متى يُقْبَل الحديث المرسل ؟
ذكر الشافعي – رحمه الله – شروطً لقبول المرسل، منها ما يتعلق بالمرسِل، ومنها ما يتعلق بالمرسَل .
وخلاصة ذلك: أن ما يتعلق بالمرسِل ثلاثة شروط 1- أن يكون ثقة 2- أن يكون من كبار التابعين 3- أن لا يروي إلا عن مقبول الرواية .
وأما ما يتعلق بالمرسَل فواحد من أربعة 1- أن يُرَوى مسندًا صحيحًا من وجه آخر 2- أو يروى مرسلاً من وجه آخر، أرسله من أخذ العلم عن غير مشايخ الأول 3- أو يوافقه قول صحابي 4- أو يوافقه فتوى عامة أهل العلم .(1) اهـ
مناقشة وتوضيح لبعض ما جاء في كلام الشافعي ـ رحمه الله ـ وذلك من وجوه :
(أ)اشتراطه أن يكون التابعي المرسِل ممن لا يروي إلا عن مقبول الرواية :
إذا كان المراد منه ما أظهره من شيوخه فيما أسنده، لا ما أسقط من شيوخه فيما أرسله؛ فيكون المراد أنه غلَّب احتمال ثقة من أُسقط؛ لثقة من أُظهر في الأسانيد الأخرى، وعلى ذلك فلا إشكال .
وإذا كان مراده أن المرسِل فيما أرسله يروي عن مقبول الرواية؛ ففي هذا إشكال: وهو أننا في مقام الاعتضاد بالمرسل، لا الاعتماد عليه، وإذا تأكدنا أنه لم يُسْقِطْ إلا ثقة؛ فلا إشكال في الاحتجاج به دون حاجة إلى عاضد، كما قال العلائي – رحمه الله – (2) والله تعالى أعلم .
(ب)اشتراطه كون التابعي ثقة؛ من باب التفصيل، وإلا فهو داخل في اشتراط أن يكون التابعي لا يروي إلا عن مقبول الرواية، فإنه يُسْتَبعد أن يكون الضعيف ممن لا يروي إلا عن ثقة، فإن هذا الحال لا يُعْرف إلا في مشاهير الثقات، وليس كل ثقة كذلك، فضلاً عن الضعيف ، والله أعلم .
(ج) اشتراطه اختلاف مشايخ المرسِلَيْن: يرد عليه أنه يستبعد – فيما أعلم – أن اثنين من كبار التابعين، رويا عن كبار الصحابة؛ ومع ذلك لم يلتقيا في شيخ واحد من التابعين، ويُخْشى بهذا الشرط إهدار لاستشهاد بمرسل لمرسل آخر؛ لاستبعاد أو تعذُّر وقوع ذلك ، والله أعلم .
وكذلك: فإن اشتراطه كون التابعي المرسِل لايروي إلا عن ثقة؛ يَضْمن لنا كثيرًا مما أراده من هذا الشرط ؛ لأن الحديث إذا اختلف مخرجه؛ فيقوى احتمال قوته ، وكذا إذا كان كل من المرسِلَيْن لايروي إلا عن ثقة؛ فإن ذلك يُقَوِّي احتمال قوة الحديث، لأنهما إذا رويا عن رجل واحد ثقة؛ فالحديث حيثما دار دار على ثقة ، ولذا فهذا الشرط قد حصل كله أو كثير منه في الشرط الأول ، والله أعلم .
د – اشتراطه أن يكون المرسِل من كبار التابعين ، قد خالفه في ذلك كثير من علماء الشافعية، وأطلقوا القول بقبول المرسل في الشواهد دون تقييد بالكبار، بل قوَّوا بعض المراسيل بمراسيل متوسطي وصغار التابعين .
وقد فصَّلت الكلام في هذه الوجوه في كتابي ” إتحاف النبيل ” (1) ، وأزيد هنا فأقول.
وقول الشافعي – رحمه الله – : فإنه شَرِكَه فيه الحفاظ المأمونون، فأسندوه إلى رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بمثل معنى ماروى؛ كانت هذه دلالة على صحة مَنْ قَبِل عنه وحفظه” اهـ .
قد يَرِدُ عليه: أن تقوية المرسَل؛ لايشترط فيها إذا قوَّاه مُسند أن يكون المسند من طريق الحفاظ ، بل يكون ذلك بكل من تقوم به الحجة، ولو كان من رجال الحسن فإنه يصلح لذلك .
قلت : قد صرح العلائي في ” جامع التحصيل ” بأن مراد الشافعي عموم من تقوم به الحجة ، فقال : ” مراده ما إذا كان طريق المسند مما تقوم به الحجة “(2) اهـ .
ومما يؤيد أن الشافعي لايريد الحصر في تقوية المرسل بالمسند الذي يرويه الحفاظ، بل المراد مطلق المقبول : أن الشافعي قوَّى المرسل بالمرسل، وبالموقوف، فكيف لايقويه برواية من هم دون الحفاظ من رجال الصحيح والحسن ، والله أعلم .
( تنبيه ) : المسند إذا كان فيه ضعف خفيف ينجبر، فإنه يتقوى بالمرسل ؛ لأن في كل منهما ضعفًا خفيفًا، فيقوى الظن باجتماعهما ، وانظر ” النكت ” للحافظ (3) .
( تنبيه آخر ) : إذا جاء الحديث من طريقين، إحداها مرسل فيه ضعف خفيف ، والآخر من طريق مسند فيه ضعف خفيف، فهل يتقوى كل منهما بالآخر ؟
الجواب : لا أستبعد ذلك: إذا سَلِمَ الحديث من نكارة في السند أو المتن ، أو اتحاد المخرج ، فكل منهما – والحالة هذه – يفيد ظنًّا خفيفًا بالثبوت، وحالة الاجتماع تختلف عن حالة الانفراد ، والمرسل في هذه الحالة يكون كمسند فيه ضعف خفيف في موضعين .
وقد صحح شيخنا الألباني – رحمه الله – بعض الأحاديث بنحو ذلك ” انظر الصحيحة ” (4)ويُنْظَر في صنيع العلماء في هذا الموضع، فالأمر يحتاج إلى مزيد بحث ، والله أعلم .
(1) انظر ” الرسالة ” ( ص 461 – 470 ) برقم ( 1262 – 1305 ) .
(2) انظر ” جامع التحصيل ” ( ص 42 – 43 ) .
(1)( 2 / 219 – 231 ) السؤال ( 224 ) .
(2)( ص 38 ) .
(3) ( 2 / 567 ) .
(4) ( 2 / 228 / 635 ) ( 4 / 55 / 1540 ) .