الأسئلة الحديثية

هل يُحتج بالحديث الحسن لغيره، مع أن كل طريق فيه لا يَسْلم من ضَعْف خفيف ؟

هل يُحتج بالحديث الحسن لغيره، مع أن كل طريق فيه لا يَسْلم من ضَعْف خفيف ؟

الجواب: نعم، يُحتج بما هذا وصفه، والعمدة في ذلك صنيع عدد من الأئمة، فمن ذلك:

1- الإمام الشافعي رحمه الله، فقد قال رحمه الله تعالى:

” المنقطع مُختلف فيه: فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التابعين، فحدَّث حديثاً منقطعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتُبر عليه بأمور:

منها: أن يُنْظر إلى ما أَرْسَل من الحديث، فإن شَرِكَه فيه الحفاظ المأمونون، فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمثل معنى ما روى؛ كانت هذه دلالة على صحة مَنْ قَبِلَ عنه، وحَفِظَه.

وإن انفرد بارسال حديث، لم يَشْرَكْه فيه مَن يُسنده؛ قُبِل ما ينفرد به من ذلك.

ويُعتبر عليه بأن يُنْظر: هل يوافقه مرسِل غيره، ممن قُبل العلم عنه من غير رجاله الذين قُبل عنهم؟ فإن وُجِدَ ذلك؛ كانت دلالة تُقوِّى له –أي للمرسِل الأول- مرسَله، وهي أضعف من الأولى.

وإن لم يُوجَد ذلك: نُظِر إلى بعض ما يُرْوى عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولاً له، فإن وُجِدَ يوافِق ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسَله إلا عن أصل صحيح –إن شاء الله-.

وكذلك إن وُجد عوام من أهل العلم يُفْتُون بمثل معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم….” إلى أن قال رحمه الله: ” وإذا وُجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت؛ أحببْنا أن نقبل مرسَله، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالموتصل”(1).ا.هـ.

فهذا الإمام الشافعي –وهو من أئمة الدين المتقدمين- يُقوِّي المرسَل بمرسَل آخر، وكلاهما ضعيف، ويقويه بالموقوف، وليس هو –في ذاته- بحجة، فثبت ما قلْته، والله أعلم.

فإن قيل: إن الشافعي رحمه الله يرى العمل بما هذا وصفه من المراسيل، لا أنه حجة يُحتج به.

فالجواب: كيف يقال هذا، والشافعي يقول فيما إذا تابع المرسِل مرسَل آخر:

” كانت دلالة تقوِّي له مرسَله، وهي أضعف من الأولى”.أ.هـ..

فهذا نص صريح بأن المرسَل يتقوى بالمرسَل، وإن لم تكن في درجة القوة المستفادة من متابعة حديث مسند لحديث مرسل، فكيف يقال: المرسَل بعد المتابعة بمرسَل آخر، ليس قوياً، وهو باقٍ على الضعف؟!

وكذا قال الشافعي فيما إذا تابع المرسِلَ قولُ صحابي: ” كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسَله إلا عن أصح يصح إن شاء الله”.ا.هـ.

وقال أيضاً: “وإذا وُجِدَتْ الدلائل بصحة حديثه بما وَصَفْتٌ؛ أحببْنا أن نقبل مرسله، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل”.ا.هـ.

فكيف يحكم الشافعي بأن المرسِل ما أخذ مرسَله إلا عن أصل يصح –بعد متابعته بالموقوف- وأن هذه الدلائل تدل على صحة حديث المرسِل، ثم يُقال بعد ذلك: إنه ضعيف لا يُحتج به، وإن عُمِل به، أو أنه لا يلزم من العمل بالحديث صحته؟!

نعم، لا يلزم من العمل بالحديث صحة مَبْنَاه؛ لكن هذا ليس في هذا الموضع، لهذه الأدلة من كلام الشافعي نفسه.

نعم، إن الشافعي فرَّق بين مراتب الحجية بين ما هذا سبيله وبين المتصل، لكن لم يقُل إن المرسل الذي يتقوى بمثله ليس بحجة أصلاً، والله أعلم.

وتفصيل الرد على من استدل ببعض كلام الشافعي على رد رواية الضعيف إذا توبع بمثله أو نحوه مطلقاً في موضع آخر، “شرحي للنزهة” إن شاء الله تعالى.

