الأسئلة الحديثية

إسناد فيه رجل ممن وُصف بأنه يدلس تدليس التسوية، فهل نكتفي بتصريحه بالسماع من شيخه، أو لا بد أن يصرح بالسماع في جميع الإسناد؟

إسناد فيه رجل ممن وُصف بأنه يدلس تدليس التسوية، فهل نكتفي بتصريحه بالسماع من شيخه، أو لا بد أن يصرح بالسماع في جميع الإسناد؟

سبق أن كتبتُ جواباً على مثل هذا السؤال، ورجَّحتُ آنذاك اشتراط التصريح بالسماع في كل الإسناد، تبعاً لما حرَّره شيخنا الألباني حفظه الله تعالى -، وظناً مني أنَّ مدلسي تدليس التسوية؛ يدلسون في جميع طبقات السند.

لكنّي أعدت النظر، فترجح عندي: أنَّه يلزم من عُرف بذلك أن يصرح بالسماع عن شيخه، وأن يصرح بسماع شيخه من شيخه، ويُكتفَى من المدلس بذلك، ولا يُشترط تسلسل التصريح بالسماع على تفاصيل سأذكرها، إن شاء الله تعالى، في نهاية الجواب -.

والذي دفعني لتغيير الجواب أمور:

الأول: أنّني نظرت في تعريف العلماء التدليس التسوية، فرأيت أكثرهم يعرفونه بما يدل على أن العلة في هاتين الطبقتين:

الأولى: لتدليس المدلس، وقد لا يدلس في هذه الطبقة.

والثانية: لتسوية المدلس.

وأيضاً يعرِّفونه بما يدل على حصرِهِم العلَّة فيما بين شيخ المدلس وشيخ شيخه، وإليك أقوال جماعة من العلماء في ذلك.

· الإمام أبو سعيد العلائي، المتوفى سنة، (761) هـ:

قال يرحمه الله -: النوع الثاني من تدليس السماع: أن يسمع الراوي من شيخه حديثاً، قد سمعه من رجل ضعيف، عن شيخ سمع منه ذلك الشيخ هذا الحديث، فيسقط الراوي عنه الرَّجلَ الضعيف من بينهما، ويروي الحديث عن شيخه عن الأعلى، لكونه سمع منه، أو أدركه، ويسمى هذا النوع أيضاً -: «التسوية»…، اهـ من «جامع التحصيل» (ص:102).

· الإمام ابن رجب الحنبلي، المتوفى سنة: (795) هـ:

قال يرحمه الله -: وأما من روى عن ضعيف فأسقطه من الإسناد بالكلية؛ فهو نوع تدليس، ومنه ما يسمى «التسوية»، وهو أن يروي عن شيخ له ثقة، عن رجل ضعيف، عن ثقة، فيسقط الضعيف من الوسط. اهـ، من «شرح علل الترمذي» (2/825).

· الإمام سراج الدين عمر بن علي بن أحمد الأنصاري المشهور بـ «ابن الملقِّن» -، المتوفى سنة: (804) هـ:

قال يرحمه الله -: الوليد يعني: ابن مسلم لا ينفعه تصريحه بالتحديث؛ فإنه اشتهر بتدليس التسوية، وهو أن لا يدلّس شيخ نفسه، ولكن شيخ شيخه، اهـ من «المقنع في علوم الحديث» (1/218). وقال في (1/163): وينبغي أن يُتنبه بعد ذلك لأمر مهم؛ وهو أنْ ثمّ تدليس لهم خاص، يُعرف بـ «تدليس التسوية»، وهو لا يختص بشيخ المدلس، بل بشيخ شيخه. اهـ.

· الحافظ زين الدين عبدالرحيم بن الحسين العراقي، المتوفى سنة: (806) هـ:

قال يرحمه الله -: ترك المصنف يعني: ابن الصلاح قسماً ثالثاً من أنواع التدليس، وهو شر الأقسام، وهو الذي يسمونه تدليس التسوية، وقد سماه بذلك أبو الحسن بن القطان وغيره من أهل هذا الشأن.

