الأسئلة الحديثية

ما هو القول الراجح في تعريف المرسل؟

ما هو القول الراجح في تعريف المرسل؟

الحديث المرسل([1]) وهو من جملة الأحاديث الضعيفة، عرفه جماعة من أهل العلم كما هو معروف في «الباعث الحثيث» وغيره بأنّه: قول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يذكر الصحابي([2]).

وعندي في هذا التعريف وقفة، فقوله: «ولم يذكر الصحابي» خطأ، ولكن الصواب أن يقول: هو ما أضاف التابعي إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، دون ذكر الواسطة أو دون ذكر من حدّثه بذلك لأنّه لو قال دون ذكر الصحابي، كأنّه يقول إنّ الساقط هو الصحابي فقط، ونحن إذا تأكدنا أنّ الساقط هو الصحابي فقط، فلا شك أنّ الحديث مقبول، لأنّ الصحابة كلهم عدول، فما يضرنا أن يسقط، وما يضرنا أن يُبهم، الصحابي ولا يُذكر اسمه، لأنّه قد ثبتت عدالة الصحابة جميعاً([3]) فحينذاك نحن لا نقول إن الساقط في الحديث المرسل صحابي فقط، ولكن نحن نخاف أن يكون مع الصحابي تابعي آخر، والتابعي يحتاج إلى نظر في حاله هل هو ثقة، أم ضعيف؟… فلمّا لم نعرف هذا وقفنا في الحديث المرسل([4]) وهو عند جمهور أهل العلم يُعَدُّ من الأحاديث الضعيفة ([5])، وأمّا الذين يحتجون به ففي الحقيقة أنَّ حجّتهم غير قويّة، لكنّه يستشهد به، وأمّا إذا كان من مراسيل التابعين الذين قد شهروا بأنّهم يروون عن كل أحدٍ، وأن مراسيلهم ساقطة، فردها بعض العلماء ولم يستشهد بها، وفيه تفصيل([6])، وأمّا مراسيل الذين لم يلقوا الصحابة وعدهم الحافظ في الطبقة السادسة في «التقريب» فهذا يحتاج إلى بحث وفي النفس شيء من الاستشهاد بها لأنّ روايتهم معضلةً.([7])

وقد قسم الحافظ ابن حجر – رحمه الله – الطبقات في مقدمة «التقريب» فذكر الطبقة الأولى الصحابة، والطبقة الثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة من التابعين، والسابعة، والثامنة، والتاسعة أتباعهم، والعاشرة والحادية عشرة، والثانية عشرة، أتباع أتباعهم.

فالخامسة في النفس شيء من الاستشهاد بمرسل أهلها، والأمر يحتاج إلى مزيد تحرير، أمّا السادسة فلا يستشهد بمراسيلهم، لأنها معضلة؛ ومع ذلك فلا تهدر بالكلية، والله أعلم([8]).

وقد ذكر الحافظ أن أهل الخامسة ما رووا إلا عن الواحد أو الاثنين من الصحابة، وأما السادسة فهم الذين عاصروا من روى عن الواحد أو الاثنين من الصحابة، وأما هم فلم يثبت لهم رواية عن الصحابة، فالمرسل يستشهد به بشروط مفصلة في كتب علوم الحديث([9])، وقد ذكرت طرفاً من ذلك وسيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى – في الجزء الثاني من هذا الكتاب -، وقد يقول قائل: لماذا نستشهد بالمرسل مع أننا لا نستشهد بالمنقطع، والمرسل عبارة عن انقطاع؟.

فالجواب: أنّ الساقط في المرسل في طبقة أحسن من التي بعدها، ويحتمل أن يكون صحابيّاً، أمّا المنقطع فبخلاف ذلك، ومع ذلك ففيه تفصيل سيأتي – إن شاء الله – في السؤال رقم (223) ([10]).

فالخلاصة أنَّ تعريف المرسل: هو ما أضافه التابعي إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، دون ذكر الواسطة، فكلمة الواسطة تعم، وتشمل الصحابة فمن دونهم، والله أعلم([11]).