3،2- يحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل –رحمهما الله تعالى-:

جاء في “شرح علل الترمذي(1)” لابن رجب رحمه الله: “قال إسحاق بن هانيء، قال لي أبو عبد الله: -يعني أحمد- قال لي يحيى بن سعيد: “لا أعلم عبيد الله –يعني ابن عمر- أخطأ إلا في حديث واحد لنافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام…” الحديث.

قال أبو عبد الله: فأنكره يحيى بن سعيد عليه.

قال أبو عبد الله: قال لي يحيى بن سعيد: “فوجدته قد حَدَّث به العمري الصغير عن ابن عمر مثله.

قال أبو عبد الله: لم يسمعه إلا من عبيد الله، فلما بلغه عن العمري صححه“.ا.هـ

فتأمل كيف ارتاب في حديث عبيد الله العمري –وهو ثقة- ثم صححه بحديث العمري الصغير، وهو عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف عند القطان  وأحمد.

فإن قيل: إن القطان صحح الحديث لأنها متابعة ضعيف للثقة، ونحن لا ننازع في ذلك، إنما ننازع في تقوية الضعيف بمثله أو نحوه.

فالجواب: سبق من كلام الشافعي تقوية المرسَل بمثله، وهما ضعيفان.

وأيضاً: فالثقة حجة بنفسه، ولا يحتاج –في الأصل- إلى متابعة غيره له، إنما ارتاب القطان في رواية الثقة، واستنكر روايته، فلما تابعه الضعيفُ عليها؛ صححها القطان، فرواية الثقة عند ارتياب القطان منها نُنَزِّل منزلة رواية الضعيف، لأنه لولا متابعة الضعيف للثقة؛ لضعَّفَ القطانُ روايته، فلما نُزِّلت رواية الثقة هنا منزلة رواية الضعيف التي يُرتاب منها، ويُتوقف فيها، وصححها القطان بمتابعة الضعيف؛ دل ذلك على صحة ما أجبْتُ به، والله أعلم.

فإن قيل: إن القطان حكم بالنكارة، والمنكر لا يَعتضد بغيره.

فالجواب: أن الحكم بالنكارة إذا كان فرعاً عن جمع الطرق، وكان الراوي مخالفاً لمن هو أوثق منه؛ فلا يُستشهد بما هذا سبيله، لكن إذا كان الإمام يظن أن الراوي تفرد بهذا الحديث، ورأى أن مثله لا يقبل تفرده بهذا الأصل، فحكم بالنكارة، ثم وَجَدَ متابعاً؛ زالت علة هذا الحكم، والحكم يزول بزوال علته، وهي هنا: ظَنُّ التفرد، ولذلك فقد صحح القطان هذا الحديث لما وقف على متابعة العمري الصغير، وإلا فالمنكر أبداً منكر، كما قال أحمد(1)، والله أعلم.

فإن قيل: لماذا ذكرت أحمد مع القطان، والمتكلِّم بما سبق هو الفطان؟

قلت: لقد أقرّه أحمد على ما قال، ولم يتعقب، ولو كان كلام القطان قولاً محدثاً مخترعاً –كما يقول بعض طلاب العلم فيمن يرى الإحتجاج بما هذا سبيله- لأنكره أحمد، فهل يسكُت أحمد ويصرخ بعض طلاب العلم في هذه الأيام برد هذا القول؟ ألا يسَعهم ما وسع أحمد؟!

5،4-محمد بن يحيى الذهلي، والعقيلي –رحمهما الله تعالى-:

جاء في “الضعفاء” للعقيلي(2) ترجمة محمد بن عبد الله بن مسلم بن أخي الزهري:

” وأما محمد بن يحيى النيسابوري: فجعله في الطبقة الثانية من أصحاب الزهري، مع أسامة بن زيد، ومحمد بن إسحاق، وأبي أويس، وفليح، وعبد الرحمن بن إسحاق، وهؤلاء كلهم في رجال الضعف والإضطراب” وقال محمد بن يحيى: “إذا اختلف أصحاب الطبقة الثانية؛ كان المفزع إلى الطبقة الأولى في اختلافهم، وإن لم يوجد عندهم بيان؛ فيما روى هؤلاء –يعني الطبقة الثانية- وفيما روى –يعني أصحاب الطبقة الثالثة- يُعرف بالشواهد والدلائل، وقد روى ابن أخي الزهري ثلاثة أحاديث، لم نجد لها أصلاً عند الطبقة الأولى، ولا الثانية، ولا الثالثة”.ا.هـ.

