قاعدة: «الجرح المفسر مقدم على التعديل»، فلو جاء جرح غير مفسر، وجاء تعديل، هل تقلب القاعدة، ويقال: التعديل مقدم على التجريح؟
إن كان المراد بذلك أن يأتي في الترجمة قولان، أحدهما لابن معين، يقول: «ثقة»، والآخر لأحمد، يقول: «ضعيف»، فالحافظ في هذا يجمع بين القولين ويقول: «صدوق»، ولا يهمل الجرح، وإذا قال أحدهم: متروك، وقال الآخر: ثقة.
فالبعض يميل إلى قول من قال: «متروك»؛ لأنَّه وقف على جرح شديد، وإن لم يفسره، فهو عالم ومدرك لما يقول، و«متروك» جرح شديد، ولا تطمئن النفس إلى التوثيق، مع قول أحدهم: «متروك»، إلا أن يُحمل على التوثيق في الدين، وقد يقال في مثل ذلك: ضعيف([1]).
لكن بقي السؤال: هل هذه المسألة موجودة، أم أنّها مسألة نظرية؟
الظاهر أنّها مسألة نادرة؛ لأنَّ الغالب أن أقوال الأئمة متقاربة من بعضها البعض؛ لأنَّهم ما يتكلمون بهوى، إنّما يتكلمون بقواعد، والقواعد قريبة من بعضها البعض، والله أعلم.
([1]) قال المعلمي – رحمه الله تعالى – في «تنكيله» (ص:263): وقد يكون الجرح متعلقاً بالعدالة مثل «هو فاسق» فالتعديل مطلق والمعدل غير خبير بحال الراوي إنّما اعتمد على سبر ما بلغه من أحاديثه، وذلك كما لو قال مالك في مدني: «هو فاسق»، ثم جاء ابن معين فقال: هو ثقة، وقد يكون المعدل إنَّما اجتمع بالراوي مدة يسيرة فعدّله بناء على أنه رأى أحاديثه مستقيمة والجارح من أهل بلد الراوي، وذلك كما لو حج رازي فاجتمع به ابن معين ببغداد فسمع منه مجلساً فوثّقه، ويكون أبو رزعة وأبو حاتم الرازيان قد قالا فيه: «ليس بثقة ولا مأمون» ففي هذه الأمثلة لا يخفى أنَّ الجرح أولى أن يؤخذ به.
فالتحقيق أنّ كلاً من التعديل والجرح الذي لم يبين سببه يحتمل وقوع الخلل فيه والذي ينبغي أن يؤخذ منهما هو ما كان احتمال اخلل فيه أبعد من احتماله في الآخر، وهذا يختلف ويتفاوت باختلاف الوقائع والناظر في زماننا لا يكاد يتبين له الفصل في ذلك إلا بالاستدلال بصنيع الأئمة، كما إذا وجدنا البخاري ومسلماً قد احتجا أو أحدهما براوٍ سبق ممن قبلهما فيه جرح غير مفسر، فإنّه يظهر لنا رجحان التعديل غالباً وقس على ذلك، وهذا تفصيل ما تقدم في القاعدة الخامسة عن ابن الصلاح وغيره، لكن ينبغي النظر في كيفية رواية الشيخين عن الرجل فقد يحتجان أو أحدهما بالراوي في شيء دون شيء وقد لا يحتجان به، وإنّما يخرجان له ما توبع عليه، ومن تتبع ذلك وأنعم فيه النظر علم أنّهما في الغالب لا يهملان الجرح البتة بل يحملانه على أمر خاص، أو على لين في الراوي لا يحطه عن الصلاحية به فيما ليس مظنه الخطأ أو فيما توبع عليه ونحو ذلك، راجع الفصل التاسع من «مقدمة فتح الباري» اهـ.