 

 

الحواشي



([1]) قال العلائي في «جامع التحصيل» (ص:23-24): أمّا المرسل فأصله من قولهم أرسلت كذا إذا أطلقته ولم تمنعه كما في قوله تعالى -: (ألم تر أنا أرسلنا الشيطين على الكفرين) فكأن المرسل أطلق الإسناد ولم يقيده براو معروف وقد أشار الإمام المازري إلى هذا… إلخ. وانظر «النكت على ابن الصلاح» (2/542).

([2]) «الباعث الحثيث» (ص21) تحت الكلام على النوع الأول «الصحيح» قال الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله المرسل: ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدون ذكر الصحابي. اهـ.

وفي «التعريفات» للجرجاني (ص:268) قال فيه: هو ما أسنده التابعي أو تبعُ التابعي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من غير أن يذكر الصحابي الذي روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكذا عرفه صاحب «البيقونية» كما في «التقريرات السنيَّة» (ص:51) في قوله: ومرسل منه الصحابي سقط… إلخ ويعترض على هذه التعارف بما سيذكره المؤلف إن شاء الله تعالى.

([3]) قال الفتوحي في «شرح الكوكب المنير» (2/473): قال الشيخ تقي الدين وغيره: «الذي عليه سلف الأمة وجمهور الخلف أنّ الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عدول بتعديل الله تعالى لهم».

وقال الشوكاني رحمه الله في «إرشاد الفحول» (ص:62): «وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة علمت أنّه إذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ولم يسمع كان ذلك حجة ولا يضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم». اهـ.

([4]) وإنما قلت: هو ما أضافه التابعي إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليدخل في ذلك القول والفعل والتقرير. المؤلف.

([5]) قال الإمام النووي رحمه الله في مقدمة «شرح المهذب» (1/100): الحديث المرسل لا يحتج به عندنا وعند جمهور المحدثين وجماعة من الفقهاء، وجماهير أصحاب الأصول والنظر، وحكاه الحاكم أبو عبدالله بن البيع، عن سعيد بن المسيب، ومالك وجماعة أهل الحديث وفقهاء الحجاز… إلخ.

وقال ابن الصلاح في «علوم الحديث» (ص:58): «وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه: هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث ونقاد الأثر، وقد تداولوه في تصانيفهم».

وانظر «التقييد والإيضاح» (ص:73) و«شرح الألفية» (1/128) كلاهما للعراقي.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «النزهة» (ص:110): وإنّما ذُكر في قسم المردود للجهل بحال المحذوف، لأنّه يحتمل أن يكون صحابياً، ويحتمل أن يكون تابعيّاً، وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفاً، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الثاني يحتمل أن يكون حمل عن صحابي ويحتمل أن يكون حمل عن تابعيِّ آخر، وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق، ويتعدد إمّا بالتجويز العقلي، فإلى ما لا نهاية له، وإمّا بالاستقراء، فإلى سنةٍ أو سعةٍ، وهو أكثر ما وُجدَ من رواية بعضِ التابعين عن بعضٍ. اهـ.

([6]) سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في «الجزء الثاني» من هذا الكتاب السؤال رقم (223).

([7]) قال الذهبي في «الموقظة»: نعم، وإن صح الإسناد إلى تابعي متوسط الطبقة كمراسيل مجاهد وإبراهيم والشعبي فهو مرسل جيد لا بأس به يقبله قوم ويرده آخرون ومن أوهى المراسيل عندهم مراسيل الحسن وأوهى من ذلك مراسيل الزهري وقتادة وحميد الطويل من صغار التابعين وغالب المحققين يعدّون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات فإن غالب رواية هؤلاء عن تابعي كبير عن صحابي فالظن بمراسيله أنه أسقط من إسناده اثنين (ص:39-40).

