الأسئلة الحديثية

ما هو التعريف الصحيح لمجهول العين والحال، وهل يصلحان في الشواهد والمتابعات، أم لا؟

ما هو التعريف الصحيح لمجهول العين والحال، وهل يصلحان في الشواهد والمتابعات، أم لا؟

العلماء يقسمون المجهول إلى مجهول عين، ومجهول حال، ومستور، والمجهول عامّة هو الذي ليس فيه كلام من جهة الجرح والتعديل، وأمّا الراوي إذا عُدَّل أو جُرِّح، فقد خرج من حيز الجهالة إلى حيز العلم بحاله سواء عُرف بالعدالة، والضبط والإتقان، أو عُرِف بالضعف، أو بالفسق، أو بالكذب، فالمجهول هو غير المعلوم، فلا يظن أحد أن المجهول مُجَرَّح، لأنّه لو كان مجرحاً لما كان مجهولاً، كذلك ليس بمعدّل،

وهنا أسأل سؤالاً: ما هي الأسباب التي تجعل العلماء يحكمون على الراوي بأنّه مجهول؟

الأسباب التي تجعل العلماء يحكمون على الراوي بأنَّه مجهول: إمّا أنَّه غير مشتغل بالراوية، أو أنه مُقِل في الراوية جداً، فما استطاعوا أن يميزوا حاله(1)؛ لأن الأئمة إذا أرادوا أن يحكموا على الراوي بالثقة أو الضعف، فإن كانوا من المعاصرين له، فيسهل عليهم أن يتكلّموا فيه، وهذا الكلام الناتج عن معاصرة للراوي أقوى من الكلام الناتج عن سبر ومقارنة الراويات؛ أمّا إذا كانوا متأخرين عنه، فلا يستطيعون أن يحكموا عليه مدحاً أو قدحاً إلا بأخذ روايته ومقارنتها بأحاديث الثقات الذين رووا هذه الأحاديث عن نفس شيوخه، فإذا كان هذا الراوي مكثراً في الراوية فيسهل جداً أن يحكموا عليه حسب الموافقة أو المخالفة كمّاً وكيفاً، فينظروا إلى عدد الأحاديث التي رواها، وإلى عدد الأحاديث التي أخطأ فيها، وينظروا هل الغالب عليه الغلط، أو الغالب عليه الضبط؟ وهل الأخطاء التي عنده أخطاء كثيرة أو قليلة؟ هذا من ناحية الكم… وأمّا من ناحية الكيف فينظرون هل هذه الرواية فاحشة الخطأ، ولا يحتمل هذا الخطأ من مثله؟ أم أنّها رواية قد يهم فيها من هو مثله من الثقات، أو من هو أعلى منه من الثقات، كتغيير اسم رجل، أو الاختلاف في اسم رجل؟ أو الاختلاف في نسبته، أو الاختلاف في صنعته، أو في مهنته، أو في كنيته، أو الشيء الذي يعلم به، أو إبدال رجل برجل، هذا خطأ محتمل… أمّا الخطأ الفاحش كأن يروي في الأسماء والصفات شيئاً لا يليق بمسلم أن يتكلّم به، أو يركّب إسناداً صحيحاً على متن باطل على سبيل الوهم، فهذا خطأ فاحش، فمثل هذا قد يسقط الحديثُ الفاحشُ رواياتِ الرجل كلَّها.

فالشاهد من هذا: أنّ علماء الجرح والتعديل ينظرون إلى روايات هذا الراوي ويقارنونها بحديث غيره من الثقات، وينظرون إلى موافقته أو مخالفته كمّاً وكيفاً، ويحكمون عليه في النهاية بأنّه ثقة، أو ضعيف، أو متروك، لكن لا يتأتى لهم أ، يحكموا بمثل هذا الحكم، إلا إذا كانت الراوية عن الرجل هذا الرجل كثيرة، ولماذا لا يحكمون على المقل بالتوثيق أو بالضعف؟ لأنَّ الراوي إذا كلان مقلاًّ فقد يكون ثقة، وما روى إلا حديثاً واحداً، وأخطأ فيه، فيقولون: هو متروك؛ لأنَّ كل حديثه خطأ، والمتروك أغلب حديثه خطأ، فكيف إذا كان كل حديثه خطأ؟ مع العلم بأنّ الثقة قد يهم، عند هذا قالوا: ما نستطيع أن نحكم عليه بأنّه متروك لخطئه في حديثه الذي رواه؛ لأنّ الثقة قد يهم، ولو فرضنا أنّه روى حديثاً صحيحاً، وقارنوه برواية غيره من الثقات، فرأوا هذا الحديث موافقاً، لماذا لا يوثّقونه؟ محتمل أن يكون كذّباً وتزين بهذا الحديث أمام أئمة الجرح والتعديل، من أجل أو يوثّقوه أو أنّه سرقه، ففي الحقيقية أنَّ الراوي إذا كان مقلا لا يتأتى لناقد أو لإمام من الأئمة أن يحكم عليه بتوثيق أو بتضعيف…، وكما يقول ابن عدي – رحمه الله تعالى -: «وفلان في مقدار ما يرويه لم يتبين ليّ صدقه من كذبه».

