أحياناً نقف على أسانيد ظاهرها الصحة، ثم نتوسع في البحث، فلا نقف على علة للحديث، إلاَّ أننا قد نقف على قول لأبي حاتم الرازي – مثلاً – كأن يقول: حديث منكر، فهل نحكم على الحديث بالنكارة، لقول أبي حاتم هذا، أم نحكم على الحديث بالصحة، لظاهر إسناده؟
مما لا شك فيه أنَّ الأئمة المتقدمين لهم فهم ثاقب، ومعرفة تامة بالحديث النبوي، وقد قال الحافظ في «النكت» (2/711) – أثناء كلامه على معرفة علل الحديث -: وهذا الفن أغمض أنواع الحديث، وأدقُها مسلكاً، ولا يقوم به إلامن منحه الله – تعالى – فهماً غايصاً، واطِّلاعاً حاوياً، وإدراكاً لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذّاقهم، وإليهم المرجع في ذلك؛ لِما جعل الله فيهم من معرفة ذلك؛ والاطلاع على غوامضه، دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك.
قال: وقد تقصر عبارة المعلِّل منهم، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأُخرى، كما في نقد الصيرفي سواء، قال: فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم – بتعليله -؛ فالأولى اتباعه في ذلك، كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه.
قال: وهذا الشافعي – مع إمامته – يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه، فيقول: وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث.
قال الحافظ: وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلَّل، وحيث يصرح بإثبات العلة، فأما إن وجد غيره صححه، فينبغي – حينئذٍ – توجه النظر إلى الترجيح بين كلامهما، وكذلك إذا أشار المعلّل إلى العلة إشارة، ولم يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين، فإن ذلك يحتاج إلى الترجيح، والله أعلم، اهـ.
وذكر الحافظ ما يدل على قوة نظر أئمة النقد، ثم قال: وبهذا التقرير يتبيّن عِظَمُ موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه…، اهـ (2/726).
ومن نظر في أحكام الأئمة المتقدمين على الأ؛اديث، علم صحة ما قال الحافظ ابن حجر – يرحمه الله تعالى -، وها أنذا أسوق بعض الأمثلة من أنواع العلل التي تدل على ذلك؛ ليعرفمنوقف على ذلك مكانتهم في هذا الفن وأن لديهم من الآلات التي تؤهلهم لذلك ما ليس عند غيرهم، كل هذا لتطمئن نفسه إن أخذ بقولهم؛ فمن ذلك:
1 – ما جاء في «العلل» للرازي (1/32/60): سألت أبي عن حديث رواه ابن عيينة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال، عن عمار، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تخليل اللحية، قال أبي: لم يحدث بهذا أحد سوى ابن عيينة، عن ابن أبي عروبة، قلت: صحيح؟ قال: لو كان صحيحاً لكان في مصنفات ابن أبي عروبة، ولم يذكر ابن عيينة في هذا الحديث، وهذا أيضاً مما يوهَّنه، اهـ.
والذي يظهر أن في الكلام سقطاً، وصوابه: «ولم يذكر ابن عيينة الخبر في هذا الحديث»، أي: لم يقل: «أخبرنا»، وابن عيينة قد يدلس، والله أعلم.
وإعلال الأئمة بعض الأحاديث عن بعض الرواة؛ لعدم وجودها في مصنفات هؤلاء الرواة؛ أمر مشهور، كما في «العلل» أيضاً (1/170/487)، (1/408/1224)، (1/420/1264)، والإعلال بذلك يتم إذا نظر الإمام في جميع كتب الراوي، أما مجرد النظر في بعضها؛ فلا يكفي.
ويدل على ذلك ما جاء في «العلل» (1/136-137/378): سمعته أبي يقول: سألت يحيى بن معين، وقلت له: حدثنا أحمد بن حنبل بحديث إسحاق الأزرق عن شريك، عن بيان، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «أبردوا بالظهر» وذكرته للحسن بن شاذان الواسطي، فحدثنا به، وحدثنا أيضاً، عن إسحاق، عن شريك، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمثله، قال يحيى: ليس له أصل، إنّما نظرت في كتاب إسحاق، فليس فيه هذا، قلت لأبي: فما قولك في حديث عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي أنكره يحيى؟ قال: هو عندي صحيح، وحدثنا به أحمد بن حنبل – يرحمه الله – بالحديثين – جميعاً – عن إسحاق الأزرق، قلت لأبي: فما بالك يحيى نظر في كتاب إسحاق فلم يجده؟ قال: كيف؟! نظر في كتابه كله؟! إنما نظر في بعض، وربما كان في موضع آخر، اهـ.