[8])) قلت: وأمَّا الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى فقد قسّم المرسل في كتابه «فتح المغيث» إلى ست مراتب، قال: خاتمة المرسل مراتب لآعلاها ما أرسله صحابي ثبت سماعه ثم صحابي له رواية فقط، ولم يثبت سماعه، ثم المخضرم ثم المتقن كسعيد بن المسيب ويليها: من كان يتحرى في شيوخه كالشعبي ومجاهد ودونها مراسيل، من كان يأخذ عن كل أحد كالحسن وأمّا مراسيل صغار التابعين كقتادة والزهري وحميد؛ فإن غالب رواية هؤلاء عن التابعين. اهـ (1/172-173).

فالذي يظهر من كلام السخاوي رحمه الله تعالى أنّه لا يحكم بضعف مراسيل الصحابة وذلك لما تقدم بيانه وأمّا بقية المراسيل فكلها ضعيفة وضعفها يتفاوت، والله أعلم.

وأمّا عن الاستشهاد بهذه المراسيل التي حكم عليها بالضعف فقد استشهد بها جماعة من العلماء المحققين وأذكر منهم على سبيل المثال الحافظ البيهقي فقد قوى مراسيل جماعة ممن جعلهم السخاوي، في أدنى المراتب وهم من كان يأخذ عن كل أحدٍ كالحسن رحمه الله تعالى -.

قال ابن التركماني: وقد ساق إسناد عبدالرزاق إلى الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر…» الحديث قال: وقد ذكر البيهقي: أنَّ هذا الحديث أرسل من جهة الحسن وقد عضده قول أبي هريرة، وعضده أيضاً حديث علي. اهـ (1/178) وكذلك استشهد رحمه الله تعالى بمرسل عطاء وهو كالحسن كما قال الإمام أحمد بن حنبل وليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح فإنّهما كانا يأخذان عن كل أحد «جامع التحصيل» (ص:90)، ذكر البيهقي أثر عائشة ووصية أبي بكر بأن تغسله أسماء بنت عميس بعد موته، قال: وهذا الحديث الموصل وإن كان راويه محمد بن عمر الواقدي صاحب التاريخ والمغازي فليس بالقوي وله شواهد مراسيل عن ابن أبي مليكة وعن عطاء بن أبي رباح اهـ «السنن» (3/397) وشاهدي في ذلك ذكر الاستشهاد بمرسل عطاء وإن كنت لا أرى الاستشهاد بمحمد بن عمر الواقدي وذلك لشدة ضعفه رحمه الله تعالى والله أعلم.

وفي (4/9) من كتابه «السنن» ذكر مرسلاً لعطاء في صلاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم على إبراهيم وأخرجه أيضاً مرسلاً وموصولاً لغيره ثم قال: «فهذه الآثار وإن كانت مراسيل فهي تشد الموصول… وبعضها يشد بعضاً… إلخ» اهـ.

كذا الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى حيث استشهد في «فتحه» بمراسيل جماعة من هؤلاء فهم على سبيل المثال أبو العالية الرياحي، وقد ذكر ابن سيرين ضعف مراسيل أبي العالية وقال: كان يصدق كل من حدّثه، رواه عنه ابن عون «جامع التحصيل» (ص90) ومع هذا فقد استشهد الحافظ بمرسله كما في «فتح الباري» (8/439) وذلك في كلامه على قصة الغرانيق، قال رحمه الله تعالى -: «مع أنَّ لها طريقين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين أحدهما عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، والثاني… عن أبي العالية، ثم قال: وهي مراسيل يحتجّ بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض. اهـ.

وإن كنت لا أرى صحة هذه القصة لاضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها فبعضهم يقول فيها: قرأها في الصلاة، وبعضهم وهو في نادي قومه، وآخر يقول: قرأها وقد أصابته سنة، وأخر أن الشيطان قالها على لسان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إلى غير ذلك وليس هذا بمحل تفصيل الكلام حول هذه القصة الباطلة وإن شئت أخي القارئ فارجع إلى رسالة «نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق» للشيخ العلامة ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى -، ورسالة «دلائل التحقيق لإبطال قصة الغرانيق» للشيخ علي حسن بن عبدالحميد حفظه الله تعالى -، وشاهدي من كلام الحافظ رحمه الله تعالى -، هو معرفة طريقته من حيث الاستشهاد بمرسل هؤلاء أو عدمه.