والذي يطالع في كتاب «الكامل» لابن عدي – رحمه الله تعالى – يجده يستخدم هذه العبارة في المقلّين،

فأعود وأقول: أسباب الحكم بالجهالة على الراوي هي :-

السبب الأول: إمّا أن يكون غير مشتغل بالحديث(2)،

السبب الثاني: أو أن يكون مقلا فلا يتأتى لهم الحكم عليه بالثقة إذا كانت أحاديثه صحيحة، ولا يتأتى لهم الحكم عليه بالترك إذا كانت أحاديثه ضعيفة؛ لأنّه ربّما وهم فيها وهو ثقة، فحين ذلك يقولون: هو مجهول.

السبب الثالث: إذا كان المدلّسون قد غيّروا اسمه، أو كنيته، أو ما يُعرف به، وتصرفوا في ذلك، فيأتي الناظر في الأحاديث، فيظن هذه الأسماء رجالاً كثيرين، فيكون هذا الراوي ما روى عنه إلا واحد، والثاني ما روى عنه إلا واحد، والثالث ما روى عنه إلا واحد، والثاني ما روى عنه إلا واحد، والثالث ما روى عنه إلا واحد، فيكون مجهولاً، مع أنّه لو عرف أنّ هذا الراوي هو الذي روي عنه هؤلاء جميعاً، لارتفع من جهالة العين إلى جهالة الحال على ما سيأتي إن شاء الله(3).

فالشاهد من هذا: أنَّ تصرف المدلّسين، وتعميتهم لحال الراوي وتعتيمهم للأمر، هو الذي يجعل أئمة الجرح والتعديل يحكمون على الراوي بأنّه مجهول، فنحن قد عرفنا المجهول بأنّه الذي لم يُخرّج ولم يُعَدّل، وتكلّمنا عن الأسباب التي تجعل الأئمـة يحكمون على الراوي بأنّه مجهـول، وحينئذٍ أعود إلى سؤال الأخ: ما هو تعريف مجهول العين، ومجهول الحال؟

فأقول: إنّ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله تعالى – ذكر في كتابه «شرح علل الترمذي»: أنّ المتقدمين قبل محمد بن يحيى الذهلي ما كانوا يقولون: بأنّ الجهالة ترتفع برواية اثنين من الرواة، بل كانوا يدورون مع القرائن، فقد يروي عن رجل جماعة ولا ترتفع جهالته، وقد يروي عن رجل واحد وترتفع جهالته، وأول من قال: «إنّ المجهول ترتفع جهالته برواية اثنين» هو محمد بن يحيى الذهلي(4).

والتعريف المشهور لمجهول العين: هو من روى عنه واحد ولم يوثق(5).

ومجهول الحال: «من روى عنه اثنان، ومن لم يوثقه معتبر»(6)، ويدخل في ذلك المستور مع تفاصيل في الفرق بين المجهول الحال، والمستور.

لكني أريد أن أقول: إنّ جهالة العين ترتفع بأمورٍ، منها:

رواية اثنين، ويشترط في هذين الراويين أن لا يكون أحدهما في حيز الرد أ, الترك، بل على الأقل يكونان ممن يستشهد بهما.

