الأسئلة الحديثية

هل يستخدم أهل الحديث العلة في غير معناها الاصطلاحي؟

هل يستخدم أهل الحديث العلة في غير معناها الاصطلاحي؟

بعض أهل الحديث يستخدمها في غير المعنى الاصطلاحي، كالإمام الترمذي يقول في بعض الأحاديث: فيه علّة، والعلة عنده النسخ، أي: أنّها علّة تمنع من العمل به، والالتزام بما فيه من أحكام([1]).

وغيره يقول: هذا حديث فيه علّة، فيه فلان كذاب، أو فيه انقطاع([2]).

وأما المعنى الاصطلاحي للعلة، فهي سبب خفي يقدح في صحة الحديث، مع أنَّ الظاهر السلامة منه([3])، وميدان العلل هو أحاديث الثقات، فإنَّ العلماء يبحثون في أحاديث الثقات التي تبدو للناظر بأنَّها صحيحة، ويظهرون فيها علّة([4]).

أمّا العلل الظاهرة كالانقطاع، والإعضال، وتهمة الراوي، وجهالة حاله، أو جهالة عينه، والطعن في حفظه، أو عدالته، أو غير ذلك من العلل الظاهرة، فليست من العلل الخفية التي صنف أهل العلم من أجلها.

إنَّما صنف أهل العلم كتب العلل حول أحاديث الثقات التي يظهر أنَّها صحيحة، ثم مع جمع الطرق، وتتبع مخارج هذا الحديث، عُلِمَ أنَّ فيه علّة.

وكما قال الإمام علي بن المديني – رحمه الله -: «الباب الذي لم تُجمع طرقه لم تعرف علته، أو لم يتبين خطؤه» فمعرفة العلة تكون بجمع الطرق، ترى الحديث ظاهره الاتصال، فتجمع طرقه، فيظهر لك أنَّ أكثر الرواة، أو أنَّ الحفاظ رووا الحديث مرسلاً، فلولا جمعك الطرق([5])، لحكمت على الحديث بالصحة، وقد سبق أن قررت: أنَّ هذه المسألة مسألة الشذوذ، تنافي باب الشواهد والمتابعات التي يرتقي بها الحديث إلى الصحة، أو الحُسن، فيكون الحديث ضعيفاً، فإذا جمعنا طرقه ارتقى من الضعف إلى الحُسن، لكن هنا فالحديث يكون ظاهره الصحة أو الحسن، فإذا جمعنا طرقه، نزل من الصحة أو الحسن إلى الضعف، فالذي أنصح به طلبة العلم في هذا المقام: أن يفرقوا بين باب الشواهد والمتابعات اللذين بهما يرتقي الحديث من درجة الضعف إلى درحة الحُسْن، أو الصحة، وبين جمع الطرق الذي به ينزل الحديث من درجة الصحة أو الحسن إلى درجة الضعف.

لأننا بعض طلبة العلم بل بعض المشاهير يذكرون الحديث، ويكون فيه مخالفة، ويقولون: هذا شاهد لهذا، مع أنَّ الجميع يدور على رجل واحد، أو مخرجه واحد، وفيه زيادة أو نقص في السند، أو في المتن، فتراه إذا جمع الطرق قال: وهذا يشهد لهذا، والصواب أنَّ هذا يُعِلُّ ذالك, والله أعلم([6]).



([1]) في «سنن الترمذي» كتاب العلل (5/736): قال أبو عيسى: جميع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معمول به وقد أخذ به بعض أهل الحديث ما خلا حديثين: حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة… الحديث، وحديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه قال: «إذا شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه»، وقد بينا علة الحديثين جميعاً في الكتاب. اهـ.

قال ابن رجب رحمه الله في «شرح العلل» (ص:36).

كأن مراد الترمذي رحمه الله لغير أحاديث الأحكام، وقد سبق الكلام على هذين الحديثين اللذين أشار إليهما ههنا في موضعهما من الكتاب، وذكرنا مسالك العلماء فيهما من النسخ وغيره، وذكرنا أيضاً عن بعضهم العمل بكل واحد منهما، وقوله قد بيّنا علة الحديثين جميعاً في الكتاب فإنَّما بين ما قد يستدل به للنسخ لا أنّه بين ضعف إسنادهما. اهـ.

وفي «التدريب» (1/358) قال السيوطي رحمه الله وسمى الترمذي النسخ علة، قال العراقي: فإن أراد به علة في العمل بالحديث فصحيح، أو في صحته فلا لأنّ في «الصحيح» أحاديث كثيرة، منسوخة. اهـ وانظر «فتح المغيث» للسخاوي (1/235) والله أعلم.

([2]) في «مقدمة) ابن الصلاح» (ص:73) قال رحمه الله -، ثم أعلم أنّه قد يطلق اسم العلّة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادمة، في الحديث المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلّة في الأصل، ولذلك نجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب، والغفلة وسوء الحفظ، ونحو ذلك من أنواع الجرح… إلخ اهـ.

وانظر «التقييد والإيضاح» (ص:122) و«تدريب الراوي» (1/257) و«توضيح الأفكار» (2/33).

([3]) انظر «معرفة علوم الحديث» (112-113)، و«مقدمة علوم الحديث» (ص:81) و«التقييد والإيضاح» (ص:116) و«فتح المغيث» (1/210)، و«تدريب الراوي» (1/252) و«توضيح الأفكار» (2/26) و«الباعث الحثيث» (ص:65).

([4]) كذا قال أبو عبدالله الحاكم رحمه الله تعالى في كتابه «المعرفة» حيث قال: وإنَّما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل فإن حديث المجروح ساقط واه وعلّة الحديث تكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علة فتخفى عليهم علته فيصير الحديث معلولاً والحجة فيه عندنا الحفظ، والفهم، والمعرفة لا غير (ص:113).

وقد قال الحافظ ابن حجر في «النكت» (2/710): بعد نقله لكلام الحاكم رحمه الله فعلى هذا لا يسمى الحديث المنقطع مثلاً معلولاً ولا الحديث الذي راويه مجهول، أو مضعف معلولاً؛ وإنّما يسمى معلولاً إذا آل أمره إلى شيء من ذلك، مع كونه ظاهر السلامة من ذلك، وفي هذا رد على من زعم أنَّ المعلول يشمل كل مردود. اهـ.

[5])) قال النووي: والطريق إلى معرفته جمع الحديث والنظر في اختلاف رواته وضبطهم وإتقانهم، قال السيوطي: قال ابن المديني: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه «تدريب الراوي» (1/253) وقال الخطيب: «السبيل إلى معرفة علة الحديث أن تجمتع طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلته في الإتقان» «مقدمة ابن الصلاح» (ص:195).

([6]) ومن أمثلة هذه المتابعات الصورية: ما ذكره الإمام ابن رجب رحمه الله في «فتح الباري» (9/464-465): «قال: وخرجه الإمام أحمد أيضاً من رواية إسماعيل بن مسلم عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباس، عن عبدالرحمن بن عوف، عن النبي صلى لاله عليه وعلى آله وسلم وإسماعيل هو المكي ضعيف جداً، وقد قيل: إنَّه توبع عليه ولا يصحُّ؛ وإنَّما مرجعه إلى إسماعيل، ذكره الدارقطني. اهـ.

للتواصل معنا