وقد يستشكل البعضُ هذا النوع من الإعلال، ويقول: الحديث وإن لم يكن في كتاب الراوي؛ فلعله قد حدَّث به تلميذَه من حفظه، وليس كل حديث الراوي يكون في كتبه!.
فالجواب: أن الأئمة وقفوا على ما لم نقف عليه، وهم أهل الشأن الذين عليهم المعوَّل في ذلك، أضف إلى ذلك أن الراوي إذا صنف كتاباً في الصلاة – مثلاً -، ثم بوَّب باباً، واحتج لهذا الباب بآثار موقوفة على صحابي أو تابعي، ثم جاء أحد الرواة وروى عن هذا المصنَّف؛ ففي هذه الحالة يتجه أن يُقال: لو كان هذا الحديث عند فلان لأدخله في كتابه، أو بادر بالاحتجاج به، ولم يحتجْ إلى ما ذكر من آثار.
وقد يُقال: لعل العلماء قد اشتهر عندهم أن فلاناً قد جمع كل حديثه في كتابه، وما ليس في كتابه؛ فليس من حديثه، كلّ هذه الوجوه تجعلنا نسلِّم بكلام الإمام منهم؛ لأنَّ مثل هذا الاعتراض السابق؛ لا يخفى على الأئمة، وإذا كان لا يخفى على الطالب؛ أنَّ حديث بعض الرواة: منه ما هو في صدره، ومنه ما هو في كتابه، فكيف يخفى ذلك على جهابذة هذا الفن، وفرسان هذا العلم؟!.
ولما رأيناهم لا يرد بعضهم على بعض بهذا الاعتراض، تعيّن الوقوف عند قولهم، والله أعلم.
2 – إعلالهم بعض الأحاديث، باحتمال دخول حديث في حديث على بعض الرواة، أو أن الراوي نقل إسناداً لحديث، ثم انتقل بصره إلى متن الحديث الذي يليه، وكل هذا فرع عن وقوف الأئمة على أصول الرواة وكتبهم، ومن أين للمتأخر مثل ذلك؟!
فمن ذلك:
– ما جاء في «العلل» للرازي (1/77/207): سألت أبي، عن حديث رواه هشام بن إسماعيل، عن محمد بن شعيب بن شابور، عن عبدالله بن العلاء بن (زبْر)، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أنَّه صلى فترك آية، فلما انصرف؛ قال: «أفيكم أُبيّ؟» – وذكر الحديث -.
– قال أبي: هذا وهم، دخل لهشام بن إسماعيل حديث في حديث، نظرت في بعض أصناف محمد بن شعيب، فوجدت هذا الحديث رواه محمد بن شعيب، عن محمد بن شعيب، عن محمد بن يزيد البصري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: صلّى فترك آية، هكذا مرسل، ورأيت بجنبه حديث عبدالله بن العلاء، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه سئل عن صلاة الليل، فقال: «مثنى ثمنى، فإذا خشيت الصبح…»، فعلمت أنه سقط على هشام بن إسماعيل متن حديث عبدالله بن العلاء، وبقي إسناده، وسقط إسناد حديث محمد بن يزيد البصري، فصار متن حديث محمد بن يزيد البصري بإسناد حديث عبدالله بن العلاء بن (زَبْر)، وهذا حديث مشهور يرويه الناس عن هشام بن عروة.
فلما قدمْتُ السفرة الثانية، رأيت هشام بن عمار يحدث به عن محمد بن شعيب، فظننت أن بعض البغداديين أدخلوه عليه، فقلت له: يا أبا الوليد! ليس هذا من حديثك، فقال: أنت كتبت حديثي؟ فقلت: أما حديث محمد بن شعيب؛ فإنّي قدمت عليك سنة بضعة عشر، فسألتني أن أخرج لك مسند محمد بن شعيب، فأخرجتَ إليّ حديث محمد بن شعيب، فكتبتُ لك مسنده، فقال: نعم، هي عندي بخطك، قد أعلمت الناس أنَّ هذا بخط أبي حاتم، فسكت. اهـ، ولا يسلم هذا النصمنتصحيف، والله أعلم، وبنحو ذلك انظر (2/226/2165).