فمجهول العين الذي قد يشك في وجوده ترتفع جهالة عينه برواية اثنين عنه أو رواية واحد ممن يشترط أنّه لا يروي إلا عن ثقة… وهم جمع كثير من العلماء قد جمعت منهم عدداً لا بأس به، سيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى في الجزء الثاني من هذا الكتاب(7)، وقد يسأل سائل ويقول:

إذا انفرد بالراوية رجل – يشترط أنّه لا يروي إلا عن ثقة – عن أحد الرواة، هل يعتبر هذا توثيقاً له أم لا؟

والجواب:

بعض العلماء يطلق التوثيق على هذه الحالة، وفي هذا القول نظر، فإطلاق أ، هذا الإمام من الأئمة إذا انفرد بالراوية عن رجل يكون توثيقاً لأنه اشترط أن لا يروي إلا عن ثقة، يرد عليه ما يلي:

أولاً: متى اشترط الإمام أن لا يروي إلا عن ثقة؟ هل اشترط هذا من أول تحديثه؟ أو اشترط هذا بعدما كبر وعلا شأنه في علم الحديث الراويات، فأصبح ينتقي عند التحديث؟.

الجواب: لم يعلم لنا متى اشترط هذا الإمام هذا الشرط، فلعلّه اشترطه مؤخراً، وكان قبل اشتراطه لهذا الشرط يحدث بأحاديث المجهولين والضعفاء، كما حدث من ابن مهدي في روايته عن الجعفي(8)، والدليل على ذلك أنّه ما من محدّث وصفوه بذلك، إلا وقد وجد في جملة رواياته الراوية عن بعض الضعفاء، فمالك بن أنس – رحمه الله – وصفوه بأنّه من هؤلاء، وهو الذي يروي عن عبدالكريم بن أبي المخارق، الذي يقول فيه الجوزجاني:«رحم الله مالكاً، غاص فوقع على خزفة منكسرة، لعله اغتر بكسائه»(9)، مع أن الإمام مالك بن أنس مثبت في الراوية.

والإمام أحمد – رحمه الله – وُصِف بأنّه لا يروي إلا عن ثقة، ومع ذلك يقول فيه ابن معين: «جْنَّ أحمد يروي عن عامر بن صالح»(10).

وشعبة وهو الذي اشترط أنّه لا يروي إلا عن ثقة، وقد وجد في روايته رواية عن ضعفاء.

ومِنَ العلماء من اشترط هذا الشرط، وصرّح بأنَّه حديث الرجل إلا إذا أجمع الناس على تركه.(11)

والذي يقرأ في تراجم العلماء وفي كتب الحديث والتراجم يظهر له ما قررته سابقاً؛ لأنّك لو تصوّرت نفسك الآن وأنت طالب علم في البداية، هل تستطيع أن تميز بين الثقة والضعيف، كتمييزك بعد أن تكون إماماً من الجهابذة؟

تمييزك في بداية الطلب ليس كتمييزك بعد أن تكون راسخاً في طلب العلم، فكم من رجل تضعفه اليوم وتوثقه غداً، وكم من رجل توثقه اليوم وتضعفه غداً، فالملاحظ من جهة الواقع العملي أن الطالب في بداية الطلب يريد أن يروي كل الأحاديث، ويثبت للمحدثين أن له مشايخ كثيرين، وأنّه صاحب رحلة لهؤلاء المشايخ جميعاً، وبعد أن يرسخ قدمه، ويعلو شأنه في هذا الأمر ينتقي، ويكون انتقاؤه في الراوية تعديلاً لمن روى عنه، وتركه الراوية تجريحاً لمن ترك الراوية عنه، وهو لا يكون معدِّلاً مجرِّحاً إلا بعد أن يرسخ قدمه، ويترجح لنا بذلك أن الذين وصفت تراجمهم أنهم لا يروون إلا عن ثقة، أنّهم ما التزموا هذا إلا مؤخراً.

غير أني أستثني من ذلك عبدالله بن الإمام أحمد بن حنبل – رحمهما الله – كما استثناه بعض العلماء؛ لأنَّهم قالوا: إنّه كان لا يكتب الحديث عن أحد المشايخ إلا بإذنٍ من أبيه(12)، وأبوه في ذلك الوقت كان له شأن بمعفرة الثقات والضعفاء، لكن قد يسأل سائل، ويقول: هل كل مشايخ عبدالله بن أحمد جميعاً ثقات؟

نستطيع أن نقول: إنّهم على الأقل ثقات عنده بمعنى أنّهم غير ضعفاء، ويدخل في ذلك الثقة والصدوق ومن فيه كلام يسير، وأنّهم عنده، وعند أبيه أحمد – رحمهما الله – كذلك إلا ما ظهر لنا خلاف ذلك فيعمل به والله أعلم(13).

