الأسئلة الحديثية

اختلف في جواز الراوية بالمعنى فما الصواب في ذلك؟

اختلف في جواز الراوية بالمعنى فما الصواب في ذلك؟

من العلماء من أجاز ذلك، ومنهم الإمام البخاري([1])، ومنهم من منع ذلك([2])، واستدلوا بأدلة على قولهم، منها حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من قال أو تقول عليَّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار»([3])، وحديث «نضر الله امراً سمع مقالتي فوعاها، وأدّاها كما سمعها»([4]) وعندما قال البراء في الدعاء الذي عند النوم: «ورسولك الذي أرسلت» قال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا، ونبيِّك الذي أرسلت»([5]) وأجاب الأوّلون عن ذلك، بأنَّ من أدى الحديث بمعناه دون زيادة ولا نقص، فلم يقل على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما لم يقله، والحديث الثاني نفسه ورد بألفاظ مختلفة ومعناها واحد([6])، والحديث الثالث في الأذكار التي لها حكم التوقيف، ويُتَعَبَّدُ الله بألفاظها ومعانيها([7])، لكن إذا كان الراوي يعرف ما يحيل المعاني عن وجهها الصحيح، فلا مانع من روايته بالمعنى، فالأمة تلقت «صحيح البخاري» بالقبول، إلا أحرفاً يسيرة، مع الراوية فيه بالمعنى، وفي الحقيقة أن بحث هذه المسألة اليوم ليس له كبير فائدة؛ لأنّ الراويات قد دُوِّنت، وقضي الأمر، ولا سبيل إلى رد بعضها لروايتها بالمعنى بعد قبول العلماء لها، نعم الراوية باللفظ أولى وأحوط، لكن لا يلزم من ذلك رد الراوية بالمعنى، إذا كانت مستوفاة للشروط التي ذكرها أهل العلم، والله أعلم([8]).

«تنبيه»:

بعض أهل العلم يرجح الحديث الذي ورد بلفظه على الآخر الذي ورد بمعناه عند التعارض[9]، وهذا صحيح، لكن كيف نعرف أنَّ هذا الحديث ورد بلفظه دون الاكتفاء بالمعنى؟ فإن قيل: لأنَّ في سنده فلاناً، وهو لا يستجيز الرواية بالمعنى، قلنا: وهل من فوقه أو من دونه يرون رأيه في ذلك، أم أنّهم يروون بالمعنى؟ قلنا: وهل من فوقه أو من دونه يرون رأيه في ذلك، أم أنّهم يروون بالمعنى؟ فلعله التزم باللفظ الذي ورد إليه، مع أنَّ الحديث ما وصل إليه إلا بالمعنى، أو لعل من دونه رواه عنه بالمعنى، والله أعلم.



([1]) انظر «النكت» للحافظ ابن حجر (1/282) في رواية البخاري بالمعنى.

وقال الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى – في «فتح المغيث» وممن كان يروي بالمعنى من التابعين: الحسن، والشعبي، والنخعي، بل قال ابن الصلاح: إنَّ الذي شهد به أحوال الصحابة، والسلف الأولين فكثيراً ما كانوا ينقلون معنى واحداً في أمرٍ واحد بألفاظ مختلفة، وما ذا إلا لأنَّ معولهم كان على المعنى دون اللفظ. اهـ.

ولانتشاره أجاب مالك من سأله لمَ لم تكتب عن الناس، وقد أدركتهم متوافرين؟ بقوله: لا أكتب إلا عن رجل يعرف ما يخرج من رأسه وكذا تخصيصه ترك الأخذ عمن له فضل وصلاح، إذا كان لا يعرف ما يحدث به بكونه كان قبل أن تدون الكتب والحديث في الصدور؛ لأنّه يخشى أن يخلط فيما يحدث به، فيه إشارة كما قال شيخنا إلى أنَّهم كانوا يحدثون على المعاني، وإلا فلو حفظه لفظاً لما أنكره، ومن ثم اشترط الشافعي، ومن تبعه فيمن لم يتقيد بلفظ المحدث كونه عاقلاً لما يحيل معناه… إلخ (2/242-243).

