الأسئلة الحديثية

إذا وقع خلاف في سماع راوٍ من راوٍ آخر، وجاءت رواية بالتصريح بالسماع في «مسند أحمد» مثلاً، فهل يكتفي بهذا التصريح في حل هذا الخلاف؟

إذا وقع خلاف في سماع راوٍ من راوٍ آخر، وجاءت رواية بالتصريح بالسماع في «مسند أحمد» مثلاً، فهل يكتفي بهذا التصريح في حل هذا الخلاف؟

مسألة سماع الراوي من شيخه عند أهل العلم تعرف بعدة أمور: فإما أن يكون تاريخ وفاة التلميذ وتاريخ وفاة الشيخ ليس بينهما فترة واسعة، مع كبر سن التلميذ، مما يدل على أنّه أدركه إدراكاً بيننا، وأن اللقاء ممكن ليس هناك ما يمنع من ذلك1.

وإمّا أن يكون بتصريح الأئمة بهذا، وقد يكون بتصريح الرواة بأن فلاناً سمع من فلان، وهذه النقطة التي سيق السؤال لها، وهي مسألة تصريح الرواة: فربّما أننا لو جمعنا طرق الحديث، وجدنا أن هذا التصريح من هذا الراوي بالسماع من ذلك الشيخ، جاء من طريق راوٍ، ونجد بقية الرواة يروونه بدون تصريح، كما سبق أن ذكرنا أن باب زيادة الثقة، والشذوذ يتطرق إلى مسألة السماع.

فإذا كان كثير من الرواة قد رووا الحديث بدون تصريح بالسماع، وتفرد أحد الرواة بالتصريح، فهنا يكون الترجيح بينه وبينهم: وصفاً أو عدداً، فإذا كانوا هم أكثر منه، أو أوثق قُبِل كلامهم، لا سيّما إذا كانت رواية هذا الراوي عن شيخه معروفة بإدخال واسطة بينهما(2).

ونحن في كثير من كتب العلل، أو الكتب التي تعتني بهذا الشأن نراهم يقولون: فلان صرّح بسماع فلان من فلان، ولم يصنع شيئاً، يعنون أن تصريحه بالسماع، فمثل هذا إذا صرّح بالسماع يحتاج إلى جمع الطرق، لمعرفة الرواة الذين صرّحوا، والذين لم يصرِّحوا، والترجيح بينهم بالقرائن المعروفة عند أهل الحديث في ذلك.

فقد يكون مجرد التصريح بالسماع(4) كافياً، إذا كان هذا الرجل قد انفرد بهذه الراوية، ولم يكن هناك وهْمٌ من تلامذته(3)، ولم يخالف في ذلك أحد من العلماء بهذا الشأن، وقد لا يكون تصديق بالسماع كافياً، إذا انفرد به مخالفاً لجمع أوثق منه، أو أعرف بهذا الشيخ منه، أو كان السماع الذي في السند مخالفاً لتصريح العلماء بعدم السماع.

فهذه مسألة لا تقبل بسهولة إلا إذا علم أنّه لم يهم هو أو أحد تلامذته عليه، والمسألة كما قلت: تدور مع القرائن فيُقبل هذا التصريح في بعض المواضع، ولا يقبل في المواضع الأخرى.

(تنبيه): واعلم أن الأصل في ذلك: أن نفي العلماء للسماع مقدم على مجرد وجود التصريح بالسماع في بعض طرق الحديث، لاحتمال التصحيف أو التحريف في بعض النسخ، أو وهم أحد التلامذة، فيكون السند عنده بالعنعنة، فيرويه مصرحاً بالسماع، دون معرفة لما يترتب على ذلك، فإذا انضم إلى هذا أن الراوي معروف بالرواية عن ذلك الشيخ، بواسطة راو أو أكثر، كان ذلك دليلاً قوياً على عدم اعتماد التصريح الذي في السند، والله أعلم.



([1]) أقول: وهذا هو مذهب الإمام مسلم رحمه الله تعالى الذي نصره في مقدمة «صحيحه» وادعى الإجماع عليه وأنكر على من قال باشتراط اللقاء، والسماع مرة فصاعداً إنكاراً شديداً، وخلاصة ما يراه الإمام مسلم هو اشتراط المعاصرة مع إمكان اللقاء أو السماع دون التحقق من وقوعه إلا أن يأتي ما يعارض مثل أن يعلم أنّه لم يسمع منه أو لم يلق المنقول عنه ولا شاهده أو تكون سنه لا تحتمل ذلك… إلخ، وارجع إلى كلامه في «مقدمة الصحيح» (1/29-30).

وقد خالف في ذلك قوم اشترطوا ثبوت السماع أو اللقاء في الجملة لا في كل حديث وهو رأي كثير من المحدثين، منهم الإمام البخاري وشيخه علي بن المديني وغيرهما، رحم الله الجميع.

والذي عليه العمل في هذا العصر هو: أنَّ رواية الراوي عمن أدركه وعاصره وأمكن لقاؤه له متصلة صحيحة والحجة بها لازمة والباحث يرجح في مثل ذلك إلى كتب الرجال فإن ذكروا أن فلاناً روى عن فلان ولم يذكروا أنّه يرسل عنه أو أنّه لم يسمع منه الحديث الفلاني فتحمل عنعنته على الاتصال ما لم يكن مدلساً وإن ذكروا ذلك عنه لم نحتج بروايته عن شيخه هذا إما مطلقاً أو في حديث بعينه، والله أعلم.

وقد استفدت هذا الترجيح من دروس شيخي أبي الحسن حفظه الله وتعليقاته فجزاه الله خيراً.

([2]) إذا روى الثقة عمن عاصره ولم يثبت لقائه به ثم يدخل أحياناً بينه وبينه واسطة يستدل به الأئمة على عدم سماع الراوي من شيخه اهـ من «شرح العلل» لابن رجب (2/593).

قال المؤلف: وكذلك إذا كان الراوي لم يأت عنه قط تصريح بسماع عن شيخه وإذا روى عنه أدخل واسطة فإنّهم يستدلون بذلك على عدم سماعه من ذلك الشيخ، والله أعلم.

([3]) قال ابن رجب: وكان أحمد يستنكر دخول التحديث في كثير من الأسانيد، ويقول: هو خطأ يعني: ذكر السماع، قال في رواية هدبة، عن حماد عن قتادة، ثنا خلاد الجهني: هو خطأ خلاد قديم، ما رأى قتادة خلاداً.

وذكروا لأحمد قول من قال: عن عراك بن مالك، سمعت عائشة فقال: هو خطأ وأنكره، وقال عراك: من أين سمع من عائشة، إنّما يروي عن عروة عن عائشة، «شرح العلل» لابن رجب (2/593-594).

([4]) قلت: قد يهم التلامذة على شيخهم فيصرِّحون بسماعه من شيخه وهو لم يسمع منه كما ذكر أبو حاتم الرازي أنَّ بقية بن الوليد كان يروي عن شيوخ ما لم يسمع، فيظن أصحابه أنّه سمعه، فيروون عنه تلك الأحاديث ويصرحون بسماعه لها من شيوخه ولا يضبطون. انظر المصدر السابق (2/594).

للتواصل معنا