ثانيا: وربّما أن الإمام منهم ذهل عن شرطه، وقد كان شعبة – رحمه الله تعالى – يحدث ببعض الأحاديث عن رواة ضعفاء، فقيل له: ما لك تحدث عن هؤلاء الضعفاء، وأنت لا تروي إلا عن ثقة، فتحدث عن جابر الجعفي؟ قال: «روى أشياء لا نقدر عليها أو لا نصبر عليها»(14).

فلما تردد الأمر بين أن يكون شيخ من ينتقى متروكاً؛ لأنّه ما روى عنه إلا واحد قبل الاشتراط بالانتقاء أو ذهل عن شرطه، وبين كونه ثقة، فالأمر متردد بين هذا وهذا.

فمن قال: ترتفع جهالة العين، ولكن لا يثبت التعديل، قول قريب من الصواب.

ومن تتبع صنيع الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «التقريب» علم أنّ كثيراً من التراجم التي ينفرد بالراوية فيها عن المترجم واحد ممن ينتقي وليس هناك جرح أو تعديل، فإنّه يترجم له بقوله: مقبول(15)، وأحياناً بقول: صدوق(16)، وأحياناً يقول: مجهول(17).

ومما يرفع جهالة العين معرفة الراوي بأي شيء غير الراوية، فقد يروي عنه واحد ولكنه يقول: مات في حروب الروم – مثلاً -، ونحوه أو كصنيع الإمام الطبراني – رحمه الله – حيث يقول: حدّثني فلان بالمكان الفلاني، وفي سنة كذا ويسمي البلد التي حدّثه فيها، وهذا يقوي رفع جهالة العين؛ لأنّه من المؤكد أنّه لقي هذا الشيخ، ومما يُستدل به على رفع جهالة العين كثرة رواية الراوي الواحد عن شيخه، كما صرّح بذلك شيخنا الألباني – رحمه الله -.

وكأن يقول الراوي مثلاً: حدّثنا فلان وكان قاضياً، أو كان غزّاء، أو كان قارئاً، مع أنّه ما روى عنه غيره، فأي معلومات مع رواية هذا الرجل ترفع أيضاً جهالة عينه، ويبقى مجهول الحال(18).

وأمّا مجهول الحال: فهو الرجل الذي نعرف عينه، لكن لا نعرف حاله الظاهرة ولا الباطنة(19).

وما هو المقصود بالحالة الظاهرة؟ المقصود بذلك مثل وجوده في الصلاة يصلي مع المسلمين، وعند الحج يحج مع المسلمين، فلو كنّا نعلم شخصاً مجهول الحال، لكن ما رأيناه يصلي معنا، ولا رأيناه يحج معنا، فحاله الظاهر مجهول، والحالة الباطنة ما عرفناها، وهل الحالة الباطنة هي ادعاء علم الغيب، كما ااستنكر ذلك الإمام الصنعاني – رحمه الله تعالى – في كتابه «توضيح الأفكار»(20)؟!.

وقال: إنّ الحالة الباطنة علم غيبي لا يعلمه إلا الله؟ الجواب: لا، فالحالة الباطنة المقصود بها التعامل مع الرجل، كما ثبت عن عمر – رضي الله عنه – وهذا الأثر قد صححه شيخنا الألباني – رحمه الله – في «إرواء الغليل»، فيما معناه أنَّ رجلاً شهد عند عمر بشهادة، فقال: من يزكي هذا الرجل؟ فقام رجل فقال: أنا، قال: هل أنت جاره تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: هل تعاملت معه في الدنيا أي: رأيته يماطل في الديون أم لا؟ قال: لا، قال: هل سافرت معه لتعرف أخلاقه؟ أم لا؟ قال: لا، قال: اجلس فلا أراك تعرفه» الأثر ذكره شيخنا الألباني – رحمه الله – في «الإرواء»(21).

فالشاهد من هذا أنّ هذه عدالته الباطنة، فالعدالة عدالة ظاهرة، وعدالة باطنة، وكل هذا في باب العدالة لا يدخل الضبط في ذلك، وعلى هذا فما هو الفرق بين مجهول الحال والمستور؟

الجواب: أنَّ المستور من عُلِمَت‘ عدالته الظاهرة، أي: رأينا يصلي، أو رأيناه يحج، لكن العدالة الباطنة لم تظهر لنا؛ لأننا ما تعاملنا معه(22).