فتأمل كيف عرف أبو حاتم هذه العلة، وهل يستطيع باحث اليوم – مهما كان واسع الاطلاع – أن يعرف مثل هذه العلة، ولم يقف على أصول الرواة؟
3 – وقد يشعر أحدهم بنكارة الحديث، وليس معه دليل على النكارة، فيبقى حريصاً على معرفة ذلك، وقد يقف على دليل هذه النكارة، وقد لا يتيسر له ذلك، لكن الإمام منهم؛ لطول اشتغاله بالحديث النبوي، وكثرة ملازمته ومذاكرته للأئمة، أصبح قادراً على معرفة كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كلام غيره، فمن ذلك:
– ما جاء في «العلل» للرازي (1/89/239): سألت أبي عن حديث رواه أبو غسان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من صلى الصلوات الخمسَ، فأتمَّ ركوعها، كان له عند الله عهدٌ أن لا يعذِّبه»، قال أبي: سمعت هذا الحديث عن عبادة منذ حين، وكنتُ أُكره، ولم أفهم عورته، حتى رأيته الآن: أخبرنا أبو محمد بن أبي حاتم قال: حدثنا أبو صالح، عن الليث، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن عبادة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول… فعلمت أن الصحيح هذا، وأن محمد بن مطرف لم يضبط هذا الحديث، وكان محمد بن مطرف ثقة، اهـ.
– وفي (1/164/466): قال أبي: ذاكرت أبا زرعة بحديث رواه عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن المغيرة بن شعبة أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا سلّم من الصلاة؛ قال: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» قال: فقلت: قد رابني أمر هذا الحديث؛ لأنَّ الناس يروونه عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسح على الخفين، فتابعني – أي: أبو زرعة – على ما رابني، ورابه نحو ذلك، حتى ذاكرني بعض أصحابنا عن بعض المدنيّين، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن المغيرة – كما رواه عبدة – غير أن ذلك لم يستقر بعد عندي، اهـ.
– وفي (2/129/1879) ذكر حديثاً، ثم قال ابن أبي الثلج: كنا نذكر هذا الحديث ليحيى بن معين سنتين – أو ثلاثة -، فيقول: هو باطل، ولا يدفعه بشيء، حتى قدم علينا زكريا بن عدي، فحدثنا بهذا الحديث عن عبيدالله بن عمرو عن إسحاق بن أبي فروة، فأتيناه، فأخبَرَناه، فقال: هذا بابن أبي فروة أشبه منه بعبيدالله بن عمرو، اهـ.
فتأمل كيف أنَّ يحيى كان يحكم عليه بالبطلان سنتين – أو ثلاثاً -، ولا يذكر دليلاعلى قوله، ثم ظهر الدليل مؤيِّداً ما قاله ابن معين، مما يدلك على صحة نقد هؤلاء الأئمة.
– وفي (2/270/2307): سألت أبي عن حديث رواه ابن أبي عمر العدني، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن أبي خداش، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المملوكين -: «… أطعموهم مما تأكلون…»؛ الحديث، قال أبي: لم يكن هذا الحديث عند الحميديُ، ولا عند علي بن المدينيِّ، ولم نجدْه عن أحد من أصحاب ابن عُيينة، قال أبي: ولم أزل أفتش عن هذا الحديث – وهمني جداً -، حتى رأيته في موضع، عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن إبي خداش عن ابن عباس – موقوفاً -، فقلت: إنَّ رفعه ليس له معنى، والصحيح موقوف.
وقد كان رواه ابن جريح، عن إبراهيم بن أبي خداش، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه قال: «نعم المقبرة؛ هذه» يعني: مقبرة مكة، قال أبي: فلم يُعرف بذا الإسناد إلا هذا وحده، حتى كتبت عن ابن أبي عمر ذلك الحديث، اهـ.