وصورة هذا القسم من التدليس: أن يجيء المدلس إلى حديث سمعه من شيخ ثقة، وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف، وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة، فيعمل المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول، فيسقط منه شيخ شيخه الضعيف، ويجعله من رواية شيخه الثقة، عن الثقة الثاني بلفظ محتمل كالنعنعة ونحوها -، فيصير الإسناد كلّه ثقات، ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه؛ لأنَّه قد سمعه منه، فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله، إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل…، اهـ من «التقيد والإيضاح» (ص:95-96).

وقال في (ص:121): الوليد بن مسلم مدلس، وإن كان قد صرح بسماعه من الأوزاعي؛ فإنَّه يدلس تدليس التسوية، – أي: يسقط شيخ شيخه الضعيف، كما تقدم نقله عنه -، اهـ.

·       برهان الدين الابناسي، المتوفى سنة (802) هـ:

قال في «الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح» (1/174): وقد ترك المصنف يعني: ابن الصلاح قسماً ثالثاً، وهو أشر الأقسام، يسمونه «تدليس التسوية»، سماه بذلك ابن القطان وغيره، وهو أن يسمع المدلِّس حديثاً من شيخ ثقة، والثقة سمعه من شيخ ضعيف، وذلك الضعيف يرويه عن ثقة، فيسقط المدلس شيخ شيخه الضعيف، ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل، – كالنعنعة ونحوها -، فيصير الإسناد كلّه ثقات، ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه؛ لأنَّه قد سمعه منه، فلا يظهر حينئذٍ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله، إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل، اهـ.

· الإمام الحافظ محمد بن إبراهيم المعروف بـ  «ابن الوزير» المتوفى سنة (840) هـ:

قال يرحمه الله -: (القسم الثالث) من التدليس (وهو شر أقسام التدليس، وهو تدليس التسوية.

وصورته: أن يروي حديثاً عن شيخ ثقة، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف غير ثقة، عن ثقة، فيأتي المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول، فيسقط الضعيف من السند، ويجعل الحديث عن شيخه الثقة، عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل، فيستوي الإسناد كله ثقات، ولهذا سمي تدليس التسوية)، اهـ من «توضيح الأفكار» (1/373).

ولا ينبغي أن يقال إنَّ ابن الوزير يرحمه الله يرى أن عمل المدلس يقع في كل طبقات السند؛ لقوله: «فيستوي الإسناد كله ثقات»؛ لأنَّه صرح بصورة هذا النوع من التدليس، وحصر عمل المدلَّس في موضع معين، وأيضاً فإن إسقاط الضعيف، الذي هو العلة الوحيدة في السند، يظهر منه بعد ذلك استواء السند كله بالثقات، وعلى هذا يُحمل كلام ابن الوزير، والله أعلم.

· الإمام برهان الدين الحلبي سبط ابن العجمي، – المتوفى سنة (841) هـ:

قال يرحمه الله -: وهو أي تدليس التسوية أن يروي حديثاً عن شيخ ثقة غير مدلس، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف، فيأتي المدلس الذي سمع من الثقة الأول غير المدلس، فيسقط الضعيف الذي في السند، ويجعل الحديث عن شيخه الثقة، عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل، فيستوي الإسناد كله ثقات…، اهـ من «التبيين لأسماء المدلسين» (ص:33-34).

وما قيل في كلام ابن الوزير، يقال في كلام برهان الدين الحلبي يرحمهما الله تعالى .

· الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة (852) هـ:

قال يرحمه الله -، بعد أن ذكر تعريف شيخه العراقي السابق:

قول شيخنا في تعريف التسوية؛ تعريف غير جامع، بل حق العبارة أن يقول: أن يجيء الراوي ليشمل المدلس وغيره إلى حديث قد سمعه من شيخ، وسمعه ذلك الشيخ من آخر عن آخر، فيسقط الواسطة بصيغة محتملة، فيصير الإسناد عالياً، وهو في الحقيقة نازل…، ثم ذكر ما يدل على أنَّ هذا التعريف لا تقييد فيه بالضعيف، اهـ من «النكت على ابن الصلاح» (2/620-621).

وقال في مقدمة «تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس» (ص:25):

وتدليس التسوية: وهو أن يصنع ذلك لشيخه، اهـ، أي: يسقط شيخ شيخه، كما يدل عليه السياق، والله أعلم.

فائدة:

ويظهر من كلام ابن حبان في مقدمة «المجروحين» (1/94) في الكلام على الجنس السادس من أحاديث الثقات التي لا يجوز الاحتجاج بها، أنّه يراعي أن تدليس التسوية يكون بإسقاط شيخ شيخ المدلس، وهذا يظهر لمن تأمّل كلامه في هذا الموضع، وكذلك إذا تأمل ترجمة بقية بن الوليد (1/200-201) حيث عدّ تلامذة بقية من أهل التسوية، لإسقاطهم شيوخ بقية الضعفاء.

وبقية ممن يفعل ذلك، وابْتُلي بتلاميذ يفعلون ذلك في حديثه! والله المستعان.

فائدة أُخرى: قال ابن دقيق العيد في «شرح الإلمام» (2/16) الحديث الثالث -: والتسوية تستعمل فيما بين الراوي وشيخ شيخه، بأن يذكر الراوي شيخه، ويسقط شيخ شيخه، ويذكر شيخ شيخ شيخه، اهـ.

فائدة أُخرى: قال ابن المواق في «بغية النقاد»: وصورته عند أئمة هذا الشأن: أن يعمد الراوي إلى إسقاط راو من بين شيخه، وبين من رواه عنه شيخه، أومنبين شيخه، ومن رواه عن شيخ شيخه، ليقرب بذلك الإسناد…، اهـ من «النكتب» للزركشي (2/105) وفي عبارته تشويش، والله أعلم.

هذا، ولم أقف على أحد صرح بأن المدلس تدليس التسوية، يدلس في الطبقات العليا، إلا قول السيوطي في «التدريب» (1/257): قال النووي: (وربما لم يسقط شيخه، وأسقط غيره) فقال السيوطي: أي: شيخ شيخه، أو أعلى منه، اهـ.

أما عبارة النووي فمحتملة، وليست صريحة في ذلك، وكذلك عبارة الخطيب في «الكفاية» (ص:518)؛ لقوله: وربما لم يسقط المدلس اسم شيخه الذي حدثه، لكنه يسقط ممن بعده في الإسناد رجلاً ضعيفاً في الراوية… إلخ، وأما ما قاله السيوطي فمدفوع بقول من قبله من أهل العلم، والله أعلم.

§ الثاني من الأمور التي حملتني على تغيير الجواب الأول -:

أنَّ من مثَّل به العلماء في تسويته، كان عمله في شيخ شيخه، ولم أقف على عمل لهم في أعلى من ذلك.

قال العلائي في «جامع التحصيل» (ص:103-104): وقال صالح جزرة: سمعت الهيثم بن خارجة يقول: قلت للوليد بن مسلم: قد أفسدت حديث الأوزاعي، قال: وكيف؟ قلت: تروي عنه عن نافع، وعنه عن الزهري، وعنه عن يحيى يعني: ابن أبي كثير وغيرك يُدْخل بين الأوزاعي ونافع عبدَالله بن عامر الأسلمي، وبينه وبين الزهري قرة، فما يحملك على هذا؟ قال: أنبل الأوزاعي؛ بأن يروي عن مثل هؤلاء؟ قلت: فإذا روى الأوزاعي عن هؤلاء المناكير، وهم ضعفاء؛ فأسقطتهم، أنت، وصيَّرْتَها من رواية الأوزاعي عن الأثبات، ضعف الأوزاعي، فلم يلتفت إلى قولي، اهـ.

