الأسئلة الحديثية

هل يُحْتَج بالحديث المرسل ؟

هل يُحْتَج بالحديث المرسل ؟

الجواب : لا يُحتج بالحديث المرسل، وقد قال الإمام مسلم في “مقدمة صحيحه” حاكيًا قول خصمه،  مُقرًّا له :” والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة “اهـ (2).

وقد يقال: كلام مسلم في غير المرسل الاصطلاحي المشهور؛ لأن سياق كلامه في العنعنة، ليس في موضع النـزاع، والله أعلم .

وفي الاحتجاج بالمرسل خلاف، لكن رده هو مذهب جمهور المحدثين، وجماعة الفقهاء، وجماهير أهل الأصول والنظر، حكاه النووي عنهم (3).

وذهب آخرون إلى الاحتجاج به، حتى إن بعضهم بالغ وقَدَّمه على الحديث المسند، وقال: من أسْنَدَ فَقَدْ أحالك، ومن أرسل فَقَدْ كفاك، وهذا الكلام مردود، ولو فُتِح هذا الباب لانهار علم الحديث من أساسه،وسقطت جهود المحدثين ،وقد جمع الحافظ في النكت(4) مذاهب العلماء في ذلك، فقال :

وأما حكم المرسل فاختلفوا في الاحتجاج به على أقوال :

أحدها : الرد مطلقًا، حتى لمراسيل الصحابة .

ثانيها: القبول المطلق في جميع الأعصار والأمصار، كما قدمنا حكايته وَرَدَّه .

ثالثها : قبول مراسيل الصحابة – رضي الله عنهم – فقط وردّ ما عداها، وهو الذي عليه أئمة الحديث .

رابعها : قبول مراسيل الصحابة وكبار التابعين، ويقال: إنه مذهب أكثر المتقدمين .

خامسها : كالرابع، لكن من غير قيد بالكبار، وهو قول مالك وأصحابه، وإحدى الروايتين عن أحمد .

سادسها : كالخامس، لكن بشرط أن يعتضد، ونَقَلَه الخطيبُ عن أكثر الفقهاء .

سابعها: إن كان الذي أرسل من أئمة النقل المرجوع إليهم في التعديل والترجيح؛ قُبِلَ مرسله، وإلا فلا .

ثامنها : قبول مراسيل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وبقية القرون الفاضلة دون غيرهم .

تاسعها :كالثامن، بزيادة من كان من أئمة النقل أيضًا .

عاشرها : يقبل مراسيل من عُرِفَ منه النظر في أحوال شيوخه، والتحري في الرواية عنهم، دون من لم يُعْرَف منه ذلك .

حادي عَشْرِها: لا يُقْبَل المرسل إلا إذا وافقه الإجماع؛ فحينئذ يحصل الاستغناء عن السند، ويُقْبَل المرسل، قاله ابن حزم في “الأحكام” .

ثاني عَشْرِها: إن كان المرسِل موافقاً في الجرح والتعديل؛ قُبِلَ مُرْسَله وإن كان مخالفًا في شروطها؛ لم يُقْبَل ، قاله ابن برهان ، وهو غريب .

قلت : لم يظهر لي مراده من هذا المذهب بجلاء ، فالله أعلم .

ثالث عشْرِها: إن كان المرسِل عُرِف من عادته، أو صريح عبارته: أنه لا يرسل إلا عن ثقة؛ قُبِلَ، وإلا فلا اهـ .

قلت : وأقوى هذه المذاهب مذهب من أطلق رد المرسل المجرَّد، ويليه من قَبِلَه إذا كان التابعي من أئمة الحديث، الذين يميزون صحيح الحديث من سقيمه، وثقات الرجال من ضعفائهم، واشترط أن لا يروى إلا عن ثقة، وأما مراسيل الصحابة فحجة، وهي خارجة عن المرسَل الاصطلاحي، الذي نحن بصدده، والله أعلم .

( تنبيه ) : استدل القائلون بقبول المرسل بأمور، أهمها :

1-الإجماع على قبول المرسل، حتى جاء الشافعي فردَّه (1).