وأما مجهول الحال: ما علمنا عدالته لا ظاهراً، ولا باطناً، هذا هو الفرق بينهما، والكلام كله في حيز العدالة والأمانة، أمّا باب الضبط فأمر مجهول عند المستور وعند مجهول الحال، ومجهول الحال والمستور يستشهد بهما، وقد حدث خطأ، أو سبق قلم من الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله تعالى – حين ذكر أنّ المجهول والمستور، والضعيف لا يستشهد بهم كما في «الباعث الحثيث» (ص:101) وهذا خطأ؛ لأنّ الواضح من صنيع الشيخ – رحمه الله – أنّه يستشهد بهؤلاء، بل وبأقل من هؤلاء.

فالمقصود أنَّ مجهول الحال يصلح في الشواهد والمتابعات، وكذا المستور، أمّا مجهول العين فلا يصلح في الشواهد والمتابعات، إلا إذا كثرت الطرق كثرة ترجح لدى الباحث صحة الحديث وثبوته، فمجهول ومجهول لا يستشهد بهما، وإن كان شيخنا الألباني – رحمه الله تعالى – في بعض المواضع يستشهد بهما(23)، مع أنني قد سألته – حفظه الله – في المدينة – مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم – على نفس هذه المسألة، فقال: إنَّ المنقطع لا يتقوى بالمنقطع، ومجهول العين لا يتقوى بمجهول العين، إلا إذا كثرت الطرق كثرة تطمئن النفس على ثبوت الحديث بها(24).

قلت: ويدل على ما قلته: أن بعض العلماء يقول في الأسانيد التي فيها: حدّثني جماعة، أو حدّثني جماعة من الحيّ، أو حدّثني قوم بكذا، فيقول: هؤلاء جمع وتنجبر جهالتهم، وفي «صحيح البخاري» حديث من هذا القبيل في قصة وقعت لعروة البارقي(25).

(استدراك): قد بيَّنْت في غير هذا الموضع – كما سيأتي إن شاء الله تعالى – أن مجهول العين يستشهد به كمجهول الحال، ما لم تظهر نكارة في السند أم المتن، والله أعلم.

بقي أن يقال: ما الفرق بين المجهول والمبهم والمهمل.

المبهم: كأن يقول الراوي : حدثني شيخ أو حدثني رجل فهذا مبهم (26)

وأما المجهول فكأن يقول  المحدّث: حدَّثني فلان بن فلان؛ ويرجع إلى تفاصيل جهالته! جهالة عين أو حال، وهو من لم يتكلّم فيه بمدح أو قدح.

وأمّا المهمل: فكأن يقول المحدّث: حدّثني محمد، والمحمدون كثير، لا ندري من يعني من المحمدين؟ وقد يقول: حدّثني محمد بن عبدالله، ومن يقال له: محمد بن عبدالله كثيرون، لا يتأتّى لنا أن نعرف هذا من هذا، فحينئذ يكون مهملاً، فيجب أن نميز بين الأنواع كي لا تتداخل، وهذا كلّه قد بيّنه أهل العلم فجزاهم الله عنّا خيراً.

 

 

الحواشي

([1]) ومثال ذلك ما جاء في «لسان الميزان» (1/144) ترجمة أحمد بن جعفر النسائي أبي الفرج، قال الحافظ ابن حجر:…. قال الخطيب سألت البرقاني، عنه، فقال: كتبت عنه شيئاً يسيراً «ولا أعرف حاله» ومثاله أيضاً ما جاء في «الكامل» لابن عدي رحمه الله (3/1176) ترجمة مسلم العدوي قال ابن عدي، ومسلم العدوي قليل الحديث جداً، ولا أحمل له جميع ما يروي إلا دون خمسة أو فوقها، وبهذا المقدار لا يعتبر في حديثه أنّه صدوق أو ضعيف، ولا سيّما إذا لم يكن في مقدار ما يروي متن منكر، وفيه كذلك (2/845) ترجمة حاتم بن حريث الطائي، قال ابن عدي، ولعزة حديثه لم يعرف يحيى… إلخ. اهـ.

وفي «النكت» للحافظ ابن حجر (2/577) وقال ابن عدي في ترجمة زهير بن مرزوق في «الكامل» قال ابن معين: «لا أعرفه» قال: وإنّما قال ابن معين ذلك لأنّه ليس له إلا حديث واحد معضل… إلخ.

