الأسئلة الحديثية

بعض العلماء يقولون: «إنّ مثال العلّة غير القادحة إبدال ثقة بثقة»، فما هو التعريف الصحيح للعلّة غير القادحة؟

بعض العلماء يقولون: «إنّ مثال العلّة غير القادحة إبدال ثقة بثقة»، فما هو التعريف الصحيح للعلّة غير القادحة؟

أولاً : في الجواب على هذا يجب أن نعرف أولاً العلّة القادحة، وما دونها يكون غير قادح،

فالعلماء يعرفون الحديث المُعَلَّ: «بأنَّه الحديث الذي ظاهره الصحة، وفيه علة خفيّة تقدح في صحته، مع أنَّ الظاهر السلامة من ذلك»(1)، وهذا لا يكون إلا كما يقول علي بن المديني – رحمه الله تعالى -: «الباب إذا لم تجمع طرقه لم تعرف علّته»(2) فهذا يكون بجمع طرق الحديث كلّها، فإذا جمعت الطرق كلها بأن لك مَنِ الذي وهم؟ ومَنِ الذي حفظ؟ وأين الراوي الذي خالف؟ ومَنِ الراوي الذي يتحمل عهده هذه المخالفة أو هذه النكارة؟ ومَنِ الراوي الذي يفلت من هذه العهدة؟ إما لثقته، وإمّا لمتابعة غيره له، أو غير ذلك من الأمور التي تظهر لمن يمارس مسألة تحقيق الأحاديث،

ولعل من أكبر الأمثلة على هذا حديث:«شيبتني هود وأخواتها»، كما في (العلل) للدارقطني – رحمه الله -، فالعلة القادحة كأن يُروى الحديث متصل الإسناد مع أنَّه جاء مرسلاً، والذين رووه مرسلاً أوثق من الذين رووه مسنداً، وبالمثل في مسألة الاتصال والانقطاع ومسألة الرفع والوقف، والزيادة والنقصان في السن أو في المتن.

هذه علل قادحة تقدح في صحة الحديث (3)، أمّا مسألة العلل غير القادحة – مثل إبدال ثقة بثقة، كأن يختلف الرواة مثلاً على سفيان الثوري، أو على الزهري، فمرة يسمي أحدهم شيخاً، ومرة أخرى يسمي شيخاً آخر، والشيخان كلاهما ثقة، فهذه علّة غير قادحة، وإنّما سموها علّة لمجرد وجود الاختلال في الحديث والإسناد، وهي لا تقدح(4)؛ لأننا نقول: «طالما أنَّ تلامذة الزهري الذين رووا الحديث عنه سواء، أو قريب من السواء من ناحية العدد أو الوصف، فنستطيع أن نقول: إن للزهري فيه شيخين، ولا سيّما أنَّ الزهري رجل حافظ وجامع للعلم، ورحّال، فمِنَ المحتمل أن يكون له في الحديث شيخان، أو أكثر، فهذه علّة غير قادحة، وكأن يختلف الرواة في اسم رجل ونسبته، والرجل ثقة، هذه أيضاً علّة غير قادحة، فمسألة العلة غير القادحة إن جئت إلى التعريف فليس لها تعريف بأكثر من هذه التعريف: إنَّها علّة بمعنى الاختلاف في رواة السند، ولكنَّها لا تقدح في صحة الحديث.

أمَّا إذا جئنا إلى التمثيل لها، فالذي ذكرته من جملة هذه الأمثلة، وتظهر للإنسان أكثر عند الممارسة، وعند البحث في الأحاديث.

المهم أنك لا تعرف هل هذه العلّة قادحة أو غير قادحة؟

إلا إذا جمعت طرق الحديث، فإذا جمعت طرق الحديث؛ بان لك هل هذه العلة تقدح في صحة الحديث أم لا(5)؟ فإذا كان الإسناد يدور على ثقة فلا يضر؛ لأنّه سواء أكان هذا شيخه فهو ثقة… لكن شرطه أن يكون الذي اختُلِف عليه ثقة، أمّا إذا اخْتُلِف على رجل صاحب أوهام، وروى الحديث على عدّة أوجه، فهذا لا يقبل منه، وهذا دليل على وهمه واضطرابه في الحديث، فالرجل الثقة الحافظ إذا روى الحديث على عدة أوجه، حُمِل هذا على أنَّه قد جمعه من مشايخ كثيرين، والرجل الذي فيه أوهام إذا روى الحديث من عدة أوجه، دلّ هذا على أنَّه وهم في هذا الحديث، إنّما تقبل الطرق المتعددة من الحفاظ، ولا تقبل من أصحاب الوهم، وسوء الحفظ، والله – تعالى –أعلم(6).

 

الحواشي

1 انظر «مقدمة ابن الصلاح» (ص:81)، و«شرح الألفيّة» للعراقي (1/226)، و«تدريب الراوي» (1/252).

([2]) في «مقدمة ابن الصلاح» (ص:195) قال الخطيب أبوبكر: السبيل إلى معرفة علّة الحديث أن يجمع طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط، ثم ذكر رحمه الله عبارة ابن المديني.

وانظر «تدريب الراوي» (1/253) و«توضيح الأفكار» (2/29).

([3]) ذكر الحاكم أبو عبدالله في كتابه (علوم الحديث) النوع السابع والعشرين (ص:112-116) عشرة أجناس للعلل، وأورد لكل جنس مثالاً مع بيان العلّة التي فيه.