فهذا الذهلي –وهو أعرف الناس بأحاديث الزهري، حتى لُقِّب بمحمد بن يحيى الزهري- قسَّم أصحاب الزهري إلى ثلاث طبقات، الأولى: يحتج بها؛ لأنهم أعرف الناس بالزهري وحديثه، وإذا اختلف من دونهم من تلاميذ الزهري في حديثه؛ سُبر هذا بحديث الطبقة الأولى، والحكم لمن وافقهم، فهذا بحث عن شاهد من الثقات أولاً، فإن لم يوجد؛ نزلنا إلى الطبقة الثانية – وهي طبقة رجال الضعف والإصطراب- كما صرح العقيلي أخذاً من صنيع الذهلي –فإن وجدنا ما يشهد لقول أحد المختلفين الضعفاء، وإن كان من رواية ضعيف، فضعيف مع ضعيف، أولى من ضعيف وحده، فإذا قُبل ضعيف مع ضعيف، مع أن هناك ضعيفاً آخر يخالفهما؛ فمن باب أولى يقبل ضعيف مع ضعيف دون مخالف لهما، وهذا ظاهر فإن لم يوجد متابع في الطبقة الثانية؛ كان المفزع إلى الثالثة –وهي دون الثانية في الضبط، إلا أنها ليست طبقة المهدرين المتروكين، ومع ذلك فرواية صاحب الطبقة الثالثة تشد من أزر صاحب الثانية الذي خالفه غيره، ولم يتابَع على قوله، فإذا كان ذلك كذلك مع وجود المخالفة؛ فما ظنك بالحال عند السلامة من المخالف أصلاً؟!

إن هذا النص من أعلم الناس بالزهريات؛ ومن أخْبر الناس بمراتب أحاديث الزهري؛ لنص ظاهر على صحة ما أجبْتُ به، والله أعلم.

فإن قيل : لم يصرح الذهلي في هذا النص بأن رواية الضعيف إذا توبعت ؛ احتُجَّ بها !!

فالجواب : هذا الإيراد من زُخْرف القول البعيد عن روح النص ولُبِّه ، كيف لا ، والذهلي قال في أول كلامه : إذا اختلف أصحاب الطبقة الثانية ؛ كان المفزع إلى الطبقة الأولى في اختلافهم ، فإن لم يوجد عندهم بيان ؛ ففيما روى هؤلاء . . . ” اهـ .

فما فائدة المفزع إلى الطبقة الأولى ، إذا كان من وافق ما عندهم روايته مردودة أيضًا ؟

أليست الطبقة الأولى هي التي يُسْتبرأ بها أحاديث الزهري ، وهي التي يُسْبر بها حديث تلامذة الزهري ؟

أليس حديثهم غاية في الصحة عنه ؟فكيف يكون من وافقهم مردود الرواية ؟!

فما فائدة قول الذهلي : ” فإن لم يوجد عندهم بيان ” ؟ بيان ماذا ؟ أليس البيان الذي يوضح أن راوي الطبقة الثانية قد ضبط روايته عن الزهري ؟ وإذا كان ذلك كذلك ؛ فكيف تُردُّ رواية من ضبط حديث شيخه ؟!

فإن قيل: نحن لاننازع في الضعيف إذا وافقه ثقة ،ولكن ننازع في ضعيف لم يتابعه إلا مثله أو نحوه .

فالجواب : مع أنكم تنازعون في ذلك ؛ فالذهلي لم ينازع ، بل ساق الكلام مساقًا واحدًا ، وذكر أنه يفزع لرواية الطبقة الأولى ، وإلا فالثانية ، وإلا فالثالثة ، أما أنتم فلا ترون المفزع إلا إلى الأولى فقط ، وهم الثقات ، وفي هذا فارق بينكم وبين الذهلي .

