الأسئلة الحديثية

قول أحد الأئمة: «فلان وسط» و«فلان حسن الحديث» و«فلان جيد الحديث» و«فلان صالح الحديث» فبعض أهل العلم يحسن لمن قيل فيه ذلك، فما هو الصواب؟

قول أحد الأئمة: «فلان وسط» و«فلان حسن الحديث» و«فلان جيد الحديث» و«فلان صالح الحديث» فبعض أهل العلم يحسن لمن قيل فيه ذلك، فما هو الصواب؟

قولهم: «فلان وسط» معناه: أنَّه وسط في سلم الجرح والتعديل، بمعنى: أنَّه ليس من أهل الاحتجاج، ولا من أهل الرد والترك، فيكون من أهل الشواهد؛ لأنَّك لو نظرت إلى سلم الجرح والتعديل، لرأيته ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وفي كل قسم تفاصيل([1]).

القسم الأول: درجة الاحتجاج، والاحتجاج في داخل هذا القسم على نوعين: احتجاج من أعلى الدرجات، واحتجاج دونه؛ فالأول هو الصحيح، والثاني هو الحسن.

القسم الثاني: درجة الاستشهاد، وهي مرتبتان في أواخر التعديل، وثلاث مراتب في أوائل التجريح، ويستشهد بأهل هذه المراتب، ولا يحتج بهم.

القسم الثالث: درجة الرد والترك، وينقسم إلى قسمين: قسم الرد، والثاني قسم الترك، هذا سلم الجرح والتعديل بإيجاز، فإذا قالوا: «فلان وسط» فبعض أهل العلم يتبادر له أنَّه «وسط» بمعنى: أنَّه ليس بصحيح ولا بضعيف، فهو حسن، وهذا كلام خطأ؛ لأنَّهم لا يقصدون أنَّه «وسط» بين الصحيح والضعيف، إنَّما يقصدون أنَّه «وسط» بين الاحتجاج وبين الرد، فلا هو بالذي يُحتج به، ولا بالذي تُرد روايته وتُترك، فعلى هذا، فإذا قالوا: «فلان وسط»، فهو من ألفاظ الشواهد والمتابعات([2])، ويُكثر من استعمال هذا اللفظ الإمام أبو الحسن علي بن المديني رحمه الله تعالى -.

وأما الكلمة الثانية: «جيد الحديث» و«حسن الحديث» ففرق بين قول إمام من الأئمة: «فلان حسن الحديث» وبين قوله: «هذا الحديث حسن»، فإذا حكم على حديث ما بأنَّه حسن، فهي المرتبة التي بين الصحيح والضعيف، وهي من مراتب الاحتجاج عند جمهور أهل العلم، خلافاً لأبي حاتم في بعض المواضع، ولمن نحا نحوه في ذلك([3])، وأما قولهم: «فلان حسن الحديث» فإنّهم يعنون بذلك أنَّ حديثه يُشْتَهَى، وأن حديثه مرغوب فيه، وذلك إما لعلو إسناده، أو لغرابته وأنَّه ليس موجوداً عند غيره، ولا يلزم من ذلك أن يكون الحديث حسناً، في منزلة الحُسْن التي بين الصحة والضعف، ولكن حُسن الحديث هنا -؛ أي: علو الإسناد، وقد يكون عالي الإسناد، وهو ضعيف، وقد يكون حديث الراوي مرغوباً فيه؛ لأنَّ فيه فوائد وغرائب ليست عند المحدثين، وهو ضعيف([4])، وهذا يعتبر من جهل بعض المحدثين الذين يرغبون في الأسانيد العالية وإن كانت ضعيفة فالعبرة بما صح وثبت.

فالمحدثون قد يطلقون حُسْن الحديث على الحديث الضعيف، كما قال أبو زرعة الرازي؛ وقد سئل عن عبدالله بن صالح الجهني كاتب الليث: «لم يكن ممن يتعمد الكذب، ولكنَّه كان يغلط، وهو عندي حسن الحديث»، انظر «النكت» (1/392) فتأمل كيف وصفه بالغلط، وأن الأخطاء تجري على لسانه بدون تعمد، ولكن على سبيل الوهم، ومع ذلك وصفه بحسن الحديث، مما يؤيد ما ذكرته.