– وفي (2/312/2451) ذكر حديثاً، ثم قال أبو حاتم: هذا الحديث من فضل الأعرج، وفاتني من أحمد، وأنكرته في نفسي، وكان يقع في قلبي أنَّه أبو وهب الكلاعي صاحب مكحول – أي: ليس أبا وهب الجشمي الصحابي؛ المذكور في الحديث -، وكان أصحابنا يستغربون – أي: يعدونه غريباً ويستحسنونه -، فلا يمكنني أن أقول شيئاً، لما رواه أحمد.
ثم قدمت حمص، فإذا قد حدثنا ابن المصفى عن أبي المغيرة، قال: حدثني محمد بن مهاجر، قال: حدثني عقيل بن سعيد، عن أبي وهب الكلاعي، قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم…، قال أبو حاتم: فعلمت أنَّ ذلك باطل، وعلمت أنَّ إنكاري كان صحيحاً.
وأبو وهب الكلاعي هو صاحب مكحول الذي يروي عن مكحول، واسمه عبيدالله بن عبيد، وهو دون التابعين، يروي عن التابعين، وضرْبه مثل الأوزاعي ونحوه، فبقيت متعجباً من أحمد بن حنبل، كيف خفي عليه؟ فإني أنكرته حين سمعت به، قبل أن أقف عليه… اهـ.
فتأمل هذا الإمام الهمام، الذي أصبح قلبه ميزاناً للسُّنَّة، فإذا أنكر قلبه حديثاً، بقي مهموماً حتى يعرف علته، فيُفَرَّج عنه! فهل نستطيع اليوم أن نكون كذلك؟!.
4 – وأحياناً يُعِلُّون الحديث؛ لأنّه خلاف المشهور عندهم، وإن كان السند كالشمس وضوحاً؛ كما في «العلل» للرازي (1/274/808): سألت أبي عن حديث رواه أبو عامر العقدي، عن حماد بن سلمة، عن منصور بن شيبة، عن أُمه، عن عائشة، قالت: «كان لا يوضع حَجَر على حجر بمنى، إلا أ، يتخذ الرجل كنيفاً»، قال أبي، حدثنا أبو سلمة، قال: حدثنا حماد عن منصور عن أمّه، قالت: كان (قولها) بلا عائشة، قال أبي: هذا الحديث عن منصور عن أمه أشبه عندي، ومتن الكلام مشهور عن عائشة، اهـ.
فالإمام قد يحكم على إسناد – ما – بالنكارة لمخالفته المشهور عندهم، وقد يشتهر عندهم ما لا يشتهر عندنا، فإذا تعقَّبْنا كلامهم بمجرد ظاهر الإسناد، كان تعقبنا في غير محله، فإن قيل: يلزم من ذلك ضياع بعض الدين، والله – عزّ وجلّ – قد تكفل لنا بحفظ الدين، فقال: (إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِكَر وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ)!.
قلت: قد – حفظ الله – لنا ما فاتنا من الأسانيد؛ بحكم هؤلاء العلماء على السند بالنكارة؛ لمخالفته المشهور عندهم، فلم يفُتْنا شيء من ديننا الذي نحتاج إليه، والحمدلله رب العالمين.
5 – وكذلك فالأئمة المتقدمون قد ينظرون إلى مذهب الراوي وروايته، وقد يُعلُّون بعض الروايات إذا كانت خلاف ما يفتي به الراوي، وهذا محمول على أن الحديث لا يصح إلى ذلك الراوي، أو أنهم تأكدوا من دخول الحديث على الراوي، كما في «العلل» للرازي (1/422/1271): سألت أبي عن حديث رواه حماد بن خالد الخياط، عن هشام بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: «لا طلاق إلا بعد نكاح»، قال أبي: هذا حديث منكر، وإنما يروى عن الزهري أنّه قال: ما بلغني في هذا رواية عن أحد من السلف، ولو كان عنده عن عروة عن عائشة، كان لا يقول ذلك، اهـ. وانظر «العلل» (2/30/1566).
