الأسئلة الحديثية

ما الفرق بين: «حدّثنا»، و«حدّثني»، و«سمعت»، و«أخبرنا»؟

ما الفرق بين: «حدّثنا»، و«حدّثني»، و«سمعت»، و«أخبرنا»؟

هذه من صيغ التحمل، وبعض علماء الجرح والتعديل يسميها الألفاظ، وتجد الواحد منهم يمدح الراوي من الرواة ويقول: فلان يفرق بين الألفاظ، وكثير من الطلبة حين يسمعون هذه الكلمة، فأول ما يتبادر إليهم: مسألة المتن، والألفاظ في المتن والزيادات، مع أنَّ الحقيقة أنّهم يقصدون بذلك أنّه يفرق بين «حدّثنا»، و«حدّثني»، و«أخبرنا»، و«أخبرني»، وبعضهم يمدح الراوي، فيقول: فلان يفرق بين الواو والفاء، وفلان يفرق بين الواو وثم، فهذا يدل على مدى تحري الراوي في ألفاظ المتون، وفي ألفاظ التحمل([1])، وعما ورد في السؤال: فالراوي إذا حدّثه الشيخ في وسط مجموعة – كما هو ظاهر – يقول: حدّثنا، وإذا حدّثه وحده قال: حدّثني([2]).

وجاء عن الحسن البصري أنّه قال: حدّثنا أبو هريرة، ويعني بذلك: أنّه حدّث قومه أهل البصرة، فينبغي أن يتنبّه لهذا([3])، وكما جاء عن فطر بن خليفة، أنّه يقول: حدّثنا ويسكت، ويدلس تدليس السكوت، أو تدليس الحذف أو القطع، ولذلك قال بعض العلماء: فإذا قال: «سمعت» يقبل منه، وإذا قال: «حدّثني» أو «أخبرني»، أو غير ذلك، فلا يقبل منه؛ لأنّه يدلس في صيغ التحمل إلا في كلمة «سمعت»، فإذا قال: سمعت؛ فكأنّه مدلس صرّح بالسماع، أمّا إذا قال: حدّثنا، وأخبرنا، وحدّثني، وأخبرني؛ فما زال مدلساً([4])، وعمر بن علي المقدمي يدلس تدليس السكوت أيضاً([5]).

فقولهم: «أخبرنا» و«أخبرني» يطلقه كثير من أهل العلم على العرض، والعرض أن يقرأ الطالب والشيخ يسمع، بخلاف الإملاء والتحديث الذي من الشيخ، فالشيخ يقرأ الحديث أو يُمليه، والطالب يسمع، فإذا كان التحمل عن طريق العرض، فإنّهم يعبرون عنه بـ «أخبرنا» إذا كان في مجموعة، وبعضهم يدقق في العبارة ويقول: «أخبرنا فلان بقراءة فلان عليه» أو قرأ فلان على الشيخ الفلاني وأنا أسمع، وأبو نعيم الأصبهاني قد عرف عنه أنّه يدلس بعبارة «أخبرنا» ويقصد بها الإجازة، فيوهم أنّه عرض على شيخه؛ مع أنَّ الحديث جاءه من طريق الإجازة، وقد دافع عنه الذهبي وعده قليلاً منه، فراجع «النبلاء»([6]).

وأمّا قولهم: «سمعت»، فهو سماع الطالب من شيخه، وهنا يظهر سؤال: ما الفرق بين قول الراوي: «سمعت فلاناً»، و«حدّثني فلان»؟

والجواب: أنَّ كلمة «سمعت» عند أهل العلم أقل من كلمة: «حدّثني»؛ لأن الراوي قد يسمع من الشيخ وليس مقصوداً بالتحديث، بخلاف قوله: «حدّثني»، فقد قصده الشيخ بالحديث، وكان بعض الرواة الذين يطردهم الأئمة من مجالسهم، وهم لا يصبرون على حديث ذاك الشيخ، فكان أحدهم يتخفى في حضور المجلس، فقد يجلس وراء الشيخ، وقد يجلس في مكان لا يراه الشيخ، فمثل هذا يتجه في حقه أن يقول: «سمعت»؛ لأنَّ الشيخ ما قصده بالتحديث، فمن هنا نستطيع أن نقول: إنّ كلمة «حدثني» أعلى من كلمة «سمعت»، والله أعلم([7]).



([1]) انظر «شفاء العليل» للمؤلف (1/33).

([2]) قال ابن الأثير في «جامع الأصول»: ولأئمة الحديث فرق بين «حدثنا»، و«أخبرنا»، و«أنبأنا»، قال عبدالله بن وهب: ما قلت: حدّثنا فهو ما سمعت مع الناس، وما قلت: «حدثني» فهو ما سمعت وحدي، وما قلت: «أخبرنا» فهو ما قرئ على العالم وأنا أشاهد، وما قلت: «أخبرني» فهو ما قرأت على العالم وكذلك قال الحاكم أبو عبدالله النيسابوري.

وقال يحيى بن سعيد: «أخبرنا وحدّثنا» واحد وهو الصحيح من حيث اللغة، وأمّا أنبأنا: فإنّ أصحاب الحديث يطلقونها على الإجازة والمناولة دون القراءة، والسماع اصطلاحاً، وإلا فلا فرق بين الإنباء والإخبار لأنّهما بمعنى واحد، وقال الحاكم: «أنبأنا» إنّما يكون فيما يجيزه المحدث للراوي شفاهاً دون المكاتبة اهـ (1/78-79).