وقد ذكر ابن رجب في «شرح علل الترمذي» مقالة نقلها عن الإمام أحمد رحمه الله قال رحمه الله -: إذا رأيت المحدثين يقولون في حديث: لا شيء، فاعلم أنَّه صحيح، وإذا رأيتهم يقولون: هو فوائد، فاعلم أنَّه ضعيف. اهـ بمعناه([5]).

تفسير ذلك أن المحدث يُؤْتَى بحديث مذكور بالأسانيد النازلة، وهو مشهور عند المحدثين، بل قد يكون في الصحاح، فيقول: هذا لا شيء، ليس بمعنى أنَّه ضعيف، ولكن بمعنى أنَّه موجود، وقد سبق له حفظ هذا الحديث أو كتابته، أو أن هذا الحديث عند أهل بلده مشهور، فيقول: إذا رحلتُ الآن، ورجعت إليهم بنفس الحديث الذي عنهم، أيش يجعلهم يرغبون في حديثي؟ فنم هنا يقول: لا شيء، وإذا رأيته يرغب في حديث ويمدحه، ويقول: فوائد أو فائدة فاعلم أنَّه ضعيف؛ لأنَّ بعض جهلة المحدثين يسعى إلى الأسانيد التي فيها أشياء وألفاظ غريبة، من أجل أن يقف عند المذاكرة، ويقول: عندي ما ليس عندك، ماذا عندك في الباب الفلاني؟ فيقال له: عندي كذا وكذا فيقول: وأنا عندي أحاديث ليست عندك، فخذها عني بعلو، ثم يسوقها([6])، ففرق بين قولهم: «فلان حسن الحديث»، وبين قولهم في حديث ما،: «هذا حديث حسن» بنحو هذا فُرِّق بين قولهم: «فلان منكر الحديث»، وبين قولهم في حديث ما: «إنَّه حديث منكر»، «ففلان منكر الحديث» أي: أنّه يقع في حديثه مناكير، أ, يروي أحاديث مناكير، وهو الذي يتحمل عهدتها، لأنَّ الخطأ منه، لكن هذا لم يكثر في حديثه، ولذلك كان الراجح أنَّ قولهم: «فلان منكر الحديث» من ألفاظ الجرح الخفيفة، وليست من ألفاظ الجرح الشديدة، إلا في بعض المواضع التي جاءت عن أبي حاتم، كما نقله عنه ابنه في «الجرح والتعديل» فأحياناً يقول: «منكر الحديث، يترك حديثه» بالرغم من أنَّه أحياناً يقول: «منكر الحديث جداً، يكتب حديثه ولا يترك»، فعلى كل حال إنَّ قولهم: «منكر الحديث» الراجح فيه أنَّه من ألفاظ الشواهد والمتابعات([7])، إلا أن تظهر قرنية تدل على خلاف ذلك، فيعمل بها في موضعها، ويدلك على هذا أيضاً أنَّ العلماء لما تكلّموا عن قول البخاري: «فلان منكر الحديث» قالوا: معناه عند البخاري: أنَّه لا تحل الراوية عن هذا الرجل، ولكن البخاري لطيف العبارة في التجريح، وهذه الكلمة عنده من الجرح شديد.

وهنا وقفة؛ ما معنى قولهم: إنَّ البخاري لطيف العبارة في التجريح، ولكن هذا اللفظ عنده جرح شديد؟ هذا يدل على أنّه أتى بهذا اللفظ الذي غيره يستعمله في الجرح الخفيف، وتكلّم به في الجرح الشديد، ولو كانت لفظة «منكر الحديث» عند غيره بمعنى: لا تحل الراوية عنه، فما معنى قولهم: إنَّ البخاري لطيف العبارة في التجريح؟ لكن قول العالم: «هذا الحديث منكر» لا يقوله إلا إذا جمع الطرق، ورأى أن أحد رواته الذي لا يُقْبل تفرده، روى الحديث على وجه يخالف الثقات، أو يخالف من هو أوثق منه، وحكمه عليه بأنَّه حديث منكر؛ معناه: أنَّه لا يستشهد به بعد ذلك، وقد تطلق النكارة على غير هذا، فالرجل الذي يقال فيه: «منكر الحديث» بالمعنى السابق يستشهد به، والحديث الذي يقال فيه: «حديث منكر» لا يصلح في الشواهد والمتابعات([8])، وما قيل في «حسن الحديث» يقال في «جيد الحديث»([9])، وقولهم: «صالح» من ألفاظ الشواهد أيضاً، كما صرح بذلك بعض العلماء الذين صنفوا في علوم الحديث، والله أعلم[10].