وكذلك قوى بعض المحدّثين مراسيل جماعة من الحفاظ أمثال الزهري وقتادة، وكان يحيى بن سعيد لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً ويقول: هو بمنزلة الريح ويقول: هؤلاء قوم حفّاظ كانوا إذا سمعوا الشيء علّقوه «جامع التحصيل» (ص:90-19) ومع ذلك فقد قوى الحافظ ابن حجر مرسل قتادة ومجاهد بن جبر وذلك في «الفتح» (8/335) في باب قوله تعالى (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم…) الآية، قال في تعليقه على قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «قد خيّرني ربّي فوالله لأزيدن على السبعين»، أخرجه عبد بن حميد من طريق قتادة، قال: لما نزلت (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: … الحديث وأخرج الطبراني من طريق مجاهد… إلخ قال: وهذه طريق وإن كانت مراسيل فإن بعضها يعضد بعضاً. اهـ.

قلت: وكذلك الحافظ الزيلعي في «نصب الراية» قوي مرسل ابن شهاب الزهري قال رحمه الله في (2/197): قال ابن شهاب: وكان إذا قام أخذ عصا فتوكأ عليها وهو قائم على المنبر… إلخ، قال: وفي هذا المرسل وفي الحديث قبله جلوسه عليه السلام على المنبر قبل الخطبة وليس ذلك في غيرهما وكل منهما يقوي الآخر. اهـ.

قلت: وكذلك استشهد الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى بمرسل الطبقة الوسطى من التابعين كما في «المقاصد الحسنة» (ص:33، 253) يقوي مرسل الشعبي وكذلك مرسل طاوس وقال في الأخير: هذا مرسل حسن يشهد لكون هذه اللفظة شائعة فيما بين التابعين. اهـ.

قلت: وبهذه الأمثلة يتّضح لك أخي القارئ صنيع هؤلاء الأئمة في تقوية المرسل وعدم التفرقة بين مراسيل كبار التابعين ومراسيل صغار التابعين، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر، ومن حيث الاستشهاد تراهم يُقوون مراسيل من حكم عليهم العلماء بأن مراسيلهم من أضعف المراسيل كأبي العالية الرياحي والزهري وغيرهما والله أعلم.

([9]) انظر شروط الشافعي رحمه الله تعالى في «رسالته» (ص:161-162) وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام عليها في «الجزء الثاني» من هذا الكتاب السؤال رقم (223).

[10])) وقد استشهد جماعة من أهل العلم بالمنقطع فمنهم على سبيل المثال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى وعرف ذلك في اصطلاحه للحديث الحسن حيث قال في «جامعه» (2/340) وما ذكرنا في هذا الكتاب (حديث حسن) فإنّما أردنا به حسن إسناده، عندنا كل حديث يروى لا يكون في إسناده منّهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذاً ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن. اهـ.

قلت: على هذا التعريف يدخل الحديث المنقطع وذلك ظاهر حيث لم يشترط الترمذي الاتصال فيه وإنّما اشترط نفي الشذوذ مع تعدد الطرق مع خفة الضعف كما هو مقصود كلامه رحمه الله تعالى -، ومثال ذلك قول الترمذي في باب ما يقول عند دخول المسجد (1/212)، وقد ساق إسناده إلى فاطمة بنت الحسين، عن جدّتها فاطمة الكبرى، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا دخل المسجد صلّى على محمد وسلم، وقال: «اللهم اغفر لي ذنوبي…» فذكر الحديث.

ثم قال: وفي الباب عن أبي حميد وأبي هريرة قال أبو عيسى: حديث فاطمة حديث حسن وليس إسناده بمتّصل وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى إنّما عاشت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أشهراً: قال المباركفوري في «تحفته» فإن قلت: قد اعترف الترمذي بعدم اتصال إسناد حديث فاطمة؛ فكيف قال: حديث فاطمة حديث حسن؟.

