الأسئلة الحديثية

ما حكم الاحتجاج بالرواية التي فيها تدليس الإسناد ؟

ما حكم الاحتجاج بالرواية التي فيها تدليس الإسناد ؟

اختلف العلماء في رواية المدلِّس قبولاً وردًّا ، على أقوال كثيرة ، أشهرها :

القول الأول : قالوا: خبر المدلس غير مقبول؛ لأن التدليس يتضمن الإيهام بخلاف الحقيقة، وترك تسمية من لعله غير مرضي ولا ثقة ، وقد قال بهذا القول فريق من الفقهاء وأصحاب الحديث، انظر “الكفاية” (3).

القول الثاني : وقال خلق كثير من أهل العلم: خبر المدلس مقبول؛ لأنهم لم يجعلوه بمثابة الكذاب ، ولم يروا التدليس ناقضًا لعدالته ، وذهب إلى ذلك جمهور من قَبِلَ المراسيل من الأحاديث، وزعموا أن نهاية أمره أن يكون التدليس بمعنى الإرسال، انظر “الكفاية” (4) .

القول الثالث : وهناك من فصَّل في ذلك ، وتفصيل العلماء راجع إلى عدة اعتبارات :

1- ما عزاه ابن عبد البر لأكثر أئمة الحديث من التفصيل: فمن كان لا يدلس إلا عن ثقات؛ كان تدليسه عند أهل العلم مقبولاً، وإلا فلا، قاله البزار، وصرح به أيضًا أبو الفتح الأزدي، وأشار إليه الصيرفي “شرح الرسالة” وجزم به ابن حبان وابن عبدالبر وغيرهما في حق سفيان بن عيينة (5) .

وقد يقول قائل: وكيف يُعتمد قبول رواية من لم يدلس إلا عن ثقة، ونحن قد رددنا توثيق المبهم ؟

فالجواب : أن هناك فرقًا بين قول العالم :” حدثني الثقة” وبين ما إذا سئل العالم عمن حذفه ، فسمى رجلاً ثقة عند الجميع، وابن عيينة قد أُوقف وسئل في أحاديث كثيرة، كان يعنعن فيها، فَيُسَمِّي الذي حدثه بها ، فيكون ثقة، وهذا لا شك أنه ليس من توثيق المبهم ، هذا ما يمكن أن يُعْتَذَر به عن تدليس ابن عيينة .

مع أنه لكن قد يقال: هل نستطيع أن نجزم بذلك في جميع عنعنة ابن عيينة ؟ والجواب: لا نستطيع أن نجزم بذلك، لكن قد يقال: لعل ذلك هو الأغلب ، والنادر يأخذ حكم الأغلب، إلا لقرينة أخرى، فيعمل بها في موضعها ، والله أعلم .

2- إن كان وقوع التدليس من المدلس نادرًا؛ قُبِلَتْ عنعنته ونحوها، وإلا فلا، وهو ظاهر جواب ابن المديني، فإن يعقوب بن شيبة قال: ” سألته عن رجل يدلس، أيكون حجة فيما لم يَقُلْ فيه : حدثنا ؟ فقال: إذا كان الغالب عليه التدليس فلا ، حتى يقول : ” حدثنا ” اهـ (1) .

3- وهو قول الأكثر من أئمة الحديث والفقه والأصول: أنهم قبلوا من حديث المدلسين ما صرحوا فيه بالسماع ونحوه ، ومالم يصرحوا فيه بذلك لم يقبلوه .

وممن ذهب إلى إطلاق هذا التفصيل : الشافعي، وابن معين ، ونسبه العلائي لجمهور أئمة الحديث والفقه والأصول (2) .

وصحح هذا المذهب كل من الخطيب (3) وابن الصلاح (4) والحافظ ابن حجر (5) بل نفى ابن القطان الخلاف في ذلك،وعبارته: “إذا صرح المدلس الثقة بالسماع؛ قُبِلَ بلا خلاف، وإن عنعن؛ ففيه الخلاف”(6).

والخلاصة : أن الراجح من هذه الأقوال : اعتبار التفصيل .

ومن خلال ماسبق من كلام أهل العلم المفصِّلين في رواية المدلسين ؛ يظهر لنا : أن هناك من لم يلتفت إلى من قلَّ تدليسه ، وهناك من يرى أن تدليسه مرة واحدة كافٍ في التوقف في عنعنته .

قال الخطيب – رحمه الله ، وهو ممن يقف في عنعنة المدلس ، ولو مرة واحدة – :

فإن قيل : لم إذا عُرِف تدليسه في بعض حديثه ؛ وجَبَ حَمْل جميع حديثه على ذلك ، مع جواز ألا يكون كذلك ؟

قلنا : لأن تدليسه الذي بان لنا صَيَّر ذلك هو الظاهر من حاله ، كما أن من عُرِف بالكذب في حديث واحد؛ صَار الكذبُ هو الظاهر من حاله ، وسقط العمل بجميع حديثه ، مع جواز كونه صادقًا في بعضها ، فكذلك حال من عُرِف بالتدليس ، ولو بحديث واحد . . . “اهـ(1) .