والجواب: أن دعوى الإجماع غير مسلَّم بها , فإن ابن عباس – رضي الله عنه- كان يقول: فلما رَكِبَ الناسُ الصعب والذلول؛ لم نكن نأخذ إلا ما نعرف عن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فإذا كان الصحابة لايأخذون ممن لايعرفون حاله – وإن عُرِفتْ عينه – فمن باب أولى رد رواية من لايُعْرف له عين ولا أثر ، والله أعلم .

وقال ابن سيرين: كانوا لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة؛قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُنْظَر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، ويُنْظَر إلى أهل البدعة فيُرَدُّ حديثهم، وهذا في عصر بقية الصحابة والتابعين، فلو كانوا يقبلون المراسيل؛ لما فتشوا في الأسانيد ، والله أعلم (1) .

2-قولهم : إن عصر التابعين عصر قد فَشَتْ فيه العدالة، وهم من خير القرون، والكذابون قلة في ذلك الزمان، فالأصل قبول مراسيلهم .

والجواب : إن عصر التابعين وإن كان كذلك؛ إلا أن الاحتياط في قبول السنة يقتضي التفتيش عن الإسناد , لاسيما وقد ظهر في أواخر عصر  الصحابة، وكذا في عصر التابعين ألوان من البدع والأهواء.

وهذا ابن سيرين وغيره لم يروا ما ذكره المحتجون بالمرسل دليلاً لترك النظر في الأسانيد، وابن سيرين أحد التابعين، فدل ذلك على عدم الاعتماد على هذا الدليل .

أضف إلى ذلك: أن سبب الرد لرواية الراوي لا يقتصر على الكذب، فالتابعون وإن قلَّ فيهم الكذب – بالنسبة لمن بعدهم من العصور – فالوهم والخطأ موجود في الصالحين الأتقياء، والراوي لا يُحتج بخبره إلا أن ثبتتْ عدالته، وصح ضبطه، والله أعلم .

3-قولهم : لو كان التابعي أخذ الحديث عمن ليس بثقة؛ لما استجاز لنفسه أن يقول: قال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – .

والجواب : أن هذا ليس بلازم؛ فالحديث يُروى على وجوه ،منها التَّعَبُّد والعمل به، ومنها الاستدلال عليه بغيره، ومنها التحذير منه، فقد يروي التابعي الحديث لا للعمل به، إنما يرويه لسبب آخر، وعلى ذلك فلا يلزمه أن يتحرى في شيخه .

سلَّمنا أن التابعي قَصَدَ التحري؛ فليس كل تابعي يصلح لذلك، فمنهم الناقد البصير، ومنهم الغافل، الذي ليس له رواية بأحوال الرواة، ومنهم المضعَّف مِنْ قِبَلِ حِفظه .

سلمنا أن التابعي ناقد بصير؛ فهل التزم الرواية عن الثقات منذ بدأ في التحديث، أم أنه ما التزم هذا الأمر مؤخَّراً ، والجواب أن الثاني هو مقتضى العادة .

سلمنا أنه ما أرسل إلا عن ثقة يعرفه؛ فغايته أنه توثيق للمبهم، وهو لا يعتمد عليه – على الراجح – كما هو مذهب الجمهور ، والله تعالى أعلم .

وقد أطال النفس الحافظ العلائي –رحمه الله– في رد أدلة من احتج بالمرسل فانظر “جامع التحصيل” (2).

المسألة الرابعة : سبب رَدِّ الحديث المرسل :

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – وإنما ذُكِرَ في قسم المردود للجهل بحال المحذوف، لأنه يُحتمل أن يكون صحابيًّا، ويحتمل أن يكون تابعيًّا ، وعلى الثاني: يُحتمل أن يكون ضعيفًا ، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الثاني: يُحتمل أن يكون حمل عن صحابي، ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي آخر ، وعلى الثاني: فيعود الاحتمال السابق، ويتعدد إما بالتجويز العقلي؛ فإلى ما لانهاية له، وإما بالاستقراء إلى ستة أو سبعة : وهو أكثر ما وُجِدَ من رواية بعض التابعين عن بعض ” (1) اهـ . وإن كان في قوله ” . . . . إلى مالا نهاية نظر ، لأن عدد التابعين محصور، فكيف لايُحصر ما بين التابعي والصحابي من التابعين (2)؟!