فأنت ترى أنَّ عمل الوليد لم يتجاوز إسقاط شيخ الأوزاعي.

§ الثالث من الأمور التي حملتني على تغيير الجواب الأول -:

أن الأمثلة التي مثل بها أهل العلم في تدليس التسوية حسب علمي لا تخرج عن ذلك، فمن ذلك ما جاء في «العلل» لابن أبي حاتم الرازي (2/154-155) برقم (1957)، قال: سمعت أبي وذكر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهوية عن بقية قال: حدثني أبو وهب الأسدي، قال: حدثنا نافع عن ابن عمر، قال: «لا تحمدوا إسلام المر» حتى تعرفوا عقدة رأيه»، قال أبي: هذا الحديث له علَّة، قلَّ من يفهمها، روى هذا الحديث عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن أبي فروة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعبيدالله بن عمرو كنيته «أبو وهب»، وهو أسدي، فكأنّ بقية بن الوليد كنّى عبيدالله بن عمرو، ونسبه إلى بني أسد؛ لكيلا يفطن به، حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فروة من الوسط، لا يهتدي له، قال: وكان بقية من أفعل الناس لهذا، وأما ما قال إسحاق في روايته عن بقية عن أبي وهب: حدثنا نافع؛ فهو وهم.

غير أن وجهه عندي: أن إسحاق لعله حفظ عن بقية هذا الحديث، ولما يفطن لما عمل بقية من تركه إسحاق من الوسط، وتكنيته عبيدالله بن عمرو، فلم يفتقد (لفظ) بقية في قوله: حدثنا نافع أو عن نافع، اهـ.

وقد ساق الخطيب كلام أبي حاتم هذا بالإسناد إليه، ثم قال: وقول أبي حاتم كلُّه في هذا الحديث صحيح، وقد روى الحديث عن بقية كما شرح، قبل أن يغيره ويدلسه لإسحاق…، ثم ساق سنده إلى موسى بن سليمان، قال: ثنا بقية، قال: ثنا عبيدالله بن عمرو، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة، عن نافع عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا تعجبوا لإسلام امرئ حتى تعرفوا عقدة عقله». اهـ من «الكفاية» (ص:519-520).

وقد ذكر الإمام ابن رجب الحنبلي يرحمه الله عدة أحاديث يمثِّل بها على تدليس التسوية؛ لم يتجاوز فيها عمل المدلسين طبقة شيوخ شيوخهم، انظر «شرح علل الترمذي» (2/825-828).

وكذلك ذكر الحافظ ابن حجر يرحمه الله أمثلة تدل على ذلك، انظر «النكتب على ابن الصلاح» (2/618-620).

§ الرابع: من الأمور التي حملتني على تغيير الجواب الأول -:

صنيع الحافظ ابن حجر يرحمه الله، يدل على أنه يُكتفى من مدلس تدليس التسوية؛ أن يصرح بالسماع من شيخه، وأن يصرح شيخُه بالسماع من شيخه:

·       جاء في «النكت على ابن الصلاح» (1/293): الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري، قال الحافظ: واشتمل حديث الأوزاعي على زيادة على حديث ابن عيينة، توقف الحكم بصحتها على تصريح الوليد بسماعه من الأوزاعي، وسماع الأوزاعيمنالزهي؛ لأنَّ الوليد بن مسلم من المدلسين على شيوخه، وعلى شيوخ شيوخه، اهـ.

·       وفي (455-458) ما حاصله: أن الوليد بن مسلم، قال: ثنا أبو عمرو الأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -…، فذكر الحديث في النهي عن التسمية بـ «الوليد»، قال الحافظ: وقد صرحت رواية بشر بن بكر بسماع الأوزاعي له من الزهري فأُمن ما يُخشى من أن الوليد بن مسلم دلس فيه تدليس التسوية، اهـ.