([2]) انظر تفاصيل ذلك في السؤال رقم (64) وقولهم: «فلان مشهور بالطلب».

([3]) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في «النزهة» (ص132-133) ثم الجهالة وسببها أنَّ الراوي قد تكثر نعوته من اسم أو كنية، أو لقب أو صفةٍ أو حرقةٍ، أو نسب، فيشتهر بشيء منها، فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض من الأغراض، فيظن أنَّه آخر فيحصل الجهل بحاله، ثم مثل له الحافظ، فقال: ومن أمثلته محمد بن السائب بن بشر الكلبي، نسبه بعضهم إلى جده، فقال: محمد بن بشر، وسمّاه بعضهم: حمّاد بن السائب، وكنّاه بعضهم أبا النضر، وبعضهم أبا سعيد وبعضهم أبا هشام، فصار يظن أنّه جماعة، وهو واحدٌ ومن لا يعرف حقيقة الأمرِ فيه لا يعرف شيئاً من ذلك. اهـ.

4 انظر «شرح علل الترمذي» (1/378)، وقد أخرجه الخطيب في الكفاية (ص:150)، والذهبي في «السير» (12/281) من طريق محمد بن نعيم الحاكم ثنا إبراهيم بن إسماعيل القارئ ثنا يحيى بن محمد بن يحيى سمعت أبي يقول: «إذا روى عن المحدّث رجلان ارتفع اسم الجهالة عنه»، وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم القارئ ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام، وفيات (331-350) ولم يذكر في ترجمته جرحاً ولا تعديلاً ولم يذكر راوياً عنه غير الحاكم. والله أعلم. اهـ.

([5]) انظر «نزهة النظر» لابن حجر (ص:135): وقد سألت المؤلف حفظه الله تعالى عن هذا التعريف ومدى صحّته فقال: إنّه غير مطرد وقد يروى عن الراوي ابنه، ولم يوثقه أحد وترتفع بذلك جهالة عينه وكثيراً ما يترجم الحافظ ابن حجر بذلك في «التقريب» «مقبول».

وقد يروى عنه واحد وليس ابناً له، ولا قريباً له، لكن عرفت البلد التي توفي فيها الراوي أو تاريخ وفاته أو علم بأنّه كان غازياً أو قاضياً أو غير ذلك مما تعرف به عين الرجل مع أنّه ما روى عنه إلا واحد ولم يوثق، فمن أجل هذا جعلت العهدة على غيري في التعريف، فقلت: فالتعريف المشهور للمجهول، كذا وكذا، اهـ.

أقول: وسيأتي مزيد تفصيل لذلك في (ص:63-64) فليراجع.

([6]) انظر «النزهة» للحافظ ابن حجر رحمه الله (ص:135).

وقول الشيخ: «ولم يوثقه معتبر» احترازاً من توثيق غير المعتبرين أمثال ابن حبّان رحمه الله تعالى -، وذلك لما عرف عنه من توثيق المجاهيل. وانظر في ذلك كلام الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في تمام المنّة (ص:20).

([7]) وسيأتي ذلك مفصلاً في الجزء الثاني السؤال رقم (224).

([8]) قال أحمد رحمه الله -: كان عبدالرحمن بن مهدي أولاً يتساهل في الراوية عن غير واحد ثم تشدد بعد وكان يروي عن جابر ثم تركه، انظر «الكفاية» للخطيب البغدادي (ص:154) و«شرح العلل لابن رجب» (1/377).

)) كما في «أحوال الرجال» للجوزجاني (ص:97) وفي «سير أعلام النبلاء» (6/83) قال ابن عبدالبر: اغتر مالك ببكائه في المسجد، وروى عنه في الفضائل. اهـ.

([10]) انظر «تهذيب التهذيب» (5/65) ترجمة عامر بن صالح بن عبدالله بن عروة بن الزبير بن العوام الزبيري أبي الحارث المدني، سكن بغداد.

قال أبو داود: وقيل لابن معين: إن أحمد حدّث عن عامر، فقال: ما له جُن؟ قال أبو داود: وحدَّث عنه أحمد بثلاثة أحاديث. اهـ.

11 النسائي رحمه الله ممن اشتهر بذلك، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «النزهة» (ص:191): «ولهذا كان مذهب النسائي أن لا يترك حديثُ الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه». اهـ.