([1]) انظر «شفاء العليل» (ص:382).

([2]) المصدر السابق (ص:141).

([3]) قال السيوطي في «تدريبه» (1/154) كما روى عن ابن أبي حاتم أنَّه قال: سألت أبي عن حديث، فقال: إسناده حسن، فقلت: يحتج به؟ فقال: لا. اهـ.

هذا وفي «العلل» له مواضع ذكر فيها بعض الأحاديث على وجه الاعتماد ووصفها بالحسن، مما يدل على أنَّ الحسن عندهم له اعتبارات أ×رى والله أعلم.

([4]) أطلق جماعة من المحدثين على بعض الأحاديث «الحسن» وأرادوا به الحسن اللغوي دون الاصطلاحي.

قال السيوطي في «التدريب» (1/162-163): كما وقع لابن عبدالبر، حيث روى في كتاب العلم حديث معاذ بن جبل مرفوعاً: «تعلموا العلم؛ فإنَّ تعلمه لله خشية وطلبه عبادة» الحديث بطوله، وقال هذا حديث حسن جداً، ولكن ليس له إسناد قوي فأراد بالحسن حسن اللفظ؛ لأنَّه من رواية موسى البلقاوي وهو كذاب نسب إلى الوضع عن عبدالرحيم العمي وهو متروك.

وروينا عن أمية بن خالد قال: قلت لشعبة تحدث عن محمد بن عبيدالله العرزمي وتدع عبدالملك بن سليمان وقد كان حسن الحديث فقال: من حسنها فررت، يعني: أنَّها منكرة.

وقال النخعي: كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يخرج الرجل أحسن ما عنده، قال السمعاني عني بالأحسن الغريب. اهـ.

أقول: وفي «بحر الدم» (ص:185 رقم 390): وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن ابني بريدة، فقال: سليمان أحلا في القلب وكان أصحهما حديثاً وعبدالله له أشياء إنا ننكرها من حسنها وهو جائز الحديث. اهـ.

([5]) في «شرح العلل» لابن رجب (ص:235): «… ونقل محمد بن سهل بن عكسر عن أحمد، قال: إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا الحديث غريب أو فائدة، فاعلم أنّه خطأ، أو دخل حديث في حديث، أو خطأ من المحدث، أو ليس له إسناد وإن كان قد روى شعبة وسفيان، وإذا سمعتهم يقولون: هذا لا شيء فاعلم أنّه حديث صحيح. اهـ.

([6]) قال الخطيب البغدادي في «الكفاية» (ص:224): وأكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب على إرادتهم كتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من روايات المجووحين والضعفاء، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنباً، والثابت مصروفاً عنه مطرحاً، وذلك كله لعدم معرفتهم بأحوال الرواة، ومحلهم، ونقصان علمهم، بالتمييز وزهدهم في تعلمه، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين والأعلام من أسلافنا الماضين، وفي «سير أعلام النبلاء» (2/601) ترجمة الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه ذكر الإمام الذهبي رحمه الله تعالى عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان أنَّ أبا هريرة كان يقول إني لأحدث أحاديث لو تكلّمت بها في زمن عمر لشج رأسي، قال الذهبي: هكذا هو كان عمر رضي الله عنه يقول: أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وزجر غير واحد من الصحابة عن بث الحديث وهذا مذهب لعمر وغيره.