ويمكن أن نلخص هذا المبحث فنقول: إن المدلس تُقْبل عنعنته في هذه الحالات :

الأولى : إذا صرح المدلس بالسماع عن الشيخ نفسه من طريق أخرى محفوظة؛دل ذلك على أن عنعنة لم يكن الإيهام فيها مقصودًا .

فإذا كان عندنا إسنادان: أحدهما فيه عنعنة مدلس، وآخر فيه تصريحه بالسماع عن شيخه، فلا نطلق القول بأن المدلس قد صرح بالسماع، وزالت علة تدليسه ، وإنما يُنْظَر في هذا السند الذي صرح المدلس فيه بالسماع: هل هو مرجوح، فيكون شاذًّا أو منكرًا، فلا يقبل، وتبقى العنعنة في حيز التوقف، أم هو راجح محفوظ ، فيقبل تصريحه بالسماع ، وتكون العنعنة خالية من الإيهام ؟ فلابد من التفرقة بين هاتين الحالتين .

الحالة الثانية : إذا كان ذلك الراوي مُقِلاًّ من التدليس، وهو كثير الروايات المتصلة، فلا يليق أن يُتوقَّف في حديث الرواي كله إذا لم يصرح بالتحديث من أجل تدليس نادر، إنما يُرَدُّ من حديثه ما ظهرت فيه نكارة، أو نحو ذلك ، وقد سبق كلام ابن المديني وغيره في هذا .

الحالة الثالثة : إذا كان لا يدلس إلا عن ثقة،وهذا يحتاج إلى نص من العلماء بذلك، كما جاء في حق ابن عيينة ، ولا أعلم غيره في هذا الباب ، وقد قال ابن حبان : ” . . . اللهم ألا يكون المدلس يُعْلَم أنه ما دلَّس قط إلا عن ثقة ، فإذا كان كذلك ؛ قُبِلَتْ روايته وإن لم يبيّن السماع ، وهذا ليس في الدنيا إلا لسفيان بن عيينة وحده ” اهـ (2) .

الحالة الرابعة : إذا كان المدلس مكثرًا عن أحد الشيوخ، وعُرِفَتْ ملازمته له، فتُمَشَّى عنعنته إذا عنعن عن هذا الشيخ ، لأن الفرض أنه بملازمته إياه؛ أنه قد عرف حديثَه ، فلو سمعه بواسطة عنه ، ورأى أن هذا ليس من حديث شيخه ؛ فدينه وأمانته يمنعانه من نسبة هذا الحديث إلى شيخه ، وهو يعلم عنه خلاف ذلك .

قال الذهبي في” الميزان ” (1) في ترجمة سليمان الأعمش : ” قلت : وهو يدلِّس ، وربما دلس عن ضعيف ، ولايُدْرَى به ، فمتى قال : “حدثنا ” فلا كلام ، ومتى قال : “عن ” تطرَّق إليه احتمال التدليس ، إلا في شيوخ له أكثر عنهم : كإبراهيم ، وأبي وائل ، وأبي صالح السمان ، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال ” اهـ .

وقال العلامة المعلمي اليماني – رحمه الله – (2) : ” كان ابن جريج يدلس عن غير عطاء ، فأما عن عطاء ؛ فلا ، قال – أي ابن جريج – : إذا قلت : ” قال عطاء ” فأنا سمعته منه ، وإن لم أقل سمعتُ “

قال المعلمي : ” وإنما هذا لأنه كان يرى أنه قد استوعب ما عند عطاء ، فإذا سمع رجلاً يُخبر عن عطاء بمالم يسمعه منه ؛ رآى أنه كذِبٌ ، فلم يستحل أن يحكيه عن عطاء ، وهذا كما قال أبوإسحاق : قال أبوصالح وعبدالرحمن بن هرمز الأعرج : ليس أحد يحدِّث عن أبي هريرة ، إلا علمنا أصادق أم كاذب ، يريدان : أنه إذا حدَّث عن أبي هريرة بمالم يسمعاه منه ؛ عَلِمَا أنه كذِبٌ ؛ لإحاطتهما بحديث أبي هريرة ” اهـ .

قلت : وما قالاه مُقَيَّدٌ بما إذا كان المدلس من أهل النباهة والفهم ، لامطلق المدلس المكثر عن شيخه ، وقد فصَّلْتُ ذلك في كتابي : ” إتحاف النبيل ” (3) والله المستعان .