·       وفي «نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار» (2/357-358).

من رواية بقية بن الوليد بن مسلم بن زياد، قال: سمعت أنس بن مالك… فذكر حديثاً، قال الحافظ: وبقية صدوق، أخرج له مسلم، وإنما عابوا عليه التدليس والتسوية، وقد صرح بتحديث شيخه له، وبسماع شيخه، فانتفت الريبة، اهـ، وانظر أيضاً (1/117-118).

·       وفي «التلخيص الحبير» (2/86) برقم (594) رواية بقية: ثني يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه رفعه -: «من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أو غيرها؛ فليضف إليها أُخرى، وقد تمت صلاته…»، قال الحافظ: إن سلم من وهم بقية؛ ففيه تدليس التسوية؛ لأنَّه عنعن لشيخه…، اهـ مع أن بقية الإسناد بالعنعنة أيضاً، ولم يعرج على ذلك.

·       وفي «موافقة الخُبر الخَبر من تخريج أحاديث المختصر» (1/98-99) رواية الوليد بن مسلم: ثنا الأوزاعي: ثني عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة…؛ فذكر حديثاً.

قال الحافظ: وإسناده على شرط الصحيح، فقد صرح الوليد فيه بالتحديث له ولشيخه؛ فأُمن التدليس والتسوية…، اهـ مع أن بقية الإسناد بالعنعنة.

·       وفي (1/276) رواية بقية: عن مسلم بن خالد الزنجي، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر…؛ فذكر حديثاً.

قال الحافظ: هذا حديث غريب، تفرد به بقية عن مسلم وهو ابن خالد الزنجي الفقيه المكي -، وهو صدوق؛ في حفظه مقال، وبقية صدوق، لكن يدلس ويسوي، وقد عنعنه عن شيخه وعن شيخ شيخه، اهـ، هذا مع أنَّ السند مسلسل بالعنعنةمنبقية إلى ابن عمر رضي الله عنهما -.

·       وفي (1/400) رواية بقية: ثنى الزبيدي: ثنى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده…؛ فذكر حديثاً، قال الحافظ: وأخرجه أحمد عن عبدالجبار بن محمد عن بقية، فوقع لنا بدلاً عالياً، ووقع عنده معنعناً، فتوقف فيه بعضهم لذلك، وقد زال بهذه الروايةمنتدليس بقية وتسويته، اهـ.

·       وفي «الفتح» (2/463) الحديث رقم (973) ك/ العيدين، ب/ حمل العنزة… رواية الوليد: ثنا أبو عمرو هو الأوزاعي قال: أخبرني نافع عن ابن عمر… فذكر حديثاً، قال الحافظ: والوليد المذكور هنا هو ابن مسلم، وقد صرح بتحديث الأوزاعي له، وبتحديث نافع للأوزاعي، فأمن تدليس الوليد وتسويته، اهـ مع أن نافعاً عنعن عن ابن عمر، ولم يُعلَّه بذلك.

·       وفي «النكت الظراف على الأطراف» (7/420) رواية بقية عن الوضين بن عطاء، عن محفوظ بن علقمة، عن عبدالرحمن بن عائذ الأزدي الشامي، عن علي؛ بحديث: «العينان وكاء السَّه، فمن نام؛ فليتوضأ»، وهذه الرواية أخرجها أبو داود وابن ماجه، كما ذكر المزي في «تحفة الأشراف».

قال الحافظ في حاشية «التحفة»: حديث: «العينان وكاء السَّه؛ قلت: أخرجه إسحاق في «مسنده» عن بقية: ثنا الوضين: ثني محفوظ، فأُمن تدليسه وتسويته، ا هـ.