وانظر «النكت» له على ابن الصلاح (1/482) وفي موضع آخر بين الحافظ أن هذا إجماع مقيد والله أعلم.

12)) قال ابن عدي رحمه الله تعالى كما في «التهذيب» (5/143): «نبل بأبيه له في نفسه محل في العلم ولم يكتب عن أحد إلا من أمره أبوه أن يكتب عنه».

وفي «تعجيل المنفعة» للحافظ ابن حجر، قال: «كان عبدالله بن أحمد لا يكتب إلا عن من أذن له أبوه في الكتابة عنه وكان لا يأذن له أن يكتب إلا عن أهل السنة حتى كان يمنعه أن يكتب عن من أجاب في المحنة ولذلك فاته علي بن الجعد ونظراؤه من المسند… إلخ» انتهى من (ص:15، 19).

([13]) قال العلامة المعلمي رحمه الله في «التنكيل» (ص:659)، وفي «فتح المغيث» (ص:134): «تتمة ممن كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر الإمام أحمد وبقي بن مخلد…».

وقوله: «إلا في النادر» لا يضرنا إنّما احترز بها؛ لأن بعض أولئك المحتاطين قد يخطئ في التوثيق فيروي عمن يراه ثقة وهو غير ثقة، وقد يضطر إلى حكاية شيء عمن ليس بثقة فيحكيه ويبين أنّه ليس بثقة والحكم فيمن روى عنه أحد أولئك المحتاطين أن يبحث عنه فإن وجد أن الذي روى عنه قد جرحه تبين أن روايته عنه كانت على وجه الحكاية فلا تكون توثيقاً، وإن وجد أن غيره قد جرحه جرحاً أقوى مما تقتضيه روايته عنه ترجح الجرح، وإلا فظاهر روايته عنه التوثيق. اهـ. أقول: والأخير ليس صريحاً في التوثيق كذلك والله أعلم.

14)) قال ابن حبان رحمه الله -: ثنا أحمد بن منصور: ثنا نعيم بن حماد قال: سمعت وكيعاً يقول: قلت لشعبة: ما لك تركت فلاناً وفلاناً رويت عن جابر الجعفري، قال: روى أشياء لم نصبر عليها. اهـ «المجروحين» (1/209) و«الكامل» لابن عدي (2/542) وإسناده يدور على نعيم بن حماد الخزاعي، «وهو ممن لا يحتج به» والله أعلم.

([15]) ومثال ذلك ما جاء في ترجمة حمّاد بن حميد الخراساني؛ فقد انفرد بالراوية عنه البخاري وروى عنه في الصحيح وترجم له الحافظ بقوله: «مقبول» وقد يكون ذلك لوجود قرينة إخراجه البخاري له في «الصحيح».

ثم أفادنا شيخنا أبو الحسن حفظه الله تعالى بفائدة صريحة في ذلك فقال، وقد صرّح الحافظ بنحو ذلك في ترجمة أحمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحرّاني أحد شيوخ النسائي وقد وثقه، فنقل الحافظ قول الذهبي في «الطبقات» أحمد بن يحيى بن محمد «لا يعرف» قال الحافظ معقباً عليه.

قلت: بل يكفي في رفع جهالة عينه رواية النسائي عنه وفي التعريف بحالة توثق له. اهـ «تهذيب التهذيب» (1/89).

16)) جاء ذلك في ترجمة إسماعيل بن مسعدة التنوخي الحلبي، روى عنه أبو داود وقال الذهبي: لا يدرى من هو وترجم الحافظ له بقوله: «صدوق»، «التقريب» (ص:108)، وكذا إسحاق بن عمر القرشي المؤدب لم يوثقه أحد، لكن روى عنه أبو زرعة واثنان آخران وترجم له الحافظ بقوله: «صدوق».

([17]) جاء ذلك في ترجمة بكار بن يحيى روى عنه ابن معين ومع ذلك ترجم له الحافظ بقوله: «مجهول» انظر «التقريب» (ص:126) قلت: والعجيب أنّ الحافظ رحمه الله تعالى -، قد يترجم لمثل هؤلاء بقوله: «ثقة» كما في ترجمة حبان بن زيد الشرعبي انفرد بالراوية عنه حريز بن عثمان وهو ممن ينتقي نص على ذلك أبو داود، قال شيوخ حريز كلهم ثقات، ثم ترجم له الحافظ بقوله: «ثقة» وهو منازع في هذا لأنَّه لا يلزم من قول أبي داود أن يكون بمنزلة ثقة، والله أعلم.