الحالة الخامسة : إذا كان تلميذه لا يروي عنه إلا ما علم أنه قد سمعه من شيخه، كما جاء في شعبة عن قتادة، حيث كان شعبة يتتبع فاه قتادة،فإن قال : ” حدثنا ” أو نحوه ؛ أخذ عنه ، وإن قال : ” عن ” أو نحوه ؛ تركه ، فكان لايأخذ عنه إلا ما صرح فيه بالسماع ، فإن رواه شعبة بعد ذلك عنه بالعنعنة ؛ فلا يضر (4).

قلت : ولا يلزم من ذلك أن كل إسناد فيه شعبة ، وشيخه فيه مدلِّس ؛ أن تزول علة التدليس لوجود شعبة ، فإن شعبة قال : كفيتكم تدليس ثلاثة ؛ قتادة ، وأبوإسحاق ، والأعمش ، ولم يقل : كفيتكم تدليس المدلسين ، فتنبَّه .

الحالة السادسة : إذا كان حديثه في أحد “الصحيحين” بالعنعنة ، ولم يُعلَّه بذلك أحد الحفاظ(5).







(3) ( ص 515 ) .

(4) (ص 515 ) .

(5) انظر ” النكت ” ( 2 / 624) و ” فتح المغيث ” ( 1 / 215 ) وانظر كلام ابن عبدالبر في” التمهيد ” ( 1 / 17 ) و ” شرح علل الترمذي ” ( 1 / 354 ) .

(1) انظر ” الكفاية ” ( ص 516 – 517 ) و ” التمهيد ” لابن عبدالبر ( 1 / 17 – 18 ) .

وقال الإمام مسلم في ” مقدمة صحيحه ” في ب / الاحتجاج بالحديث المعنعن : ” وإنما تفقُّد من تفقَّد منهم سماع رواة الحديث ممن ( رواه ) عنهم : إذا كان الراوي ممن عُرف بالتدليس في الحديث ، واشْتُهِر به ، فحينئذٍ يبحثون عن سماعه في رواياته ، ويتفقدون ذلك منه ؛ كي تنـزاح عنه علة التدليس ” اهـ ( 1 / 137 ) مع ” شرح النووي ” قال ابن رجب بعد إشارته إلى كلام مسلم : ” وهذا يحتمل أنه يريد كثرة التدليس في حديثه ، ويحتمل أنه يريد ثبوت ذلك عنه وصحته ، فيكون كقول الشافعي ” اهـ ” شرح العلل “

( 1/ 354 ) .

قلت : الاحتمال الثاني خلاف الظاهر من كلام مسلم ، والله أعلم .

وقد قال ابن عبدالبر:” . . . إلا أن يكون الرجل معروفًا بالتدليس ؛ فلا يُقْبل حديثه حتى يقول : ” حدثنا “أو ” سمعت “فهذا مما لا أعلم فيه – أيضًا – خلافًا ” اهـ من ” التمهيد ” ( 1 / 13 ) .

(2) انظر ” جامع التحصيل ” ( ص 111 – 112 ) .

(3) انظر ” الكفاية ” ( ص 515 – 518 ) .

(4) انظر ” المقدمة ” ( ص 99 ) مع ” التقييد ” .

(5) وهذا ظاهر عبارته في ” النزهة “( ص 113 ) لأنه قَيَّد التفصيل بمن ثبت عنه التدليس ، وهذا يقع بمرة واحدة ، إلا أن صنيعه في ” طبقات المدلسين ” يدل على أنه يُمشي عنعنة من وقع منه التدليس نادرًا ، والله أعلم .

(6) انظر ” فتح المغيث “( 1 / 231 ) .

(1) انظر ” الكفاية ” ( ص 518 ) .

(2) ” صحيح ابن حبان ” ( 1 / 161 ) .

(1) ( 2 / 224 ) .

(2)انظر ” التنكيل ” ( 1 / 865 ) .

(3) ( 1 / 330) السؤال ( 178 ) .

(4) انظر ” مقدمة الجرح والتعديل ” ( 1 / 160 ) في الكلام على جهود شعبة ، ب / ما ذُكر من مراجعة شعبة لِنَقَلَةِ الحديث .

(5) انظر ” النكت ” ( 2 / 634 – 636 ) وعمدة من ذهب إلى هذا : إما تحسين الظن بالشيخين ، وإما أنهما وقفا على التصريح بالسماع من جهة أخرى ، وإما تلقي الكتابين بالقبول، وعلى كل حال : فما لم يُنْتقد عليهما أو أحدهما ؛ فقبوله أولى،لكل ما سبق أو بعضه ، وقد قال القطب الحلبي : ” وأكثر العلماء : أن العنعنات التي في “الصحيحين ” مُنَزَّلة منْزلة السماع ” اهـ من ” فتح المغيث ” ( 1 / 218 ) ، وانظر ” إتحاف النبيل ” ( 1 / 97 – 103 ) السؤال ( 14 ) .

للتواصل معنا