6 – وقد يستنكرون الحديث عن أحد الرواة؛ لعلمهم أن هذا الراوي لا يروي شيئاً في هذا الباب، كما جاء في «العلل» (1/370/1097): سألت أبي عن حديث رواه المحاربي، عن إبراهيم بن الفضل، عن سالم الأفطس، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من قال لا إله إلا الله؛ فصلّوا عليه، وصلوا وراءه»، قال أبي: هذا حديث منكر، لا أعلم لسالم حديثاً مسنداً – يعني: في هذا الباب -، اهـ.
7 – معرفة الأئمة للراوي كيف وأين أخذ الحديثمنشيخه، فمن ذلك:
ما جاء في «العلل» للرازي (1/317/951): سألت أبي عن حديث رواه سعدان، عن يونس، عن الزهري، عن قبيصة، عن ذؤيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «يوشك أقصى مسالح المسلمين بسلاح…»، قال أبي: الموقوف أشبه، قلت: وما تنكر أن يكون سمع منهما، قال: أنكر، فإن لا يحتمل أن يكون هذا من حديث قبيصة وسعدان، أرى أنه سمع من يونس بمكة أو المدينة، ويونس لم يكن معه كتبه، قال وكيع: رأيت يونس بن يزيد بمكة، فجهدتُ أن يقيم لي إسناد حديث لم يقمه، فترى أن سعدان سمع منه بمكة؛ لأنَّ حديثه وحديث أبي ضمرة وسليمان بن بلال وطلحة بن يحيى متقارب، اهـ، فتأمل هذا الفهم العجيب، وسل الله – عزّ وجلّ – أن يقسم لك من هذا بنصيب، ومن ذلك إعلال البخاري حديث الجمع بين الصلاتين، لأَن قتيبة كتبه في حضور المدائني، وكان ممن يدخل على الشيوخ، وانظر رقم (9) الآتي بعد قليل.
8 – وقولهم: هذا الحديث يشبه كلام الحسن البصري – مثلاً – وليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، انظر «شرح علل الترمذي» لابن رجب (2/861) وما بعدها. وعمدتهم في ذلك سعة الاطلاع، وتتبع مراحل الحديث، وأنَّ الراوي قديماً كان يرويه على الوجه الفلاني، ثم رواه على وجه آ×ر، كما في «العلل» (2/99/1791).
9 – ومن ذلك ما قاله العلامة المعلمي – يرحمه الله -: إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة؛ فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقاً حيث وقعت، أعلّوه بعلة ليست بقادحة مطلقاً، ولكنهم، يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر، فمن ذلك: إعلاله بأنَّ راويه لم يصرح بالسماع، هذا مع أن الراوي غير مدلس، أعل البخاري بذلك خبراً رواه عمرو بن أبي عمرو – مولى المطلب -، عن عكرمة، تراه في ترجمة عمرو من «التهذيب»، ونحو ذلك كلامه في حديث عمرو بن دينار، في القضاء بالشاهد واليمين، ونحوه أيضاً كلام شيخه علي بن المديني في حديث: «خلق الله التربة يوم السبت… إلخ»، كما تراه في «الأسماء والصفات» للبيهقي، وكذلك أعل أبو حاتم خبراً رواه الليث بن سعد عن سعيد المقبري، كما تراه في «علل ابن أبي حاتم» (2/353) – برقم (2579) – ونم ذلك إشارة البخاري إلى إعلال حديث الجمع بين الصلاتين، بأن قتيبة لما كتبه عن الليث كان معه خالد المدائني، وكان خالد يُدخل على الشيوخ، يُراجع «معرفة علوم الحديث» للحاكم (ص:120).
قال: ومن ذلك الإعلال بالحَمْل على الخطأ، وإن لم يتبين وجهه، كإعلالهم حديث عبدالملك بن أبي سليمان في الشفعة، ومن ذلك إعلالهم بظن أن الحديث أٌدخل على الشيخ، كما ترى في «لسان الميزان» في ترجمة الفضل بن الحباب وغيرها.
وحجتهم في هذا أنَّ عدم القدح بتلك العلة مطلقاً، إنّما بُني على أن دخول الخللمنجهتها نادر، فإذا اتفق أن يكون المتن منكراً، يغلب على ظن الناقد بطلانه، فقد يحقق وجود الخلل، وإذْ لم يوجد سبب له إلا تلك العلة، فالظاهر أنها هي السبب، وأنَّ هذا من ذاك النادر الذي يجيء الخلل فيه من جهتها، وبهذا يتبيّن أنَّ ما يقع ممن دونهم من التعقب، بأنَّ تلك العلة غير قادحة، وأنَّهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث، مع وجودها فيها، إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق، اللهم إلا أن يُثْبِتَ المتعقِّب أنَّ الخبر غير منكر. اهـ.