قلت: الظاهر أنّه حسّنه لشواهده… وهذا الحديث أخرجه أحمد وابن ماجة أيضاً فإن قلت لما أورد الترمذي في هذا الباب حديث فاطمة وليس إسناده متصلاً ولم يورد فيه حديث أبي أسيد وهو صحيح بل أشار إليه؟ قلت: ليبين ما فيه من الانقطاع ويستشهد بحديث أبي أسيد وغيره. اهـ «تحفة الأحوذي» (1/262) وممن صرّح بالاستشهاد كذلك بالمنقطع الحافظ ابن حجر وذلك في عدة مواضع الموضع الأول في «هدي الساري» (347) في سياق الأحاديث التي انتقدها النقاد على صاحب الصحيح والجواب عليها، قال رحمه الله -: فإن وجد ذلك اندفع الاعتراض بذلك، وإن لم يوجد «وكان الانقطاع فيه ظاهراً فمحصل الجواب عن صاحب الصحيح أنّه إنّما أخرج مثل ذلك في باب من له متابع وعاضد أو ما حفته قرينة في الجملة تقويه من حيث المجموع». اهـ.

والشاهد من كلام الحافظ هو ما جعلته بين الأقواس وهو بين واضح فيما نحن بصدده، والموضع الثاني ما ذكره الحافظ رحمه الله في «نكته» (1/402) في معرض الكلام حول شرط الترمذي للحديث الحسن قال رحمه الله تعالى -: فأما ما حررنا عن الترمذي أنّه يطلق عليه اسم الحسن من الضعيف والمنقطع إذا اعتضد فلا يتجه الاتفاق على الاحتجاج به جميعه، ولا دعوى الصحة فيه إذا أتى من طريق… قال وقد صرّح أبو الحسن ابن القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل المغرب في كتابه «الوهم والإيهام» بأن هذا القسم لا يحتج به كله بل يعمل به في فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو عضده اتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح، أو ظاهر القرآن. اهـ.

وهذا حسن قوي رايق ما أظن منصفاً يأباه والله الموفق. اهـ، من «النكت».

وهناك موضع ثالث للاستشهاد بالمنقطع «هدي الساري» (ص:19) فليراجع، وممن استشهد بل صرّح بالاستشهاد بالمنقطع الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في «زاد المعاد» (1/379): «في الكلام على نهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس»، قال: وحديث أبي قتادة هذا، قال أبو داود: هو مرسل لأن أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة والمرسل إذا اتصل به عمل وعضده قياس أو قول صحابي، أو كان مرسله معروفاً باختيار الشيوخ ورغبته عن الراوية عن الضعفاء والمتروكين، ونحو ذلك مما يقتضي قوته عمل به، وأيضاً فقد عضده شواهد أخرى… إلخ.

قلت: وهذا من ابن القيم رحمه الله تعالى ظاهر باستشهاده بالمنقطع وإن أطلق عليه المرسل كعادة جماعة من العلماء وانظر كذلك صنيع الإمام البيهقي وتصريحه بالاستشهاد المنقطع وذلك في عدّة مواضع أيضاً منها ما جاء في «معرفة السنن والآثار» (2/278) برقم (1329)، وهو كالمثال المتقدم عن ابن القيم رحمه الله تعالى -.

ومن هذه الأمثلة يتضح للقارئ صنيع هؤلاء الحفاظ في الاستشهاد بالمنقطع وقد يظن البعض من قول الشيخ: (مع أننا لا نستشهد بالمنقطع) أنّ مذهبه هو عدم الاستشهاد به، وهذا غير صحيح فالشيخ حفظه الله يرى الاستشهاد بالمنقطع، إذا كان الانقطاع في طبقة التابعين أو تابع التابعين وذلك لأنّ الانقطاع كلما نزل عن طبقة القرون الفاضلة قويت الريبة في الساقط لانتشار الكذب، وظهور الفسق في هذه القرون بعكس القرون الفاضلة، وعلى ذلك صنيع أهل العلم كما سيوضح ذلك المؤلف في الجزء الثاني من هذا الكتاب في السؤال رقم (225)، والله أعلم.