المسألة الخامسة : حُكْم مراسيل الصحابة :

وصورة ذلك: أن يروي الصحابي الحديث عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – مع أنه لم يسمعه منه، فذهب بعضهم(3) إلى أنه لايُحتج ، لا لأن الصحابة ليسوا بعدول ، ولكن لاحتمال أن الصحابي لم يأخذه عن صحابي آخر، بل يُحتمل أنه أخذه عن تابعي عن صحابي آخر ، أما أخذه عن تابعي عن صحابي فنادر جدا ، وقد ذكر الحافظ (3) أن ماكان من هذا القبيل قد تُتُبِّعَ وليس فيه شئ عن تابعي ضعيف في باب الأحكام ، والله أعلم .

والراجح قبول مرسل الصحابي ؛ لأن الأصل أنه إن نزل نزل إلى صحابي آخر لا إلى تابعي ، فالنادر لايُلتفت إليه إلا بقرينة ، لاسيما وقد سبق عن الحافظ ما سبق وانظر ما قاله ابن الوزير في ذلك (4).

( تنبيه ) : الصحابي الذي يُقْبَل مرسَله: هو من لقي النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – مميزا لما يقوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – سواء كان كبيرا أم صغيرًا ، أما الذين أُدْخِلوا في الصحابة من باب شرف الرؤية، ولم يكونوا مميزين لِّما رأَوُا النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أو رآهم النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فروايتهم من مراسيل التابعين (1)، وقد سبق الكلام على حكم ذلك ، والله أعلم.

( تنبيه آخر ): إذا قالوا:” فلان صحابي صغير” فليس المراد بذلك أنه من الذين لم يكونوا مميزين حال لقائهم بالنبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – إلا أن تظهر قرينة لذلك ، والله أعلم .









(2) ( 1 / 132 ) مع شرح النووي ، ب/ صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن .


(3) انظر ” المجموع ” ( 1 / 129 ) .


(4) ( 2 / 546 – 555 ) .


(1) قاله الطبراني ، انظر ” جامع التحصيل ” ( ص 70 ) .


(1) انظر هذا الوجه ملخصًا في ” جامع التحصيل ” ( ص 70 – 71 ) .


(2) ( 2 / 68 – 98 ) .


(1) انظر ” النزهة ” ( ص 110 ) .


(2)انظر “حاشية ابن قطلوبغا على النـزهة “( ص 80 ) وحاشية الكمال على ” النزهة ” ( 79 ) .


(3)وهو قول أبي بكر الباقلاني ، وحُكي عن الاسفرائيني ، انظر ” النكت ” ( 2 / 546 – 548 ) .


(4) انظر ” توضيح الأفكار ” ( 1/ 317 ) وقيد الصنعاني أخذ الصحابي عن التابعي بصغار الصحابة لا كبارهم ، فإن ذلك مستبعد جدًا ، انظر ( 1 / 318 ) وصرح الحافظ في ” هدي الساري ” ( ص 397 ) الحديث ( 89 ) من الأحاديث المنتقدة على البخاري ، بأن قبول المرسل الصحابي مذهب الأئمة قاطبة إلا من شذَّ تاخر عصره عنهم ، فلايُعتد بمخالفته ، والله أعلم .


وجعل الخلاف في مراسيل الصحابة ليس شاملاً لمراسيل من مات رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قبل أن يُميزوا ، انظر ” الفتح ” ( 7 / 6 ) ك / فضائل الصحابة ، الحديث ( 3651 ) .


(1)انظر ” الإصابة ” ( 1 / 159 ) وقد سبق إلى ذلك العلائي في ” جامع التحصيل ” ترجمة عبدالله بن الحارث بن نوفل ( ص 253) وترجمة عبدالله بن أبي طلحة ( ص 259 ) ولم يعدّ هذا النوع صحابيًّا – أصلاً – وقد أفاد ذلك العراقي في ” شرح الألفية ” (3/7) .

للتواصل معنا