فمما سبق يتضح أهمية الرجوع لكلام العلماء في هذا العلم، وقد قال ابن رجب – يرحمه الله – في «شرح علل الترمذي» (2/861): حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص، يفهمون به أنَّ هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك، وهذا مما لا يُعبَّر عنه بعبارة تحصرهُ، وإنّما يُرجع فيه إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خُصّوا بها عن سائر أهل العلم… أهـ.
فإذا رأينا إسناداً مسلسلاً بالثقات، ورأينا العلماء يطعنون في هذا السند، فإن صرحوا بالعلة؛ فذاك، وإن لم يصرحوا بالعلة؛ فإعمال قولهم مقدم على مجرد ظاهر الإسناد، إلا أن يكون المقصود من كلام أحدهم تضعيف أحد رواة السند، ووقفنا على من وثقه، فنرجع بين كلام الأئمة حسب قواعد هذا الفن، فإن رجحنا عدالة الراوي؛ احتججنا بحديثه، وإلا فلا.
إلا أنني أريد أن أكشف النقاب عن مسألة طالما زلّت فيها أقدام بعض طلبة العلم، وذلك أن كلام الأئمة المتقدمين في إعلال كثير من الأحاديث، قد يكون مقيداً بإسناد بعينه، مع أن عبارة الإمام منهم قد تكون مطلقة، فيظن من وقف على ذلك، أنهم يُعلّون الحديث من جميع طرقه، ثم يتعقب من صحح الحديث – لوقوفه على أسانيد تقوي الحديث -؛ مستدلاً بأن فلاناً من الأئمة قد ضعّف هذا الحديث.
والصواب في ذلك: أن ننظر في كلام الأئمة المتقدمين، فإن اتفقوا على ضعف الحديث وعدم الاحتجاج به، تركناه، وإن اختلفوا في تصحيحه وإعلاله، رجحنا بينهم حسب قواعدهم – كما سبق -، من كلام الحافظ وإن تكلم أحدهم في الحديث وطعن فيه، وأمكن حمل كلامه على سند بعينه؛ فذاك، وإن لم يمكن حمل كلامه على سند معين، وظهرت قرينة تدل على أنه يحكم بالنكارة أو البطلان على الحديث كله؛ فلا نستطيع أن نخالفه في ذلك، والسلامة في لزوم غرز العلماء، والله أعلم.
فإن قيل: إن العلماء إذا أطلقوا النكارة، فإنهم يقصدون بذلك الحديث كلّه، لا مجرد السند.
فالجواب: أنَّ هذا الإطلاق من قائله، كلام من لا يعرف صنيع أهل العلم, والأمثلة في رد هذا الإطلاق كثيرة، فمن ذلك: ما جاء في «العلل» للرازي (1/131/362): سئل أبي عن حديث رواه نوح بن حبيب، عن عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنما الأعمال بالنيات»، قال أبي: هذا حديث باطل لا أصل له، إنما هو مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص عن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اهـ.
فأنت تراه قال: «هذا حديث باطل لا أصل لهُ» وهو يعني الإسناد الذي جعل الحديث من مسند أبي سعيد، وصحح الحديث من مسند عمر-.
وكما حكم أبو حاتم على حديث «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن؛ فهي خداج غير تمام»؛ بأنّه حديث منكر جداً، انظر «العلل» (1/155/437)، مع أن الحديث صحيح من غير الطريق التي في «العلل»، وكما في (1/313/940): سئل أبو حاتم على حديث: إن الله – عزّ وجلّ – كتب الغيرة على النساء، والجهادَ على الرجال…؛ الحديث في قصته، قال أبو حاتم: هذا حديث منكر، وقال مرة أُخرى: هذا حديث موضوع بهذا الإسناد، اهـ.
وفي (1/359/1063) قال أبو حاتم في حديث النياحة: هذا حديث منكر، قال ابنه: يعني: بهذا الإسناد، اهـ.