([11]) هذا وقد عرفه الغزالي بقوله: «وصورة المرسل أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من لم يعاصره».

قال الحافظ في «النكت» (2/544-546): وهذا أخص قليلاً من الذي قبله يعني: قول ابن الحاجب في المرسل، هو قول غير الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنّه يدخل فيه من سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حال الكفر ثم استمر كافراً فلم يسلم إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فإنّ هذا لا تصحُّ له صحبة وهو على تعريف الغزالي لا يكون حديثه مرسلاً…

وقال: فإن قيل ما احترز به الغزالي رحمه الله تعالى كما قدمته قد ينقدح منه قدح في صحة التعريف الذي أخبرت أنّه قول الجمهور، وذلك لأنّ قولهم ما سمعه بعض الناس في حال كفره من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم أسلم بعده، وحدّث عنه بما سمعه منه؛ فإنّ هذا والحالة هذه تابعي قطعاً وسماعه منه صحيح متّصل وهو داخل في حد المرسل الذي ذكرته.

قلت: وهذا عندي نقض صحيح واعتراض وارد لا محيد عنه ولا انفصال منه إلا أن يزاد في الحد ما يخرجه، وهو: أن يقول المرسل: ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما سمعه من غيره. اهـ.

وقد ذهب إلى هذا الاحتراز أيضاً الإمام الصنعاني رحمه الله كما في «التوضيح» (ص:258) حيث قال: واعلم أنّه يرد على هذا الرسم ما سمعه بعض الناس حال كفره من رسول الله ثم أسلم بعد وفاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحدّث عنه بما سمعه منه؛ فإنّ هذا والحال هذه تابعي قطعاً وسماعه منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم متّصل وقد دخل في حد المرسل، وحينئذ فلا بدَّ من زيادة قيد بأن يقال: ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما سمعه من غيره. اهـ.

أقول: وما ذكره الإمامان ابن حجر، والصنعاني من سماع بعض الناس حال كفرهم من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم إسلامهم بعد وفاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتحديثهم عنه بما سمعوه منه؛ أمر نادر جداً، وكأن الأئمة أعرضوا عن هذا القيد لندرته، وإذا كان كذلك فلا حاجة إليه في التعريف، وقد صرّح بذلك الحافظ السخاوي رحمه الله كما في «فتح المغيث» (1/156-157) فقال: وكذا قيده شيخنا بما سمعه التابعي من غير النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليخرج من لقبه كافراً فسمع منه ثم أسلم بعد وفاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحدّث بما سمعه منه كالتنوخي رسول هرقل؛ فإنّه مع كونه تابعياً محكوم لما سمعه بالاتصال لا الإرسال وهو متعين وكأنّهم أعرضوا عنه لندوره. اهـ.

أقول: وقصة التنوخي هذه أخرجها الإمام أحمد رحمه الله في «مسنده» من طريق سعيد بن أبي راشد قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحمص وكان جار لي شيخاً كبيراً قد بلغ العقد أو قرب، فقلت: ألا تخبرني عن رسالة هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورسالة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى هرقل؟ قال: بلى، قدم رسول الله تبوك فبعث دحيّة الكلبي إلى هرقل… الحديث.

والقصة «ضعيفة» لجهالة سعيد بن أبي راشد، وعليه مدار الإسناد وقد ترجم له الحافظ في التقريب بقوله: «مقبول» وقد حكم عليها شيخنا أبو الحسن حفظه الله بالضعف كما في تحقيقه للمجلد الأول من «فتح الباري» للحافظ ابن حجر.

وعلى هذا فلا يصح التمثيل بذلك لضعف القصة ويضاف إلى ذلك أيضاً عدم تأكدنا من إسلام التنوخي فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «التهذيب» ترجمة سعيد بن أبي راشد: روى عن التنوخي النصراني رسول قيصر ويقال: رسول هرقل -… إلخ فلم يجزم الحافظ بإسلامه, والله أعلم.