الأسئلة الحديثية

ابن لهيعة إذا عنعن، وروى عنه أحد العبادلة فما الحكم؟

ابن لهيعة إذا عنعن، وروى عنه أحد العبادلة فما الحكم؟

قد ألف جماعة من طلاب العلم في ذلك عدة رسائل، واطّلعت على بعضها، فرأيت فيها جهداً مشكوراً، ووجدت مؤلفها قد جمع  نصوصاً عن أهل العلم من كتب الحديث المعتبرة، ومن كتب الرجال المشهورة، وبيَّن أنَّ رواية العبادلة عن ابن لهيعة تعتبر صحيحة لأنَّهم اختلفوا في سبب ضعف ابن لهيعة، فمنهم من قال: كان متقناً قبل أن  تحترق كتبه، ومنهم من قال: إنّه لا يزال مخلطاً، يعني: أنّه من أول أمره وهو سيء الحفظ، ورأينا كلام المصريّين – وهم أهل بلده – مثل أحمد بن صالح المصري، وعبدالله بن وهب المصري أيضاً، ورأينا كلام كثير من أهل الشأن قد زكوا بعض الرواة عنه مثل ابن المبارك، وابن وهب، وعبدالله بن يزيد المقرئ، وذكروا أنّهم أخذوا عنه من أصوله([1]).

فإن كان الرجل لا يزال مخلطاً، أو سيئ الحفظ، وأخذ عنه بعض التلاميذ من كتبه، فحديثه في هذه الحالة يكون مقبولاً؛ لأنَّ علَّة سيئ الحفظ، إذا كان يحدث من حفظه، أمّا إذا كان يحدث من كتابه، أو أخرج كتابه لأحد الأئمة، أو أطلع أحد الأئمة على كتابه، وطلب منه أن يختار الصحيح منه، كما حدث من ابن أبي أويس إسماعيل بن عبدالله من  البخاري([2]) – رحمه الله – وكما حدث من أبي الزبير مع الليث عندما أخرج له كتابه، وبيّن له الأحاديث لاتي سمعها من جابر والتي لم يسمعها منه([3]).

ففي هذه الحالة نحن نقبل رواية سيئ الحفظ أو المختلط، إذا كان تحديثه من كتبه، فسواء قلنا: إن ابن لهيعة كان سيئ الحفظ، فقد أخذ عنه هؤلاء الأئمة من أصوله، فروايتهم عنه معتمدة، وإن قلنا: إنّه اختلط لما حرقت كتبه، قلنا: إنَّ هؤلاء أخذوا عنه من أصوله، فنم المؤكد أنّهم أخذوا عنه قبل أن تحترق؛ لأنّه بعد الاحتراق ما بقيت له أصول، فعلى كل فإنَّ الأخذ من الكتاب يجبر ضعف ابن لهيعة، بل الأمر لا يقف عند العبادلة فقط، فقد تعدى إلى جماعة من أ÷ل العلم غير العبادلة، وبعضهم قد يتوسع في ذلك، وبعضهم قد يضيِّق، وسيأتي إن شاء الله – تعالى – في الجزء الثاني الطرق التي يُعرف بها صحة رواية سيئ الحفظ ومن كان في معناه، والله أعلم.

وأمّا عنعنة ابن لهيعة فأمر آخر، فلو روى عنه العبادلة مع أنّه قد عنعن، نحن أيضاً لا نقبل حديثه؛ لأنّه قد وُصف بالتدليس، فإذا روى عنه العبادلة، أو أحدهم، أو من كان في معناهم، ففي هذه الحالة بقيت العلّة الأخرى، وهي علّة التدليس؛ لأنَّ الحافظ ابن حجر – رحمه الله – ذكره في الطبقة الخامسة من «طبقات المدلسين» التي أهلها مدلسون وجُرِّحُوا بأمر آخر.

وقد سألت شيخنا – محدث العصر – الشيخ ناصر الدين الألباني – رحمه الله – عن قبوله رواية العبادلة عن لهيعة وإن عنهن؟ فأجاب بقوله: لأني وجدت الحافظ ابن حجر نفسه – مع إدخاله إياه في الطبقة الخامسة – وجدته يحتج به في مثل هذه الحالة، وإن عنعن، فالله تعالى أعلم بالصواب في ذلك([4]).

فإذا أمنا برواية العادلة، أو من سبق الكلام عليهم من جهة سوء حفظه، أو من جهة اختلاطه وتخبطه في الرواية بقيت مسألة التدليس – وفيها البحث السابق – إلا إذا كانت التهمة بالتدليس لم تثبت، فنظر.

لكن بقي أن يقال: المدلس إذا أُخِذَ عنه من كتبه، هل يزيل ذلك علة التدليس؟ أو بمعنى آخر: هل المدلس لا يسقط شيخه إلا إذا حدّث بالحديث من حفظه، مع كونه قد أثبت اسم شيخه في كتابه، فمن أخذ من كتابه علم بشيخه أم لا؟ هذا محل بحث واستفسار، والراجح عندي أنَّ الراوية من الكتاب لا تزيل علّة التدليس، كما حدث من أبي الزبير المكي لليث بن سعد، فقد ناوله كتابه، وأشار لليث على ما سمعه من جابر مباشرة دون ما سمعه منه بواسطة، والله أعلم.



([1]) أقول: وعندي أنَّ أمر ابن لهيعة يحتاج إلى مزيد بحث وتوسعٍ في ترجمته، وقد ترجمه له الحافظ ابن حجر رحمه الله في «التقريب» بقوله: «صدوق خلط بعد احتراق كتبه  ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه، أعدل من غيرهما»… إلخ.

ومع ذلك قال في «نتائج الأفكار» (2/33): وابن لهيعة هو في الأصل «صدوق» لكن احترقت كتبه، فحدّث من حفظه فخلط، وضعفه بعضهم مطلقاً ومنهم من فصل فقبله منه ما حدّث به عند القدماء ومنهم من خص ذلك بالعبادلة من أصحابه وهم عبدالله بن المبارك وعبدالله بن وهب وعبدالله بن يزيد المقرئ… قال: والإنصاف في أمره؛ أن متى اعتضد كان حديثه حسنا، ومتى خالف كان حديثه ضعيفاً، ومتى أنفرد توقف فيه اهـ، والله أعلم.

([2]) انظر «هدي الساري» (ص:391).

([3]) سبق تخريج ذلك قبل، والقصة في «الكامل لابن عدي».

([4]) في «تعريف أهل التقديس» (ص:177) قال الحافظ ابن حجر: عبدالله بن لهيعة الحضرمي قاضي مصر اختلط في آخر عمره وكثر عنه المناكير في رواياته.

وقال ابن حبان: كان صالحاً؛ ولكنه كان يدلس عن الضعفاء. اهـ.

للتواصل معنا