فهذه عدة مواضع من صنيع الحافظ ابن حجر يرحمه الله -؛ تدل على أن مدلس تدليس التسوية، إذا صرح بالسماع من شيخه، وذكر سماع شيخهمنشيخه، فإن هذا يجزئ، وتزول بذلك الريبة، ولو اعتنى باحث بجمع مثل هذه المواضع من كتب الحافظ يرحمه الله -؛ فأرجو أن يظفر بشيء كثير.

إلا أن هناك مواضع توهم اشتراط التصريح في جميع الطبقات، وهي:

·       ما جاء في «موافقة الخبر الخبر» (1/293) من رواية الوليد: ثنا الأوزاعي، قال: كتب إليّ قتادة عن أنس… فذكر حديثاً، قال الحافظ: وأعله بعضهم بعلتين: الأولى تدليس الوليد وتسويته، وليست بواردة؛ لأنه صرح بالتحديث، فانتفى التدليس، وبيّن أن رواية الأوزاعي عن قتادة مكاتبة، فانتفت تسويته، وقد صرح قتادة بالتحديث عن أنس لهذا الحديث وسماعه له منه كما سيأتي -، فانتفت التسوية… ثم ذكر العلة الثانية.

وقول الحافظ بعد ذكره تصريح قتادة بالتحديث عن أنس -: «فانتفت التسوية» مشكل؛ لأنه يدل بظاهره على اشتراط التصريح بالسماع أو نحوه إلى الصحابي، والمواضع السابقة عن الحافظ صريحة في عدم اعتبار ذلك؛ فلعل الحافظ قال ذلك لأن قتادة نفسه مدلّس، فلا بد أن يصرح بالسماع من شيخه، سواء كان في الإسناد إليه مدلس تدليس التسوية، أم لا، فلو كان قتادة غير مدلس لكان الإشكال معضلاً، ولو كان هذا الموضع مما يُحذر فيه من الوليد بن مسلم؛ فلماذا قال قبل ذلك: فانتفت تسويته؟ يعني الوليد، فهذا يدل على أن نهاية ما فعله الوليد في هذه الطبقة، بين الأوزاعي وقتادة فقط، يدلُّك على ذلك أن الحافظ قد مشَّى العنعنة في المواضع السابقة، لما كانت من غير المدلسين، وبهذا يلتئم كلام الحافظ يرحمه الله -، – أو يقال: يحمل المبهم على المفصل المفسر الصريح -، والله أعلم.

·       وفي (1/136-137) رواية الوليد بن مسلم: ثنا ثور بن يزيد: ثنا خالد بن معدان: ثنا عبدالرحمن بن عمرو، وحجر بن حجر قالا: أتينا العرباض بن سارية… فذكر حديثاً.

قال الحافظ: وهذا حديث صحيح رجاله ثقات، قد جود الوليد بن مسلم إسناده، فصرح بالتحديث في جميعه، ولم ينفرد به مع ذلك، اهـ.

فقوله: «فصرح بالتحديث في جميعه» يوهم أن هذا لازم للوليد في كل حديث يرويه، وإلا توقفنا فيه، ولكن هذا النص ليس صريحاً في اشتراط ذلك، فيحمل على ما سبق التصريح به من الحافظ نفسه، وأيضاً فلا شك أن التصريح بالسماع من التجويد للسند في الجملة ولا يلزم من عدمه العلة مطلقاً، والله أعلم.

·       وبنحو ما في الموضع الثاني من «موافقة الخبر الخبر» جاء في «فتح الباري» (2/318) رواية للوليد بن مسلم، وهي موجودة في «صحيح مسلم» (1/412) برقم (588) ك/ المساجد ومواضع الصلاة، ب/ ما يستعاذ منه في الصلاة، قال الوليد بن مسلم: ثني الأوزاعي: ثنا حسان بن عطية: ثنا محمد بن أبي عائشة، أنَّه سمع أبا هريرة…؛ فذكر حديثاً، قال الحافظ في «الفتح» بعد عزوه الحديث لمسلم -: وصرح بالتحديث في جميع الإسناد، اهـ وقد سبق الجواب على نحو ذلك.