فمنها الجنس الأوّل: أن يكون السند ظاهره الصحة ولكن فيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه.

ومنها: أن يسند الحديث من وجهٍ ظاهره الصحة ولكن يكون مرسلاً من وجهٍ رواه الثقات الحفّاظ.

ومنها: أن يكون الحديث محفوظاً عن صحابي ويروى عن غيره لاختلاف بلاد رواته.

ومنها: أن يكون الحديث محفوظاً عن صحابي فيروى عن تابعي فيقع الوهم بالتصريح بما يقتضي صحته عن غيره ممن لا يكون معروفاً من جهته.

ومنها: أن يكون روى بالعنعنة وسقط منه راوٍ دلّ عليه طريق أخرى محفوظة.

ومنها: أن يختلف على رجل في الإسناد.

ومنها: أن يختلف على رجل في تسمية من روى عنه أو عدم تسميته.

ومنها: أن يكون الراوي عن شخصٍ قد أدركه وسمع منه، ولكنّه لم يسمع منه ذلك الحديث.

ومنها: أن يكون للحديث طريق معروف، فيروي أحد رجاله الحديث من غير ذلك الطريق فيقع الوهم.

ومنها: أن يروى الحديث مرفوعاً من وجه، وموقوفاً من وجه.

ثم قال رحمه الله -: فقد ذكرنا علل الحديث على عشرة أجناس وبقيت أجناس لم نذكرها وإنّما جعلتها مثالاً لأحاديث كثيرة، ليهتدي إليها المتبحر في هذا العلم فإن معرفة علل الحديث من أجل هذه العلوم. اهـ.

وانظر «توجيه النظر» لظاهر الجزائري (2/606-613).

قال المؤلف: وهذه الأجناس التي ذكرها الحاكم رحمه الله فيها تداخل ولم يقتصر فيها على العلل الخفية والله أعلم.

([4]) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «النكت» (2/747):

1 فمثال ما وقعت العلّة في الإسناد ولم تقدح مطلقاً: ما يوجد مثلاً من حديث مدلس بالعنعنة فإن ذلك علة توجب التوقف عن قبوله فإذا وجد من طريق أخرى قد صرح فيها بالسماع تبين أنَّ العلّة غير قادحة.

2 وكذا إذا اختلف في الإسناد على بعض رواته فإن ظاهر ذلك يوجب التوقف عنه، فإن أمكن الجمع بينها على طريق أهل الحديث بالقرائن التي تحف الإسناد تبين أنَّ تلك العلّة غير قادحة.

3 مثال ما وقعت العلّة فيه في الإسناد وتقدح فيه دون المنن ما مثل به المصنف من إبدال راوٍ ثقة براوٍ ثقة وهو بقسم المقلوب أليق فإن أبدل راوٍ ضعيف براوٍ ثقة وتبيّن الوهم فيه استلزم القدح في المتن أيضاً إن لم يكن له طريق أخرى صحيحة.

4 ومثال ما وقعت العلّة في المتن دون الإسناد ولا تقدح فيهما ما وقع من اختلاف ألفاظ كثيرة من أحاديث «الصحيحن» إذا أمكن رد الجميع إلى معنى واحد فإن القدح ينتفي عنها… إلخ. اهـ.

([5]) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «النكت» (2/710-711):

وإذا تقرر هذا فالسبيل إلى معرفة سلامة الحديث من العلّة كما نقله المصنف عن الخطيب، أن يجمع طرقه فإن اتفقت رواته واستووا ظهرت سلامته، وإن اختلفوا أمكن ظهور العلّة، فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف وسأوضحه في النوع الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى -، وهذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهماً غايصاً، واطّلاعاً حاوياً، وإدراكاً لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة ولهذا لم يتكلّم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذّاقهم، وإليهم المرجع في ذلك لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك… إلخ.

6 قال ابن رجب رحمه الله في «شرحه على علل الترمذي» (1/424-425): فاختلاف الرجل الواحد في الإسناد إن كان متهماً فإنّه ينسب به إلى الكذب وإن كان سيء الحفظ ينسب به إلى الاضطراب وعدم الضبط، وإنّما يحتمل مثل ذلك ممن كثر حديثه، وقوى حفظه، كالزهري وشعبة، ونحوهما، وقد كان عكرمة يتهم في رواية الحديث عن رجل ثم يرويه عن آخر حتى ظهر لهم سعة علمه وكثرة حديثه… إلخ.

أقول: ومن الأمثلة على ذلك ما أخرجه أبو داود، وغيره من حديث أبي بن كعب، مرفوعاً: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده…» الحديث، ومداره على أبي إسحاق السبيعي واختلف عليه فقيل عنه، عن عبدالله بن أبي بصير، عن أبي بن كعب، وقيل: عنه، عن أبي بصير، عن أبي بن كعب، وقيل: عنه، عن عبدالله بن أبي بصير، عن أبيه، عن أبي بن كعب، وقيل: عنه، عن العيزار بن حريث، عن أبي بصير، عن أبي، قال ابن أبي حاتم في «العلل» (1/102 رقم 277): سألت أبي عنه، فقال: كان أبو إسحاق واسع الحديث يحتمل أن يكون سمع من أبي بصير، ومن ابن أبي بصير عن أبي بصير، وسمع من العيزار، عن أبي بصير، عن أبي، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.