الأسئلة الحديثية

ذكرت أن ميدان علماء العلل أحاديث الثقات، وأمّا أحاديث الضعفاء والمتروكين والمجهولين والمتهمين، فعلتها واضحة يعرفها غير العلماء، وأن الذي في كتب العلل الشذوذ والاضطراب، والإدراج، وزيادة الثقة، وفلان انفرد بكذا، وفلان خالف فلاناً، فلماذا نرى أحاديث علتها ظا

ذكرت أن ميدان علماء العلل أحاديث الثقات، وأمّا أحاديث الضعفاء والمتروكين والمجهولين والمتهمين، فعلتها واضحة يعرفها غير العلماء، وأن الذي في كتب العلل الشذوذ والاضطراب، والإدراج، وزيادة الثقة، وفلان انفرد بكذا، وفلان خالف فلاناً، فلماذا نرى أحاديث علتها ظاهرة في كتب العلل؟

على سبيل المثال قد يذكرون حديث إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي شيخ الإمام الشافعي، وحديث عبدالكريم بن أبي المخارق وهو شيخ الإمام مالك بن أنس، وقد يذكرون حديث عامر بن صالح وهو شيخ الإمام أحمد، وقد يذكرون أيضاً من مشايخ شعبة الضعفاء، أو من مشايخ عبدالرحمن بن مهري كما في روايته عن جابر الجعفي، وكان يروي عنه فترة من الزمن، ثم تراجع عن ذلك([1]).

فلو تأملت: لماذا يذكرون حديث هؤلاء المشهورين بالضعف في كتب العلل؟ لوجدت أنّ ذلك يرجع أيضاً إلى حديث الثقات؛ لأنَّ رواية هؤلاء الأئمة المشاهير عن أولئك، قد يتبادر منها للمبتدئين من الطلبة، أن لدى غير المحققين لهذا الشأن، أنّ رواية هؤلاء الأئمة عنهم تنفعهم، وترفع من حالهم، وتحسن من أمرهم، فمن أجل أن لا يقع هذا اللبس، أدخلوا حديث هؤلاء الضعفاء المشهورين في كتب العلل، وقد يكون هذا الثقة قد روى عنه اغتراراً بحاله، كما قال الجوزجاني في كتابه «أحوال الرجال» بخصوص رواية مالك عن ابن أبي المخارق قال: «رحم الله مالكاً غاص فوقع على خزفة منكسرة»([2]).

ومنهم من يقول: مثلاً إنّه اغتر بهيئته، أو بلبسه، أو سَمْته، فممكن من هذا الباب أن الثقة نفسه يلبس عليه حال الرجل، ويغتر بحاله.

فكلام أهل المعرفة بالعلل في مثل هذه المسألة كأنهم يقولون: احذروا من حديث فلان عن فلان، ولا تظنوا أنَّ رواية فلان ترفع من حال فلان، فإنّه قد اغتر به، ولربّما روى عنه من باب البيان فاحذروا؛ لأنّ من المعلوم أن رواية الحديث تكون على ثلاثة أحوال كما يقول سفيان الثوري – رحمه الله -: إني لأكتب الحديث على ثلاثة أحوال:

حديث أدين الله به، وهو الصحيح أو الحسن، وحديث أعتبر به، أي: أنظر هل له شواهد، أم لا؟ وحديث أكتبه للمعرفة([3])، وكان الأئمة الحفاظ يكتبون أحاديث الضعفاء، أو يكتبون النسخ الموضوعة المكذوبة على الوجه، من أجل التنبيه والتحذير، كما كان ابن معين يكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس، وهي صحيفة مكذوبة بسبب أبان، وكتبها على الوجه أي: ما ترك منها شيئاً، فقال له أحمد: تكتبها على الوجه، وأنت تعرف حال أبان؟!! قال أكتبها كي لا يأتي رجل فيضع مكان أبان ثابتاً، فيكون: معمر عن ثابت عن أنس([4])، وكان الواحد من العلماء إذا سمع الحديث قال: هذا يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، هذا ما ظهر لي من الجواب ومن الممكن أن يقال: حديث هؤلاء المجروحين وإن وجد في كتب العلل، فهو نادر ولا التفات إلى النادر، وقد يضاف في الجواب أن الإمام من الأئمة قد يوجه له سؤال عن حديث الضعيف، فيجيب عليه، أو قد يكون الضعيف عندنا، ليس ضعيفاً عند السائل أو المسؤول، وقد يكون إدخاله في كتب العلل لمجرد الاختلاف عليه – وإن كان ضعيفاً – ليُبَيِّن أن الاضطراب في الحديث من جهة ضعف راويه، وقد يكون ذلك لبيان أن الحديث وإن جاء من طريق الضعيف، فله طريق أخرى تشهد له، أو لبيان أن هذا الضعيف قد انفرد بهذا الحديث مع الاخّتلاف عليه، مما يزيده ضعفاً، والله أعلم.



([1]) قال أحمد: كان عبدالرحمن بن مهدي أولاً يتساهل في الراوية عن غير واحد ثم تشدد بعد وكان يروي عن جابر ثم تركه انظر «شرح علل الترمذي» لابن رجب (1/ص:377).

[2])) انظر «أحوال الرجال» للجوزجاني (ص:97).

([3]) ذكره العقيلي في «الضعفاء» (1/15) وساق سنده إلى الثوري أنّه قال:

«إني أحب أن أكتب الحديث على ثلاثة أوجه:

حديث أكتبه أريد أن أتّخذه ديناً، وحديث رجل أكتبه فأوقفه لا أطرحه ولا أدين به، وحديث رجل ضعيف أحب أن أعرفه ولا أعبأ به».

وكذا في «جامع بيان العلم وفضله» (ص:76) وإسناد العقيلي وابن عبدالبر يدوران على نعيم بن حماد الخزاعي والراجح فيه والله أعلم عدم الاحتجاج بروايته.

قلت: ويغني عنه في الاستدلال إذْ لم أقف على شاهد له ما ذكره ابن رجب رحمه الله عن الإمام أحمد في رواية القاسم عنه قال: وابن لهيعة ما كان حديثه بذلك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال؛ إنّما أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشدّه لا أنه حجة إذا انفرد. انظر «شرح العلل» لابن رجب (1/91).

([4]) في «تهذيب التهذيب» (1/91) ترجمة أبان بن أبي عياش.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله -: وحكى الخليلي في «الإرشاد» بسند صحيح: أنّ أحمد قال ليحيى بن معين وهو يكتب عن عبدالرزاق عن معمر عن أبان نسخة تكتب هذه وأنت تعلم أن أبان كذاب؟

فقال: يرحمك الله يا أبا عبدالله! أكتبها وأحفظها حتى إذا جاء كذاب يرويها عن معمر عن ثابت عن أنس أقول له: كذبت، إنَّما هو أبان. اهـ.

وفي «العلل» لابن رجب (ص:84): خرج العقيلي من طريق أبي غسان قال: جاءني علي بن المديني فكتب عني عن عبدالسلام بن حرب أحاديث إسحاق بن أبي فروة فقلت: أي شيء تصنع بها؟ قال: أعرفها حتى لا تقلب.

قال ابن رجب: فرق بين كتابة حديث الضعيف وبين روايته، فإن الأئمة كتبوا أحاديث الضعفاء لمعرفتها، ولم يرووها كما قال يحيى، سجرنا بها التنور… إلخ.

وكلامه هذا محمول على أهل الجرح الشديد، والله أعلم.

للتواصل معنا