فبالله عليك؛ إذا كان الإكثار من الحديث في دولة عمر كانوا يمنعون منه مع صدقهم وعدالتهم وعدم الأسانيد بل هو غض لم يشب فما ظنّك بالإكثار من رواية الغرائب والمناكير في زماننا مع طول الأسانيد وكثرة الوهم والغلط فبالحري أن نزجر القوم عنه، فيا ليتهم يقصرون على رواية الغريب والضعيف بل يروون والله الموضوعات والأباطيل والمستحيل في الأصول والفروع والملاحم والزهد، نسأل الله العافية، فمن روى ذلك مع علمه ببطلانه، وغرّ المؤمنين فهذا ظالم لنفسه جانٍ على السنن والآثار، يستتاب من ذلك فإن أناب وأقصر وإلا فهو فاسق كفى به إثماً أن يحدث بكل ما سمع وإن هو لم يعلم فليتورع وليستعن بمن يعينه على تنقية مروياته، نسأل الله العافية فلقد عمّ البلاء وشملت الغفلة ودخل الداخل على المحدثين الذين يركن إليهم المسلمون فلا عتبى على الفقهاء وأهل الكلام.

أقول: كيف لو شاهد الإمامان ما حل في عصرنا مما عمَّ وطمَّ، ورحم الله أبا نعيم الأصبهاني يوم أن قال: كنت أتعجب من قول عائشة:

 

ذهب الذين يعاش في أكنافهم




وبقيت في خلف كجلد الأجرب



لكنّي أقول:

ذهب الناس فاستقلوا وصرنا خلفاً

في أراذل الـــــــناس النــسناس

في أنـاسٍ نعدهــــم من عــديـــد

فإذا فتشـــــوا فليســــوا بــناس

ولكن نعزي أنفسنا ببقايا الخير في هذا الزمان من علمائنا الكبار الذين نفع الله بهم البلاد والعباد فهم مصابيح الهدى وأنوار الدجا، نسأل الله أن يزيدهم رفعة وعلواً في الدارين وأن يجعلنا من أتباعهم ومن المجددين لآثارهم إنّه ولي ذلك والقادر عليه.

([7]) سبق ذلك مفصلاً في السؤال رقم (19) فليراجع.

([8]) نصَّ على ذلك الإمام أحمد رحمه الله تعالى كما في مسائل ابن هانئ (2/197 رقم 1925)؛ فقد سأله إسحاق بن إبراهيم، ترى أن نكتب الحديث المنكر، قال: المنكر أبداً منكر، قيل له: فالضعفاء؟ قال: قد يحتاج إليهم في وقت كأنه لم ير بالكتابة عنهم بأساً، وانظر «شرح علل الترمذي» (1/385).

([9]) قال المؤلف في كتابه «الشفاء» (1/141): «فلان جيد الحديث» إن كان بمعنى: أنّه ينتقي، وحديثه سالم من العلل فمكانه في الثانية من مراتب التعديل وإن كان بمعنى أنَّ سماعه صحيح من مشايخه، فليس فيه إشارة إلى قوة أو ضعف من حيث الراوية، وإن كان بمعنى: أنَّ عالي الإسناد ورجاله قد اشتهروا ومتونهم مشهورة، وغير ذلك من أسباب جودة الحديث ومن الأمور التي يتنافس فيها المحدثون فهذا ليس فيه تقوية لحاله في الراوية، أو توهين ونحو ذلك قولهم: «فلان حسن الحديث». إلخ اهـ.

([10]) انظر «التقييد والإيضاح» (ص:161-162) و«فتح المغيث» (1/365) وقد ذكر السخاوي أنَّ قولهم: «صدوق»، وقولهم: «صالح الحديث» عند ابن مهدي بمعنى، لكن اعترض عليه الصنعاني بأن ابن مهدي جعل القول الثاني منحطاً عن رتبة ليس به بأس، قال ابن الصلاح: وقد جاء عن أبي جعفر محمد بن سنان أنّه قال: كان عبدالرحمن بن مهدي ربّما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف وهو رجل صدوق، فيقول: رجل صالح الحديث. اهـ وانظر «الكفاية» للخطيب (60).

للتواصل معنا