أضف إلى ذلك : أن الذهلي لم يصرح بتصحيح رواية الضعيف إذا توبع من الطبقة الأولى ، أو الثانية أو الثالثة ، فإما أن تقولوا بضعف رواية الضعيف إذا توبع من ثقة أيضًا ، كما تقولون بضعف روايته إذا تابعه مثله ، فإن صرّحتم بذلك ؛ عرف الناس خطأكم وتناقضكم .

وإن قلتم : لا ، نقبل كلامه في متابعة رجل من الأولى للضعيف دون غيرها من الطبقات .

فالجواب : لماذا تفرقون بين كلام الذهلي ، وقد ساقه مساقًا واحدًا ؟ هل عندكم من سلطان بهذا، أم تقولون على الذهلي ما لا تعلمون ؟! ثم إنكم تَدَّعون أنكم سائرون على منهج الأئمة المتقدمين ، فهل الذهلي منهم أم لا ؟وهلأنتم قبلتم كلامه أم لا؟ وهل نقلتم عن أحد يوافقكم بمثل هذا الظهور عن الذهلي ؟

وأيضًا: فإذا كان الذهلي قبل رواية ضعيف مع ضعيف في الزهري ، وهو ممن يُجمع حديثه ،كما أنه كثير الحديث والتلاميذ ، ولم يطلق القول بأن هذا مردود لأن تلامذة الزهري الثقات يرووه ، فكيف لايقبل ضعيف مع ضعيف عن مطلق الثقة مالم يأت بمنكر ؟!

فإن قيل : وهل متابعة مَنْ في الطبقة الأولى للضعيف ، تستوي مع متابعة من في الطبقة الثانية ، أو الثالثة ؟

فالجواب: ما أظن أحدًا يقول : متابعة الثقة الحافظ للضعيف تستوي من جميع الوجوه – مع متابعة الضعيف للضعيف ، لكن هناك أصل في الشَّبَه ، وهو الحكم بثبوت من تُوبع من غيره ، إلا أن الماتبعة لاتستوي مع اختلاف العدد أو الوصف ، كما هو ظاهر ، والله أعلم .

فإن قيل :ولم أدخلت العقيل مع الذهلي ؟

قلت : العقيل نقل هذا ، شارحًا له ، موضحًا مراد الذهلي في مواضع الاشتباه ، وسكت عنه في الترجمة ، ولو كان يعلم أن هذا مخالف لما عليه الأئمة ؛ لأنكره على الذهلي ، بل الدواعي متوافرة للرد على من خالف منهج الأئمة فيما هو دون ذلك ، فلما لم ينكر على الذهلي ، وسلَّم له هذا التفصيل في حديث الزهري ؛ دَلَّ ذلك على إقراره ، والله أعلم .

6– الإمام الترمذي ، وقد سبق نقل كلامه بتمامه فيتعريف الحديث الحسن .

فإن قيل :إن الترمذي ما أراد بذلك أن الحديث الحسن – بهذه القيود التي ذكرها – يكون حجة يُحتج بها !!

فالجواب:هذا من عجب العُجاب ، إذْ كيف يشترط الترمذي عدم الضعف الشديد ، ومجئ الحديث من وجه آخر ، ولايكون شاذا ، ثم يسميه حسنًا ، وبعد هذا كله لايراه الترمذي حجة إذا توافرت فيه هذه شروط مطلقًا ؟

أي تهمته للترمذي بالتلبيس على العباد أعظم من هذه ؟!نعم ، قد يحكم الترمذي على حديث بأنه جسن ، ويذكر في سنده علة ظاهرة ، كانقطاع ونحوه ، ولايلزم من ذلك تضعيف الترمذي لما استوفى الشروط السابقة مع حكمه عليه بالحسن ، وقد راعى في حكمه الحديث بمجموع طرقه ، لا من طريق واحد .

هذا ، وقد رددت على من يرى أطلاق رد الاحتجاج بالحسن لغيره بحجة الضعيف لايتقوى بمثله أو نحوه مطلقًا ، وينسب ذلك إلى منهج الأئمة الذين قد نقلتُ عن بعضهم ما يدفع هذه النسبة إليهم ، كل ذلك  في شرحي ” للنزهة ” ولعل الله ييسر إتمام ذلك هنالك ، والله تعالى أعلم .





(1)الرسالة ص (461) برقم (1263-1270).

(1)(1/453-544).

(1)في “سؤالات ابن هاني” (2/167).

(2)(4/88).