المحدث إذا عمد إلى مشهور بكثرة الحديث فيأتي عنه بما ليس عند كبار تلامذته، فهل هذا دليل على نكارة الحديث؟ وخاصة أنَّ مسلماً جعله من علامات النكارة؟
كلام مسلم هذا في «مقدمة الصحيح»([1])، وخلاصة الأمر الذي سألت عنه: أنَّ المحدِّث إذا روى عن إمام من الأئمة، بما لا يُعْرف عنه ضُعِّف وتُكُلّم فيه، وقولنا: «بما لا يعرف عنه» ما وصلنا إلى الحكم بهذا إلا بعد أن مررنا بمرحلة، رأينا فيها أنَّ الثقات وكبار تلامذته، أو أصحاب الطبقة الأولى من تلامذته، ما رووا هذه الجملة، أو ما رووا هذا الحديث أصلاً، إنَّما انفرد به من لا يستحق أن يُقْبل تفرده، فلذلك قلنا: أتى عنه بما لا يُعرف عنه، ونم هنا قسم العلماء الرواة عن الأئمة إلى طبقات، والطبقات هنا ليس المقصود بها السن، وإنَّما المقصود بها الملازمة والتثبت، ومعرفة حديث هذا الشيخ، كما ترى في كتاب «العلل» لابن المديني – رحمه الله – أشياء كثيرة من هذا([2])، فالراوي إذا كان كذلك، أي: يروي عن الثقات بما لا يُعرف عنهم ضُعِّف بسبب ذلك، فإن كثر هذا في حديثه وفحش، تُرِك، واعلم أ، الراوي وإن كان ممن يُحتج به، فقد يردون بعض حديثه عن أحد الشيوخ، بحجة أنه ليس موجوداً عند كبار تلامذته، لكن محل ذلك إذا كانت هناك نكارة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، وأما رد كل رواية بسبب عدم وجودها عند تلامذة فلان، فقول عارٍ عن التحقيق، ولا يسلم من إسراف وغلو، والله أعلم.
([1]) قال – رحمه الله تعالى – في «مقدمة صحيحه» (1/56-58): «… وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايتهم أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله، ولا مستعْمله.
فمن هذا الضرب من المحدثين عبدالله بن محرر، ويحيى بن أبي أنيسة، والجراح بن المنهال، أبو العطوف، وعباد بن كثير، وحسين بن عبدالله بن ضميرة، وعمر بن صهبان، ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث فلسنا نعرج على حديثهم ولا نتشاغل به لأنَّ حكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته فأمَّا من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك قد نقل أصحابُهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره فيروى عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس، والله أعلم.
([2]) قال ابن رجب – رحمه الله – في «شرح العلل» (ص:231): «… أصحاب الزهري خمس طبقات:
الطبقة الأولى: جمعت الحفظ والإتقان وطول الصحبة للزهري والعلم بحديثه، والضبط كمالك وابن عيينة… وهؤلاء متفق على تخريج حديثهم عن الزهري.
الطبقة الثانية: أهل حفظ وإتقان لكن لم تطل صحبتهم للزهري؛ وإنّما صحبوه مدة يسيرة، ولم يمارسوا حديثه وهم في إتقانه دون الطبقة الأولى كالأوزاعي، والليث… وهؤلاء يخرج لهم مسلم عن الزهري.
الطبقة الثالثة: لازموا الزهري وصحبوه ورووا عنه، ولكن تكلّم في حفظهم، كسفيان بن حسين ومحمد بن إسحاق…، وهؤلاء يخرج لهم أبو داود، والترمذي، والنسائي، وقد يخرج لهم مسلم لبعضهم متابعة.
الطبقة الرابعة: قوم رووا عن الزهري من غير ملازمة ولا طول صحبة، ومع ذلك تكلّم فيهم مثل، إسحاق بن يحيى الكلبي… وهؤلاء قد يخرج الترمذي لبعضهم.
الطبقة الخامسة: قوم من المتروكين والمجهولين كالحكم الأيلي وعبدالقدوس بن حبيب… ونحوهم فلم يخرج لهم الترمذي ولا أبو داود، ولا النسائي ويخرج لبعضهم ابن ماجة ومن هنا نزلت درجة كتابه عن بقية الكتب، ولم يعدُّه من الكتب المعتبرة صوى طائفة من المتأخرين. اهـ.