وفي (1/362/1071) قال أبو حاتم في حديث: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تجاوزكم أو توضع»: هذا حديث باطل، قال ابنه: يعني: هذا الإسناد، اهـ.
وفي (1/366/1081) قال في حديث: «أ:ثر عذاب القبر من البول»: هذا حديث باطل، قال ابنه: يعني: (مرفوعاً)، اهـ.
وهناك أمثلة كثيرة للعلماء يطلق أحدهم الإعلال، وهو يريد سنداً بعينه، أو كلمة في المتن دون بقية المتن، فلا يتجه – مع هذا – أن يقال: لا نلتفت إلى الأسانيد الصحيحة السالمة من العلة؛ لمجرد استنكار أحد الأئمة، لاحتمال أنَّ إطلاقهُ النكارةمنالعام الذي يراد به الخاص، والله أعلم.
(تنبيه):
شاع عند كثير من طلبة العلم أن مثل الحافظ ابن حجر – يرحمه الله -، أو ما يسمونهم بـ «المتأخرين» – لا يتقيدون بقواعد الأئمة المتقدمين في إعلال الروايات، وهذا الإطلاق في غير محله، فالمتأخرون يخدمون مذاهب المتقدمين، ولا يهدمونها، ومن الأدلة على ذلك، أنهم يرد بعضهم على بعض مستدلين بصنيع المتقدمين، ومن الأمثلة الدالة على وقوفهم عند كلام المتقدمين، ما جاء في «التلخيص الحبير» للحفاظ (2/264) برقم (789) قال:
وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حثى من قبل الرأس ثلاثاً»، وقال أبو حاتم في «العلل»: هذا حديث باطل، قال الحافظ: قلت: إسناده ظاهره الصحة:
قال ابن ماجه: حدثنا العباس بن الوليد: ثنا يحيى بن صالح: ثنا سلمة بن كلثوم: ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت، فحثى عليه – من قبل رأسه – ثلاثاً، ليس لسلمة بن كلثوم في «سنن ابن ماجه» وغيرها إلا هذا الحديث الواحد، ورجاله ثقات، وقد رواه ابن ([1])أبي داود في كتاب «التفرد» له من هذا الوجه، وزاد في المتن، أنَّه كبّر أربعاً، وقال بعده: ليس يروي في حديث صحيح، أنّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كبر على جنازة أربعاً إلا هذا، فهذا حكم منه بالصحة على هذا الحديث، لكن أبو حاتم إمام لم يحكم عليه بالبطلان، إلا بعد أن تبين له، وأظن: العلّة فيه عنعنة الأوزاعي، وعنعنة شيخه، وهذا كله إن كان يحيى بن صالح هو الوحاطي شيخ البخاري، والله أعلم، اهـ، فتأمل إجلاله لقول أبي حاتم، والتماس المخرج له، مع أنَّه قد خولف.
فهل يقال بعد ذلك: إن المتأخرين لا يرفعون رأساً بإعلال المتقدمين؟ ولو ذهبتُ ألتمس أدلة لذلك الظفرت بأدلة كثيرة من كلام المتأخرين، ويكفي ما سبق من كلام الحافظ في أول هذا الجواب، ولكن المتعقَّب عليهم قد يفوته ما سبق التنبيه عليه؛ أنَّ من كلام العلماء ما هو عام أريد به الخصوص، أو يكون في المسألة خلاف بين المتقدمين، اطلع عليه مثل الذهبي وابن حجر – لسعة اطلاعهما – فاحتاجا إلى الترجيح، ولم نطلع عليه نحن، فتعجلنا برمي العلماء بمخالفة مذهب المتقدمين، وأوغرنا صدور الأحداث على الأئمة الحفاظ، وقد يجتهد المتأخر فيخطئ، وكفى المرء نبلاً أن تعدَّ معايبه.
أما أن نُوهم طلبة العلم: أنَّنا أعرف وأفهم بصنيع المتقدمين من الذهبي وابن حجر ومن جرى مجراهما؛ فإنّها – وربِّي – آبدة من الأوابد، والله المستعان.
([1]) كذا، والمعروف أن كتاب «التفرد» لأبي داود، والله أعلم.