وفي «فتح الباري» للحافظ ابن حجر رحمه الله (1/145) باب قول الحدث «حدّثنا»، أو «أخبرنا»، أو «أنبأنا».

قال: فدلَّ ذلك على أنّ التحديث والإخبار والإنباء عندهم سواء، وهذا لا خلاف فيه عند أهل اللغة: (عند إرادة الإعلام بالشيء).

ومن أصرح الأدلة فيه قوله تعالى -: (يومئذ تحدث أخبارها (4» (فهي بمعنى: تخبر أخبارها).

وقوله تعالى -: (ولا ينبئك مثل خبير) (فهو بمعنى: ولا يخبرك مثل خبير).

وأمّا بالنسبة إلى الاصطلاح ففيه الخلاف: فمنهم من استمر على أصل اللغة، وهذا رأي الزهري ومالك وابن عيينة ويحيى القطان وأكثر الحجازيين والكوفيين، وعليه استمر عمل المغاربة، ورجّحه ابن الحاجب في مختصره، ونقل عن الحاكم أنّه مذهب الأئمة الأربعة.

ومنهم من رأى إطلاق ذلك حيث يقرأ الشيخ من لفظه وتقييده حيث يقرأ عليه، وهو مذهب إسحاق بن راهويه والنسائي وابن حبان، وابن مندة، وغيرهم، ومنهم من رأى التفرقة بين الصيغ بحسب افتراق التحمل: فحخصون التحديث بما يلفظ به الشيخ، والإخبار بما يقرأ عليه، وهذا مذهب ابن جريج، والأوزاعي، والشافعي، وابن وهب، وجمهور أهل المشرق، ثم أحدث أتباعهم تفصيلاً آخر فمن سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد فقال: «حدثني» ومن سمع من غيره جمع، ومن قرأ بنفسه على الشيخ أفرد، فقال: أخبرني، ومن سمع بقراءة غيره جمع.

وكذا خصصوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ من يجيزه، وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنّما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل، وظن بعضهم أنّ ذلك على سبيل الوجوب، فتكلّفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته، نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور لئلا يختلط؛ لأنّه صار حقيقة عرفية عندهم، فمن تجوز عنها احتاج إلى الإتيان بقرينة تدل على مراده، وإلا فلا يؤمن اختلاط المسموع بالمجاز بعد تقرير الاصطلاح، فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين اهـ، وما بين الأقواس زيادات للحافظ من «انتقاض الاعتراض» (1/114).

([3]) قال البزار: كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول: حدّثنا، وخطبنا، يعني: قومه الذين حدّثوا وخطبوا بالبصرة. «التهذيب» (2/269).

وقال العراقي في «التقييد» (ص:166): وروى عن الحسن أنّه كان يقول: حدّثنا أبو هريرة ويتأوّل أنّه حدّث أهل المدينة، وكان الحسن إذ ذاك بها، إلا أنّه لم يسمع منه شيئاً اهـ.

([4]) انظر «فتح المغيث» (1/345).

([5]) قال ابن سعد في «الطبقات» (7/291): وكان ثقة وكان يدلس تدليساً شديداً وكان يقول: سمعت وحدّثنا، ثم يسكت ثم يقول هشام بن عروة الأعمش….. اهـ قال الحافظ في «طبقاته»  للمدلسين:

وهذا ينبغي أن يسمّى تدليس القطع (130-131).

([6]) قال الخطيب البغدادي: قد رأيت لابي نعم أشياء يتساهل فيها، منها أن يقول في الإجازة: «أخبرنا» من غير أن يبين.

قال الذهبي معقباً عليه: «هذا شيء قلّ أن يفعله أبو نعيم وكثيراً ما يقول: كتب إلى الخلدي… ويقول كتب إلى أبو العباس الأصم وأخبرنا عبدالله بن جعفر بن فارس الذي سمع منه كثيراً وهو أكبر شيخ له: أخبرنا عبدالله بن جعفر فيما قرئ عليه فيوهم أنّه سمعه ويكون مما هو له بالإجازة، ثم إطلاق الأخبار على ما هو بالإجازة مذهب معروف قد غلب استعماله على محدثي الأندلس وتوسعوا فيه وإذا أطلق ذلك أبو نعيم في مثل الأصم وأبي الميمون البجلي والشيوخ الذين قد علم أنّه ما سمع منهم بل له منهم إجازة، كان له سائغاً والأحوط تجنبه، «السير» (17/460-461).

قال المعلمي رحمه الله تعالى -: والحق أن أبا نعيم وضع من نفسه ومن كتبه فجزاؤه أن لا يعتد بشيء من مروياته إلا ما صرّح فيه بالسماع الواضح… إلخ «التنكيل» (ص:314).

([7]) قلت: وقد حدث مثل هذا لأبي بكر البرقاني رحمه الله تعالى ذكر السيوطي في «تدريبه» (2/10) أنَّ الخطيب سأل شيخه الحافظ أبا بكر البرقاني عن السر في كونه يقول لهم فيما رواه عن أبي القاسم الأبدوني: سمعت، ولا يقول: حدّثنا ولا أخبرنا، فذكر له أنّ أبا القاسم كان مع ثقته وصلاحه عسراً في الراوية فكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضوره فيسمع منه ما يحدث به الشيخ الداخل، فلذلك يقول سمعت، ولا يقول: حدّثنا ولا أخبرنا، لأنّ قصده كان الراوية.

للتواصل معنا