([18]) قلت: وقد يعرف الرجل بشيء من هذه الأشياء التي ذكرها الشيخ حفظه الله تعالى ويترجم له الحافظ بقوله: «مجهول» كما في ترجمة ثابت بن سعيد روى عنه أبو سعيد المؤدب، وقال: لقيته بالري وذكره ابن حبان في «الثقات» وترجم له الحافظ بقوله: «مجهول» ولكن الصواب في ذلك أن كل ما يفيد معرفة عين الرجل فهو رافع لجهالة العين وهو صنيع الحافظ نفسه في تراجم كثيرة والله أعلم -.

([19]) قال الزركشي في «البحر المحيط» (4/280): مجهول الحال هو مجهول العدالة ظاهراً أو باطناً مع كونه معروف العين برواية عدلين عنه. اهـ.

([20]) «توضيح الأفكار» (2/192).

([21]) انظر (8/260) قال: شهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر: إنّي لست أعرفك ولا يضرك أني لا أعرفك فائتني بمن يعرفك، فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين، قال: بأي شيء تعرفه؟ فقال: بالعدالة، قال: هو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فعاملك بالدرهم والدينار الذي يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: فلست تعرفه، ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك. اهـ.

([22]) قال الزركشي: «المستور» هو: المجهول باطناً وهو عدل في الظاهر، ونقل ذلك عن البغوي والرافعي وإمام الحرمين في «النهاية» وذكر عن إمام الحرمين أنَّ العدالة الباطنة هي التي يرجع فيها القضاة إلى قول المزكين.. وكلام الأصوليين ومنهم القاضي في «التقريب» صريح في أن المراد بالعدالة الباطنة الاستقامة بلزوم أداء أوامر الله وتجنب مناهيه وما يعلم مروءته أي: سواء ثبت عند الحاكم أم لا… إلخ. اهـ (4/280-282) «البحر المحيط».

23مثاله ما جاء في «الصحيحة» له حفظه الله تعالى (3/رقم 1168) حديث: «نهى عن نفرة الغراب… إلخ» قال: وتميم بن محمد أورده الذهبي نفسه في «الميزان» وقال: «قال البخاري فيه نظر» وذكره العقيلي والدولابي، وابن الجارود، في «الضعفاء» وأمّا ابن حبان فوثّقه على قاعدته، في توثيق غير المشهورين بالراوية، فإنّ تميماً هذا لم يذكروا راوياً عنه غير جعفر هذا، … قال الشيخ الألباني رحمه الله وأقول، لكن يتقوى بأنّ له شاهداً… ورجاله ثقات غير عبدالحميد بن سلمة فهو مجهول كما في «التقريب»، فالحديث عندي حسن بمجموع الطريقين… والله أعلم. اهـ فانظر كيف استشهد الشيخ بمجهول مع آخر أحسن أحواله أنّه مجهول إن لم نأخذ بقول البخاري، والله أعلم.

([24]) وقد صرّح الدارقطني رحمه الله تعالى في «سننه» (3/174) بالاستشهاد بمجهول العين، قال أهل العلم بالحديث لا يحتجّون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف، وإنّما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان رواية عدلاً مشهوراً أو رجلاً قد ارتفع اسم الجهالة عنه، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعداً، فإذا كان هذه صفته ارتفع عنه اسم الجهالة وصار حينئذ معروفاً، فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد، انفرد بخبر وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه غيره، قلت: والشاهد في كلامه الأخير «فأمّا من لم يرو عنه إلا رجل واحد… إلخ» وفيه والذي قبله شيء من التسامح والذي قرره الشيخ حفظه الله تعالى تميل إليه النفس والله أعلم، وإلى هذا ذهب شيخنا مقبل رحمه الله تعالى كما في «المقترح» (سؤال رقم (27) (ص:35).

([25]) انظر «فتح الباري» (6/731) رقم (3642).

وانظر «إرواء الغليل» (5/128) وسيأتي بحث ذلك إن شاء الله تعالى في السؤال رقم (117).

([26]) المبهم: هو أن لا يسمي الراوي شيخه، كقوله: أخبرني فلان، أو شيخ، أو رجل، أو بعضهم، أو ابن فلان، انظر «النزهة» (134).