً كان يصلي في اليوم مائتي ركعة، ما أفسده عند الناس إلا رواية غريب الحديث….”.

وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: “من تتبع الغريب كَذَبَ” وفي رواية: “كُذِّبَ” وهذا لأن الشخص إذا عُرِفَ بتتبع الغرائب؛ فإنه يكذب لروايته عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ما لم يقله، وإذا عَرَفَ الناس عنه ذلك كَذَّبوه، ويستنكرون روايته الحديث على غير المشهور عندهم، ويقولون له: هذا الحديث يرويه فلان بن فلان، فمن أين لك هذا الحديث عن غيره؟ وعلى هذا فأنت سارق لهذا الحديث، فَيُتَهَم الشخص لذلك، وكم من رجل كان مستورًا لكن تَتَبُّعَ الغرائب فضحه وكشفه، كما سبق كلام أبي نعيم وزهير بن معاوية، والله أعلم.

فالأئمة لا يفرحون بالغريب؛ لأنه لا يُنْتَفَع به في الغالب، بل ربما أضر بصاحبه، والعلم كما يقول ابن المبارك: “العلم هو: الذي يجيئك من ههنا ومن ههنا” قال ابن رجب: “يعني المشهور”(2).

ومما يشبه هذا في الذم: حال كثير من الشباب الذين تعجبهم الفتوى الغريبة المهجورة والشاذة، فتراهم مولعين بذلك، إما لسوء فهم، أو سوء قصد، أو كليهما، كمن يحب الشهرة والتصدر بمثل هذه الفتاوى.

والفتاوى الشاذة إن لم تضر صاحبها؛ فإنها لا تنفعه، وربما كانت سببًا في طرده من البلاد، أو تعرضه للقتل من جهلة الناس، أو ممن له ولاية، كما حدث لوكيع بن الجراح – رحمه الله تعالى – عندما دخل مكة ، وحدَّث عن ابن أبي خالد عن البهي أن أبا بكر الصديق جاء إلى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بعد وفاته، فأكبَّ عليه، فقبَّله، وقال: بأبي وأمي ما أطيب حياتك ومماتك، ثم قال البهي: وكان تُرِكَ يومًا وليلة حتى ربا بطنه، وانثنت خنصراه، فلما حَدَّث وكيع بهذا الحديث؛ اجتمعت قريش، وأرادوا صلب وكيع، ونصبوا خشبة لصلبه، فجاء سفيان بن عيينة – وكان بينه وبين وكيع يومئذ تباعد – فقال لهم: الله الله ، هذا فقيه أهل العراق، وابن فقيههم، وهذا حديث معروف، قال سفيان: ولم أكن سمعته إلا أني أردت تخليص وكيع.

وقال الذهبي مُعَلَّقًا على هذه القصة:” فهذه زَلَّة عالم، فما لوكيع ورواية هذا الخبر المنكر المنقطع الإسناد، كادت نفسه أن تذهب غلطًا، والقائمون عليه معذورون، بل مأجورون، فإنهم تخيلوا من إشاعة هذا الخبر المردود غَضًّا ما لمنصب النبوة….. ” إلخ 1

فالشاهد من هذا: أن الأحاديث الغريبة, والفتاوى الشاذة المهجورة قد يكون ثمنها التضحية بالنفس،  فعثرة القدم أهون من عثرة القلم، فإذا عثر قلمك، وأحل الحرام، أو حرم الحلال، أو أثبت شيئًا بحديث منكر؛ فعثرة القدم أهون من ذلك، لأنك قد تُتَّهم ويزهد الناس في علمك، فكن على حذر، والزم طريق القوم تَسْلَمْ، والله المستعان.








(1) قاله ابن الصلاح في ” المقدمة ” ( ص 268 ) مع ” التقييد ” .

(2) المصدر السابق ( ص 270 ) .

(1) “النـزهة ” ( ص 70 ) .

(2)انظر ” المقدمة ” ( ص 270 ) مع ” التقييد ” .

(3) المصدرالسابق ( ص 273 ) .

(4) ( ص 18 ) .

(5) انظر ” المقدمة ” ( ص 247 ) مع ” التقييد ” .

(6)انظر ” التقييد ” ( ص 273 ) .

(1) ( ص 320 ) .

(2) ( ص 274 ) .

(3) ( ص 492 ) .

(4)) .

(5) انظره مختصرًا في ” المقدمة ” ( ص 271 ) مع ” التقييد ” وانظر ” فتح الباقي ” لزكريا الأنصاري ( ص 490 – 491 ) و ” الغاية ” للسخاوي ( 1 / 308 ) .

(1) انظر ” النـزهة ” ( ص 81 ) .

(2) انظر بعض هذه الآثار وغيرها في ” الكامل ” لابن عدي ( 1 / 53 ) و ” آداب الإملاء والإستملاء ” لابن السمعاني ( 1 / 306 –  307 / 163 ) و ” الجامع ” للخطيب ( 2 / 136 – 138 ) و ” الكفاية ” للخطيب ( ص 223 – 226 )و ” شرح علل الترمذي ” لابن رجب ( 1 / 406 – 409 ) .

(1) انظر ” النبلاء ” ( 9 / 159 – 160 ) وانظر القصة أيضًا في ” الكامل ” ( 1 / 54 ) و ” المعرفة والتاريخ ” للفسوي ( 1/ 175 – 176 ) .