هذا مع أن بعض العلماء قد يكتفي بمجرد تصريح الوليد بالسماع من شيخه؛ دون النظر إلى تسويته، وكذا في بقية، وقد فعل ذلك الحافظ ابن حجر نفسه، كما في «نتائج الأفكار» (1/483) وفي «معرفة الخصال المكفِّرة للذنوب المقدمة والمؤخرة» (ص:64)، وكذا في «بذل الماعون» (ص:197) الفصل السادس، ذكر الدليل على أن شهيد الطاعون ملتحق بشهيد المعركة. وخالف ذلك فاشترط السلامة من التسوية مع تصريح بقية بتحديث شيخه له، انظر «اللآلئ المصنوعة» (2/170) للسُّيوطي.

وممكن اعتمد الوليدَ إذا صرح عن شيخه: الحافظُ الذهبي؛ كما في «الميزان» (4/348) قال يرحمه الله: إذا قال الوليد: عن ابن جريج، أو عن الأوزاعي، فليس بمعتمد، لأنّه يدلس عن كذّابين، فإذا قال: «حدثنا»؛ فهو حجة، اهـ، وقد تعقبه، ابن الوزير في «تنقيح الأنظار»؛ فقال: قلت: ما تغني عنك «حدثنا الأوزاعي» إذا جاء بلفظ محتمل بعد الأوزاعي…، اهـ من «توضيح الأفكار» (1/375)، وممن يُمشيّ الحديث للوليد إذا صرح بسماعه من الأوزاعي: الإمام البيهقيُّ، انظر «السنن الكبرى» (4/354).

فهذه المواضع: إما أن تحمل على تساهل من هؤلاء الأئمة، وإما أن تحمل على أنَّهم ما كانوا يعلمون بتسوية الوليد وبقية، فلما علم بعضهم بذلك؛ توقف عن الحكم بصحة روايتهما؛ إلا بما يزيل الريبة، والله تعالى أعلم.

وقد صرح شيخنا الألباني حفظه الله بأنّه لا بد من تسلسل الإسناد كلّه بالتصريح بالسماع، إذا كان فيه مدلس تدليس التسوية، انظر «الصحيحة» (6/ القسم الأول/ ص332) برقم (2656)، ويُفهم هذا أيضاً من كلامه حفظه الله في «الصحيحة» (4/615-616) برقم (1969)، وانظر تصريحه أيضاً في «الضعيفة» (3/409-410/1253)، (4/312/1830).

إلا أنَّ شيخنا حفظه الله لعله تراجع عن اشتراط التصريح في الطبقات العليا، التي فوق شيخ شيخ المدلس؛ لأنني وجهت له سؤالاً لَمَّا متعني الله بالجلوس معه في عمان سنة 1416هـ – حول ذلك، فأجاب بما حاصله: أن التصريح بالسماع في الطبقتين السابق ذكرهما لازم، وما فوق ذلك على سبيل الاحتياط لا الإلزام، ارجع إلى الأشرطة المسجلة بيني وبين شيخنا حفظه الله -.

والذي تطمئن إليه نفسي في نهاية الجواب: أنَّه يكتفي بتصريح المدلس عن شيخه، وبتصريح شيخه عن شيخه، ولا نتوقف في صحة السند من أجل العنعنة فيما فوق ذلك؛ إلا إذا علمنا عن رجل بعينه أنه يُسقط في الطبقات العليا، أو كان في السند أو المتن نكارة، فالعلماء أحياناً يُعلَّون بعلل غير مطردة، بل ومستبعدة، كما ذكر العلامة المعلِّمي يرحمه الله في مقدمة تعليقه على «الفوائد المجموعة» (ص:8-9)؛ فالإعلال هنا بعلة محتملة من باب أولى، والعلم عند الله تعالى -.