قد يقول قائل: وجدنا بعض العلماء يجرِّح، فإذا سئل عن سبب تجريحه، يبين أموراً ليست مجرِّحة، فإذا كان الأمر كذلك، وتعارض جرح مجمل وتعديل، فيجب أن نقدم التعديل، ونهدر الجرح تماماً، فما صحة ذلك؟
هذا كلام غير صحيح: من جهة النظر ومن جهة الاستعمال، فقد سبق أن أشرت إلى صنيع الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى -.
وأما من جهة النظر، فيقال لقائل هذا القول: الراوي إذا اختلف فيه إمامان أحدهما قال: «ثقة» والآخر قال: «ضعيف» فإهمالك الجرح تماماً وقولك في الراوي: «ثقة» غير صحيح؛ لأنَّك سويت بين الترجمة التي اختُلِف فيها على هذا الوصف، وبين التي يُخْتَلَف فيها أصلاً، وليس فيها إلا قول أحدهم: «ثقة»!! وفوق ذلك كله، فما ذكرتَهُ فيه نظر من وجوه:
1 – أن ما ذكرته عن تجريح بعضهم بما لا يجرح، نادر جداً، والنادر لا يُقعَّدُ عليه().
2 – أن الأصل في الأئمة الذين يتكلمون في الرواة، أنَّهم أهل علم بأسباب الجرح والطعن في الرواة، وإعمال قولهم – إذا لم يكن هناك ما يدفعه – أولى من إهماله().
3 – أن ما عبته على بعضهم في جانب التجريح، موجود عند بعضهم في جانب التوثيق()، بل هو أكثر وأشهر، وما «ثقات ابن حبان» و«ثقات ابن شاهين» وأقوال الحاكم وغيرهم عنا ببعيدة، فلو قَلَب عليك مخالفُك قولَكَ لكان أولى من قولك، لكن يرد على ذلك: أنَّ التعديل لا يكون إلا مجملاً، ويشق تفسيره.
4 – ونظراً لعلمنا بهذه الاحتمالات، قلنا: يمزج الحكم بالتعديل والتجريح، وإلا فلو كان التجريح خالياً من هذه الاحتمالات، لقدمناه على التعديل – وإن كان مجملاً – والعلم عند الله تعالى.
([1]) ومن لك ما ذكره الخطيب البغدادي – رحمه الله – في «كفايته» (ص:183) بإسناده قال: قيل لشعبة: لمَ تركت حديث فلان؟ قال: رأيته يركض على برذون فتركت حديثه، ونحوه قول وهب بن جرير عن شعبة: أنّه أتى منزل المنهال بن عمرو فسمع صوت الطنبور فرجع، قال وهب: فهلا سألت؟ عسى ألا يعلم هو.
ومنها أنَّ شعبة قال: قلت للحكم بن عتيبة: لمَ لم ترو عن زاذان؟ قال: كان كثير الكلام ومنها قول جرير بن عبدالحميد: أتيت سماك بن حرب فرأيته يبول قائماً فلم أسأله عن حرف، قلت: قد خرف… إلخ ما ذكره الخطيب وغيره في هذا الباب.
أقول: ويجاب على ذلك أيضاً بما ذكره المؤلف – حفظه الله – أن مثل ذلك نادر والنادر لا يقعد عليه ويقال أيضاً أنَّ ما ذكره الخطيب وغيره في هذا الباب يحتاج إلى نظر في إسناده، وإن سُلم بصحة أسانيده فلا يسلم من التأويل، فقد أجاب على ذلك الحافظ السخاوي – رحمه الله تعالى – كما في «فتح المغيث» (1/302-304)، فقال على أثر شعبة الأول: فماذا يلزم من ركضه اللهم إلا أن يكون في موضع أو على وجه لا يليق ولا ضرورة تدعو لذلك.
وأجاب على الثاني: وقد حكى ابن أبي حاتم عن أبيه أن السماع يكره ممن يقرأ بالألحان ونص الإمام مالك في المدونة على أنَّ القراءة في الصلاة بالألحان الموضوعة والترجيع ترد به الشهادة… إلخ.
وأجاب عن الثالث: وهو الكلام في زاذان قال السخاوي: وممن تكلّم في زاذان الحاكم أبو أحمد فقال: إنّه ليس بالمتين عندهم، وقال ابن حبان كان يخطئ كثيراً… إلخ وأجاب كذلك عن قصة جرير بن عبدالحميد بقوله: ولعله كان بحيث يرى الناس عورته، والله أعلم.
([2]) في «الكفاية» للخطيب – رحمه الله – (ص:178) قال: وقد ذكر أنَّ الشافعي إنّما أوجب الكشف عن ذلك؛ لأنّه بلغه أنَّ إنساناً جرح رجلاً فسئل: عما جرحه به؟ فقال: رأيته يبول قائماً، فقيل له: وما في ذلك ما يوجب جرحه؟ فقال: لأنّه يقع الرشش عليه وعلى ثوبه، ثم يصلي، فقيل له: رأيته يصلي كذلك؟ فقال: لا، قال الخطيب: فهذا ونحوه جرح بالتأويل، والعالم لا يجرح أحداً بهذا وأمثاله، فوجب بذلك ما قلناه. اهـ.
أي: قبول الجرح مجملاً إذا صدر من العالم بهذا الشأن وقد سبق نقل ذلك عن القاضي أبي بكر الباقلاني في (ص:246) وانظر كذلك «فتح المغيث» للسخاوي – رحمه الله – (1/307-308)، والله أعلم.
([3])وذلك بأن يغتر المعدل بحال الراوي فيسارع إلى الثناء عليه اغتراراً بظاهر الحال، ومن الأمثلة على ذلك ما ساقه الخطيب في «الكفاية» (ص:165) بسنده عن يعقوب الفسوي أنّه قال في «تاريخه»: سمعت إنساناً يقول لأحمد بن يونس: عبدالله العمري ضعيف؟ قال: إنّما يضعفه رافضي مبغض لآبائه، ولو رأيت لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أنّه ثقة.
قال الخطيب: ما احتج أحمد بن يونس على أنَّ عبدالله العمري ثقة بما ليس بحجة؛ لأنّه حسن الهيئة مما يشترك فيه العدل المجروح. اهـ.
وفي «فتح المغيث» قال السخاوي: وهذا الإمام مالك مع شدة نقله وتحريه قيل له في الراوية عن عبدالكريم بن أبي المخارق فقال: غرني بكثرة جلوسه في المسجد، يعني لما ورد من كونه بيت كل تقي. اهـ (1/304).