([2]) قاله طائفة من المحدثين والفقهاء والأصوليين من الشافعية وغيرهم: قال القرطبي: وهو الصحيح من مذهب مالك حتى إن بعض من ذهب لهذا شدد فيه أكثر التشديد فلم يجز تقديم كلمة على كلمة، ولا حرف على آخر ولا إبدال حرف بآخر، ولا زيادة حرف ولا حذفه، فضلاً عن أكثر ولا تخفيف ثقيل ولا تثقيل خفيف, ولا رفع منصوب ولا نصب مجرور أو مرفوع، ولو لم يتغير المعنى في ذلك كله بل اقتصر بعضهم على اللفظ، ولو خالف اللغة الفصيحة. اهـ من المصدر السابق (2/243).

([3]) متّفق عليه وقد تكلمت على طرقه بتوسع في «تحفة القاري بدراسة وتحقيق فتح الباري» كتاب العلم برقم: (63) المؤلف.

([4]) صحيح، وقد تكلّمت على طرقه بتوسع في «تحفة القاري بدراسة وتحقيق فتح الباري» كتاب العلم برقم: (47) المؤلف.

([5]) أخرجه البخاري (247) ومسلم (2710) المؤلف.

([6]) قال السخاوي رحمه الله -: وحديث: «نضر الله…» ربّما يتمسك به للجواز لكونه مع ما قيل إنّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يحدث به سوى مرة واحدة، وروى بألفاظ مختلفة: كرحم الله، ومن سمع، ومقالتي، وبلغه، وافقه، ولا فقه له، مكان نضر الله، وأمروا ومنا حديثاً، وأداه وادعى وليس بفقيه.

([7]) أما حديث: «ونبيك» ففي الاستدلال به نظر؛ لأنَّه وإن تحقق بالقطع أن المعنى في اللفظين متحد لأنّ الذات المحدث عنها واحدة، فالمراد يفهم بأي صفة وصف بها الموصوف فيحتمل أنَّ المنع لكون «ألفاظ الأذكار»، كما سيأتي في الفصل الثاني عشر توقيفية، ولها خصائص، وأسرار لا يدخلها القياس، فيجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به وبالجملة فيستحب له أن يورد الأحاديث بألفاظها كما قاله الحسن وغيره، لأنَّ ذلك أسلم وأفضل كما قاله ابن سيرين اهـ من «فتح المغيث» (2/247-248).

([8]) شروط جواز نقل الحديث بالمعنى:

أحدها: أن يكون الراوي عارفاً بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها، فإن كان جاهلاً بمواقع الكلام امتنع بالإجماع: قاله القاضي في «التقريب».

ثانيها: أن يبدل اللفظ بما يرادفه كالجلوس بالقعود والاستطاعة بالقدرة، والعلم بالمعرفة، وجعل الأبياري هذا محل وفاق في الجواز.

ثالثها: أن تكون الترجمة مساوية للأصل في الجلاء والخفاء، فيبدل اللفظ بمثله في الاحتمال وعدمه، ولا يبدل الأجلى بالجلي وعكسه، ولا العام بالخاص: ولا المطلق بالمقيد، ولا الأمر بالخبر، ولا العكس، لأنَّ الخطاب تارة يقع بالمحكم وتارة يقع بالمتشابه، لحكم وأسرار لا يعلمها إلا الله ورسوله، فلا يجوز تغييرها عن موضوعها.

رابعها: أن لا يكون مما تعبد بلفظه، فأما ما تعبدنا به، فلا بد من نقله باللفظ قطعاً، كألفاظ التشهد ولا يجوز نقله بالمعنى بالاتفاق.

خامسها: أن لا يكون من جوامع الكلم فإن كان كقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «الخراج بالضمان» و«البينة على المدعي» و«العجماء جبار» و«لا ضرر ولا ضرار»، ونحوه لم يجز؛ لأنَّ لا يمكن درك جميع معاني جوامع الكلم، حكاه بعض الحنفية.

سادسها: أن لا يكون من باب المتشابه، وكذلك المشترك لا ينقله أحد بالمعنى لتعذر نقله بلفظ آخر وكذلك المجمل راجع «البحر المحيط» للزركشي رحمه الله تعالى (4/356-357) وانظر كذلك «المحدث الفاصل» للرامهرمزي (ص: 529-540) و«الكفاية للخطيب (ص:300-306) كذلك «شرح العلل» لابن رجب رحمه الله (1/ص:425-430) و«تدريب الراوي» (2/311)، «إرشاد الفحول» (ص:57)، «مذكرة الشنقيطي» رحمه الله (ص:137).

والذي يظهر أنَّ في بعض هذه الشروط تداخل، والله أعلم.

[9] انظر «تدريب الراوي» (2/200) باب التعارض وكلام السيوطي عليه.

للتواصل معنا