يكثر الحافظ ابن حجر من عبارة: «إنَّ الزيادة من الثقة المتقن مقبولة» فهل يقصد بذلك أنَّها مقبولة مطلقاً؟
يراعى في مثل هذا أنَّ العلماء قد تكون لهم عبارات مطلقة ومجملة في موضع، وتفسر في مواضع أخرى، فالحافظ ابن حجر – رحمه الله – نفسه من جملة القائلين: «بأنَّ الشذوذ علة تقدح في صحة الحديث9» وعرف الشاذ: «بأنّه مخالفة المقبول لمن هو أولى، أو أوثق منه»، وكلمة «المقبول»([1]) يدخل فيها الثقة والصدوق، وهذا التعريف هو أدق التعاريف التي وقفت عليها، فالذي يقول: «هو مخالفة الثقة للثقات» غير صحيح؛ لأنَّ كلمة «الثقة» خاصّةٌ، وهم يرون أيضاً أنَّ «الصدوق» إذا خالف من هو أوثق منه يكون شاذاً، وقولهم: «صدوق» لا يدخل في تعريف الثقة، إلا على تفاصيل أخرى، قد سبق الكلام عليها، كذلك أيضاً قولهم: «مخالفة الثقة للثقات» معترض عليه؛ لأنَّه قد يخالف الثقةُ أو الصدوقُ ثقةً واحداً ومع ذلك يكون شاذاً، لأنَّ المخالَف أحفظ وأثبت وأعلم بالشيخ من هذا المخالِف له، والتعاريف ينبغي أن تكون جامعة مانعة، والحافظ – رحمه الله – نفسه نقل عن النقاد من العلماء، أنَّهم يرون: «أنَّ الشذوذ علة تقدح في صحة الحديث»([2])، فإذا أطلق هذا القول في موضع، فالذي ينبغي أن يُنظر إلى الموضع الذي قال فيها هذه الكلمة، فإذا وجدنا أنّ ثقة خالف آخر مثله، فالزيادة من الثقة مقبولة – حينئذ -، ومن باب أولى لو أنَّ ثقة خالف ثقة حافظاً في نفس الحديث، فالزيادة من الثقة الحافظ مقبولة، فلا بد من تأمل المواضع التي أطلق فيها الأئمة ذلك؛ لأنَّ رد بعض روايات العدول، لمخالفة من هم أوثق منهم موجود وثابت عن أئمة الحديث، والقول بأنَّ الزيادة من الثقة مقبولة مطلقاً، مذهب جمهور الأصوليين والفقهاء وبعض المحدثين، وفيه توسع غير مرضي([3])، فلا بد أن ندور مع القرائن والترجيحات، وهو مذهب أئمة نقاد الحديث، ولشيخنا مقبل – رحمه الله – بحث مفيد في ذلك، فأرجع إليه في مقدمة تحقيقه «الإلزامات والتتبع».
([1]) ارجع إلى ذلك مفصلاً في السؤال رقم (18).
([2]) قال الحافظ في «شرح النخبة»: «واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقاً من غير تفصيل ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذاً ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه، والعجب ممن أغفل ذلك منهم مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح، وكذا الحسن والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبدالرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم، والنسائي، والدارقطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة وأعجب من ذلك إطلاق كثير من الشافعية القول بقبول زيادة الثقة، مع أنَّ نص الشافعي يدل على غير ذلك.
فإنّه قال في أثناء كلامه على ما يعتبر به حال الراوي في الضبط ما نصه، ويكون إذا أشرك أحداً من الحفاظ لم يخالفه؛ فإن خالفه فوجد حديثه أنقص كان في ذلك دليل على صحة مخرج حديثه، ومتى خالف ما وصفت أضر ذلك بحديثه، انتهى كلامه.
ومقتضاه أنّه إذا خالف فوجد حديثه أزيد أضر ذلك بحديثه فدل على زيادة العدل عنده لا يلزم قبولها مطلقاً، وإنّما تقبل من الحافظ، فإنّه اعتبر أن يكون حديث هذا المخالف أنقص من حديث من خالفه من الحفاظ وجعل نقصان هذا الراوي من الحديث دليلاً على صحته؛ لأنّه يدل على تحريه وجعل ما عدا ذلك مضراً بحديثه فدخلت فيه الزيادة فلو كانت عنده مقبولة مطلقاً، لم تكن مضرة بحديث صاحبها. والله أعلم (ص:96-97). بتحقيق علي بن حسن.
([3]) قال الصنعاني في «توضيحه» (1/339-340): قال البقاعي: إن ابن الصلاح خلط هنا طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين، فإن للحذاق من المحدِّثين في هذه المسألة نظراً لم يحكه، وهو الذي ينبغي أن يعدل عنه، وذلك أنّهم لا يحكمون فيها بحكم مطرد، وإنّما يديرون ذلك على القرائن… انتهى.
ويأتي ما يفيد هذا في كلام الحافظ ابن حجر، وعنه أخذه البقاعي فإنّه شيخه؛ إلا أن عبارته دلّت أنَّ هذا لبعض حذاق المحدثين لا لكلّهم كما أفاده أول كلامه.
قال الحافظ: الذي صححه الخطيب شرطه أن يكون الراوي عدلاً ضابطاً، وأمَّا الفقهاء والأصوليون فقبول ذلك مطلقاً، وبين الأمرين فرق كبير، قال: وههنا شيء يتعين التنبيه عليه، وهو: أنَّهم شرطوا في الصحيح ألا يكون شاذاً وفسروا الشاذ بأنّه ما رواه الثقة مخالفاً فيه من هو أحفظ منه أو أكثر عدداً.
ثم قالوا: تقبل زيادة الثقة مطلقاً، فلو اتّفق أن يكون من أرسل أكثر عدداً أو أضبط حفظاً أو كتاباً على من وصل أيقبلونه أم لا؟ وهل يسمونه شاذاً أم لا أو لا بد من الإتيان بالفرق أو الاعتراف بالتناقض؟ والحق في هذا أن زيادة الثقة لا تقبل دائماً ومن أطلق ذلك من الفقهاء والأصوليين لم يصب… إلخ.